توثيق العلاقة بين الواعظ والموعوظ

الكاتب: المدير -
توثيق العلاقة بين الواعظ والموعوظ
"توثيق العلاقة بين الواعظ والموعوظ




إنَّ الموعظة بالحسنى في الدعوة إلى الله تعالى تؤدي إلى توثيق العلاقة بين الواعظ والموعوظ؛ لأن النفوس البشرية يعتريها ما يعتريها من النقص، والزلل، ولا يتأتى التأثير على الموعوظ إلا من خلال الأسلوب المؤثر فيه.

فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة حسنة في توجيهه لمن أخطأ بالأسلوب الحسن، وعدم تجريحه، مما يحافظ على مشاعره، ويؤدي إلى كسبه واستجابته لتوجيهات الواعظ.

 

عن معاوية بن الحكم السّلَمِي - رضي الله عنه - قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عَطَسَ رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمِّيَاهُ، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكنى سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني[1]، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن[2].

 

فالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يُعنف معاويةَ - رضي الله عنه -، ولم يقل له: لِمَ تكلَّمت؟ وإنَّما عامله بالحِلم، والرِّفق، والأسلوب الحسن؛ ليؤكِّدَ صلَّى الله عليه وسلَّم على حُسن خُلُقه مع الخَلق، ولِيُعَلِّمَنا مِن بعده كيف يعالج المرء مثل هذه الأخطاء.

عندما تكون هناك علاقة وثيقة قوية بين العالم والداعية، ينعكس ذلك على أفراد المجتمع فتزداد مساحة الاحترام، والتقدير في قلوب الناس، ويترجم هذا إلى تقبل الوعظ وسرعة الاستجابة.

 

ويتحقق من هذه العلاقة الوثيقة ثمرات كثيرة تنعكس على أفراد المجتمع، منها:

أ - تتكامل معاني الإخوة الإسلامية:

الموعظة تعبر عن التكامل الأخوي في المجتمع المسلم بين العالم والداعية، وبين الجاهل والمتعلم، وبين الكبير والصغير، فهي مظهر من مظاهر المجتمع المسلم.

وعندما نقارن بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، تبرز الموعظة معلماً بارزاً من معالم المجتمع الإسلامي، فتلقى المجتمعات الأخرى غير الإسلامية مجتمعات يغلب عليها الأنانية، لا أحد يعظ أحداً، ولا أحد يصلح خطأ الآخر؛ لأن كل شخصٌ حرٌ في نفسه، ولهذا استشرى الفساد وعمَّ في مجتمعاتهم. أما المجتمع الإسلامي فمن أهم ميزاته وبروزه وثباته واستمراريته: القيام بواجب الموعظة، التي بها يحصل التكامل لمعاني الأخوة الإسلامية، يقول الله تعالى: ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [التوبة: 71] [3].

يذكر الله تعالى في هذه الآية وصف المؤمنين، بأنهم موصوفون بصفات الخير، وأعمال البر، فهم يتناصرون ويتعاضدون.

 

يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ?، أي إخاؤهم في الله، يتحابون بجلال الله، والوَلاَية لله[4].

ويقول الله تعالى: ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الحجرات: 10] [5].

وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُ بعضُهُ بعضاً وشَبَّكَ بين أصَابِعِهِ[6].

لقد أمر الله تعالى ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وبما يحصل به التآلف والتوادد، والتواصل بينهم، كل هذا تأييد لحقوق بعضهم على بعض.

 

فإذا كان المؤمنون إخوة أمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها، ونهوا عما يوجب تنافر القلوب واختلافها، وأيضاً فإنَّ الأخ من شأنه أن يوصل لأخيه النفع ويكف عنه الضرر، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال قيام الدعاة بالموعظة الحسنة لمن حصل منه زلل وخطأ سواء أكان عالماً أم متعلماً، رجلاً أو امرأةً، فيكونون بذلك أخوة متحابين، وأولياء مجتمعين، لا ينزع أحدهم يده من يد أخيه، أو يعرض عنه، أو ينأى بجانبه؛ ليعيش وحده دون إخوانه، متمثلة فيهم معاني الأخوة الإسلامية، متعاونين فيما بينهم على البر والتقوى.

 

ب - الحفاظ على وحدة الأمة وجمع الكلمة:

إنَّ تقبل العلماء لمواعظ الدعاة، ينعكس إيجاباً على أفراد المجتمع، بأن تجتمع الكلمة، وتتوحد الأمة، فهو دليل على قوة المجتمع، وتلاحم أفراده.

يقول الله تعالى: ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? [آل عمران: 103] [7].

يقول ثابت المزني- رحمه الله تعالى-: سمعت عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - يخطب وهو يقول: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما حبل الله الذي أمر به[8].

ويقول الإمام الجصاص - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ? هو: أمر بالإجتماع، ونهي عن الفرقة، وأكده بقوله تعالى ? وَلَا تَفَرَّقُوا ?، معناه: التفرق عن دين الله الذي أمروا جميعاً بلزومه والاجتماع عليه[9].

 

وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالجابية[10]، فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، فقال: (أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى يَحْلِفَ الرجلُ ولا يُستحْلَفُ، و يشهد الشاهدُ ولا يُستشهَدُ، ألا لا يَخْلُونَّ رجلٌ بإمرأةٍ؛ إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد،، من أراد بحبوحة الجنة؛ فليلزم الجماعة، من سرته حسنته، وساءته سيئته؛ فذلكم المؤمن) [11].

فتقبل العلماء لمن يعظهم، تجتمع الكلمة، ويتوحد الصف، ويصلح دينهم، وتصلح دنياهم، ويكتسب مجتمعهم قوة ونماء، ويتحصل لهم الأمن، والأمان، والطمأنينة، التي هي من أهم مقومات الحياة.

 

وأما في حال الاختلاف، والتنازع، تحصل الفرقة، وتنقطع الروابط، وتذهب هيبة المجتمع، ويكتب له بالفشل، ويصير كل واحد يسعى في شهوة نفسه.

يقول الله تعالى: ? وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ? [الأنفال: 46] [12].

فاختلاف القلوب هو: أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية. لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة[13].

للمواعظ شأن عظيم في حياة الفرد والأمة على حد سواء، فهي أساس بناء الأمة، وهي السياج الواقي بإذن الله تعالى من الفرقة والتنازع بين المسلمين.

ولو قام أفراد المسلمين، وجماعتهم، بواجب الوعظ، لنالوا سعادة الدنيا، والآخرة، ولعاشوا إخوة متحابين، تجمعهم عقيدة واحدة، وراية واحدة، ومنهج واحد.




[1] ( ما كهرني )، معناه: ما انتهرني ولا أغلظ لي، وقيل: الكهر: استقبالك الإنسان بالعبوس. انظر شرح أبي داود للعيني، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى العينى، تحقيق: أبو المنذر خالد بن إبراهيم المصري، 4 / 179، ط1، 1420ه / 1999م، مكتبة الرشد، الرياض.

[2] رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، 1 / 381، رقم الحديث ( 537 ).

[3] سورة التوبة، آية: 71.

[4] الدر المنثور، أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال السيوطي الشافعي، 4 / 234، ط 1993م، دار الفكر، بيروت.

[5] سورة الحجرات، آية: 10.

[6] رواه البخاري، كتاب المظالم، باب نصر المظلوم، 2 / 863، رقم الحديث ( 2314 ).

[7] سورة آل عمران، آية: 103.

[8] تفسير القرآن، ابن أبي حاتم الرازي، 3 / 723.

[9] أحكام القرآن، أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، 2 / 313-314، ط 1405هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

[10] الجابيـة: قرية معروفة بجنب نوى على ثلاثة أميال منها من جانب الشمال وإلى هذه القرية ينسب باب الجابية أحد أبواب دمشق، وسميت الجابية تشبيهاً بما يجبى فيه الماء، فإن الجابية اسم للحوض، فسميت جابية لكثرة مياهها. انظر تهذيب الأسماء واللغات، محي الدين بن شرف النووي، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات، 3 / 56، ط1، 1996م، دار الفكر، بيروت.

[11] الجامع الصحيح سنن الترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في لزوم الجماعة، 4 / 465، رقم الحديث ( 2165 )، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الألباني صحيح، انظر صحيح الترمذي رقم الحديث ( 2165 ).

[12] سورة الأنفال، آية: 46.

[13] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشنقيطي، 3 / 53.


"
شارك المقالة:
33 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook