استوقفني شاب عرفته منذ أن كان في المدرسة الثانوية لرؤيتي، وعرض بافتخار رسالته الجديدة في ماجستير إدارة الأعمال، وقال: «أعلم أن درجة الماجستير وحدها لا تضمن النجاح؛ فما الشيء الأكثر أهميةً لشخص يريد أن يصبح رائد أعمال في رأيك؟»، فأجبته دون تردّد: القدرة على التواصل.
إن الأفراد الذين يتواصلون بفعالية مع الناس، على جميع المستويات، ومن كلا الجنسين، ومن ثقافات وخلفيات متنوعة، هم المتصدرون اليوم. في الوضع الهرمي ذي الطراز القديم يعدّ التواصل أمراً بسيطاً نسبياً؛ فالمدير في الإدارة العليا يطلب من مرؤوسيه القفز، فيحتاج المرؤوسون فقط إلى أن يسألوا: كم هو علوّها؟. وفي المنشآت الحديثة يتطلب التواصل براعةً أكثر؛ فالمدير ليس ناقلاً للأوامر، بل هو خالق للبيئات الحافزة.
العمال ليسوا رجالاً آليين (روبوتات) تستجيب لمفاتيح أو ناقلات، لكنّ الأفراد المفكّرين يضعون براعتهم في خدمة أهداف الشركة. والشركة المثالية ليست استقراراً ميكانيكياً، بل هي تغيير دينامكي وإبداعي مستمر؛ فالمدير الذي لا يستطيع التواصل لن يكون قادراً على خلق الظروف المؤيدة للحفز، والعبقري الذي لا يستطيع التواصل يعدّ عاجزاً فكرياً، والمنشأة التي لا تستطيع التواصل لن تتغيّر، والمنشأة التي لا تتغيّر تكون ميتةً.
الأخبار الجيدة تفيد بأن كلّ واحد يمكن أن يصبح متواصلاً فعّالاً، والباب للتواصل الفعّال سيكون مفتوحاً لأيّ واحد يستخدم هذه المفاتيح الخمسة الآتية:
1- الرغبة:
الرضّع لديهم رغبة فطرية في التواصل، وتمكّنهم تلك الرغبة من التقاط الكلمات بسرعة، وتوسيع نطاق مفرداتهم باستمرار. ويمكن للنوع نفسه من الرغبة أن يمكّنك من توسيع مخزونك من الكلمات، وتحسين المهارات الخاصة بك لتوظيفها. كانت لدى الخطيب اليوناني ديموسثينيس الرغبة في تحقيق البلاغة بعد أن أطلق صيحات الاستهجان من منصة في أثينا؛ فقد زرع فنّ كتابة الكلام، ثم توجّه إلى شواطئ بحر إيجة وعززّ من قدرات صوته بالصراخ في مهبّ الريح ساعات في وقت واحد. ولتحسين إلقائه تمرّس بالتحدث والحصى في فمه، وللتغلّب على خوفه تدرّب والسيف معلق فوق رأسه، ولتوضيح عرضه درس تقنيات الماستر. اليوم، وبعد مرور أكثر من 2000 سنة، ارتبط اسم ديموسثينيس ترادفياً بالبلاغة الخطابية.
2- افهم العملية:
بدءاً من الأساسيات، يتألف التواصل من رسائل إرسال وتلقٍّ، وتعدّ اللغة الناقل الأساسي للآراء والأفكار؛ فهي تحوّل المفاهيم المجردة إلى كلمات ترمز إلى تلك الأفكار، فتأخذ تلك الكلمات شكل حروف الكلام أو الرموز المكتوبة. فإذا كان العقل يستطيع ترجمة الحروف والرموز سريعاً إلى صور فسيصبح التواصل أكثر حيويةً وذا معنى أكبر؛ فإذا قلتُ: (أريد مقعداً لمكتبي)، فالمستمع لي لديه فكرة مبهمة وعامة فقط عما أريده، وإذا قلت: (أريد مكتباً جوزياً بنياً)، فسيكون لدى المستمع صورة ذهنية أكثر وضوحاً، وكلما كنت خبيراً أكثر في نقل الصور ستكون فعّالاً أكثر في تواصلك.
3- أتقن المهارات الأساسية:
يعتقد بعض الناس أن المطلوب أولاً للتواصل الجيد هو مفردات شاملة، وبعض الناس يعتقدون أنه من المستحيل التواصل جيداً دون استيعاب كمّ كبير من قواعد النحو، وحفظ مفردات القاموس. الكلمات عامل مهم، وكذلك القواعد؛ لأنها تساعد على معرفة أيّ الكلمات والتعبيرات تعدّ قياسيةً، أو أيها غير قياسي عند جموع المثقفين، إلا أن الولاء الأعمى لقواعد النحو يمكن أن يعوق -في الواقع- الاتصال، وفي بعض الأحيان ستبتعد الناس مسافات كبيرة لتجنّب استخدام شخص ما لفظاً (غير قواعدي)، أو (دون المستوى المطلوب)؛ ففي هذه العملية ينسون أهم قاعدة في التواصل، وهي: اجعل أسلوبك واضحاً مفهوماً. على الأرجح، قد تخدمك المفردات التي تستخدمها في خطابك كلّ يوم؛ فأنت تستخدم الكلمات التي تفهمها، وفرصتك هي الكلمات التي يفهمها أصدقاؤك وزملاؤك والموظفون؛ فإذا حاولت أن تستخدم كلمات أبعد من نطاق مفردات الناس الذين تتواصل معهم ففي هذه الحالة أنت لا تتواصل، بل تتباهى أمامهم. اقرأ رواية Address Gettysburgh (الموعظة على الجبل)، أو اقرأ شعراً لروبرت فروست؛ فوسائل التواصل التي تبقى هي المكتوبة بشكل عادي (اللغة البسيطة).
4- الممارسة:
أتذكّر هذه القصة التي كانت ملهمتي: شاب موسيقار استمع بذهول إلى عازف بيانو وضع خبراته، وجميع مهاراته، في تشكيلة معقّدة من المؤلفات العظيمة، وقال: «إنه شيء عظيم أن تضع كلّ هذه المهارات خلفك»، وتكون قادراً على الجلوس والعزف مثل ذلك العزف. قال الموسيقار الماستر: «ما زلتُ أمارس العزف ثماني ساعات كل يوم». سأل الشاب المنبهر: «لكن لماذا؟. أنت بالفعل جيد جداً»، فأجاب الرجل المسنّ: «أريد أن أصبح بارعاً».
أنا أدرّس مهارات التواصل لآلاف الناس كلّ سنة، من خلال الندوات، والأقراص (سي دي) المدمجة، والفيديو، والكتب، ومعظم الناس الذين وصلت إليهم مقتنعون بأن يصبحوا جيدين، والقليل منهم يرغبون في استثمار الجهود الإضافية ليصبحوا بارعين (رائعين). ولكي تصبح رائعاً يجب أن تتدرّب، وتؤمن بأنه ليس كافياً أن تعرف كم تستغرق وقتاً للتواصل مع الناس، والتأثير في سلوكهم، وخلق بيئة حافزة لهم، ومساعدتهم على ربطهم برسائلك. يجب أن تصبح طرائق التواصل جزءاً من نشاطك اليومي؛ فبذلك يصبحون طبيعيين معك، مثل السباحة بالنسبة إلى البط. وكلما تدرّبت على هذه الطرائق أكثر وجدت الأمر سهلاً في التواصل مع الناس، سواء أكنت تتعامل مع أفراد (واحد إلى واحد)، أم مع مجموعة مؤلفة من آلاف الأفراد.
5- الصبر:
لا أحد يصبح متواصلاً راقياً ومحترفاً من أول محاولة؛ فالأمر يحتاج إلى الصبر. منذ عدة سنوات نشر وليم وايت -المدرب والصحافي الإنجليزي- كتابات أولية للكاتب إيرنست هيمنجواي، الذي كان مراسلاً لصحيفة (تورونتو)، وتكوّن هذا الكتاب من تشكيلة من المقالات المكتوبة في الحقبة بين عامي 1920 و1924م، وكانت الكتابة جيدةً، لكن ليست رائعة؛ فهي تعطي انطباعاً باهتاً عن الحكواتي البارع الذي يودّ الانبثاق من رواية (العجوز والبحر)، لكن ليست هي هيمنجواي الأسطورة الأدبية.
ماذا ينقصه؟ التجربة. كانت العبقرية موجودةً طوال هذا الوقت، لكن تحتاج إلى من يحتويها. يمكن لرمال الزمان أن تتأكّل أو تُصقل؛ فهي تعتمد على ما إذا كنت توظّف وقتك لهدف، أو تجعله يضيع سدًى. المهارات المكتسبة تتطلب من المتواصل أن يكون لديه انتباه مستمر، وحرص، وحب للحرفة؛ فالمراسل الجديد لا يحوّل نفسه إلى روائي ناجح من خلال فلاشة واحدة عمياء للمعرفة الأدبية، ومثل أغلب الناس فهو يتقدم من (جيد) إلى (رائع) يوماً بعد يوم من خلال مئات التحسينات الصغيرة.
يمكنك أن تستخدم هذه المفاتيح الخمسة الخاصة بالتواصل الفعّال في عدة أوضاع، وضمن ظروف متنوعة. يمكنك أن تكون موهوباً في تشجيع قوة العمل الخاصة بك، وفي الصفقات التجارية التفاوضية، وفي تسويق المنتجات الخاصة بك، وفي بناء صورة إيجابية عن الشركة. كلّ هذه الأمور تحتاج إلى مهارات مهمة في التواصل، لكن تذكّر دائماً: مهما كانت مهمة التواصل التي تقع على عاتقك فهدفك هو التواصل مع الناس. ولكي تكون متواصلاً جيداً يجب أن تراعي مبادئ التواصل العشرة الآتية مع الناس: