توجيه الدعوة إلى أهل الأرض في أشخاص ملوكهم

الكاتب: المدير -
توجيه الدعوة إلى أهل الأرض في أشخاص ملوكهم
"توجيه الدعوة إلى أهل الأرض
في أشخاص ملوكهم




إذا رجعنا بالمسلمين إلى المحرم من عام سنة سبع من الهجرة، وإلى المحرم عام سنة 1361هـ، وقارنا بين العامين، أتضح لنا البون الشاسع بين مجهود المصلحين الداعين إلى الحق والعدل والبر والإحسان ومعرفة الناس بربهم، وبين مجهود يبذل لإشباع مطامع فريق من أهل الأرض على حساب بقية أهلها باسم المدينة أو الحرية أو الديموقراطية، مما آل بالبشر إلى إحلال الظلم محل العدل، والباطل محل الحق، وإحلال الشر والفساد محل البر والإصلاح.

 

إذا قارنَّا بين هذين المجهودين السابقين اتضح لنا الفرق بين الدين الإسلامي وأهله المستمسكين به المستبصرين بهداه وبين ما عليه الناس اليوم.

 

وافى المحرم سنة سبع من الهجرة بعد عودته صلى الله عليه وسلم من عمرة القضية، فإذا ملوك الأرض أمام أشعة من هذا السراج المنير، وإذا صائح بدعوة الحق يناديهم أن سيروا في نور هذه الأشعة ولا تحيدوا عن الطريق التي انتشر فيها ذلك النور تلك الأشعة التي يبعثها هذه السراج المنير هي كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوك الأرض وأممها تناديهم أن ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين.

 

رأى صلى الله عليه وسلم بعد عقد الصلح بينه وبين أهل مكة وإحلال الطمأنينة والسلام والوحدة والوئام محل الخوف والفرقة والاختلاف والخصام – أن يبلغ دعوة الحق التي أرسله الله بها مبشراً ونذيراً، والتي تكفل للبشر سعادة دائمة في حياتهم المؤقتة وحياتهم الأبدية؛ فبعث بكتابه الخالد إلى المقوس عظيم القبط بالإسكندرية، وإلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام، وإلى المنذر بن ساري عظيم البحرين، وإلى هرقل عظيم الروم بالقسطنطينية، وإلى كسرى عظيم الفرس بالمدائن وراء سواد العراق.

 

ولما كان الكتاب الذي بعث به صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم أطولها وأوفاها بالغرض المقصود من تبليغ الدعوة، وقد اكتنفته ظروف وأمور لم تكتنف بقية الكتب، فقد رأينا أن نجعله موضوع حديثنا بمناسبة حلول المحرم سنة 1361هـ تاركين الكلام في التاريخ الهجري لمن شاء.

 

وإليك نص الكتاب المذكور من رواية الشيخين البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، مع بيان الأحكام التي اشتمل عليها حسبما ييسر الله تعالى:-

بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام – ولمسلم: بداعية الإسلام - أسلم تسلم يؤتك الله أجركم مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

 

وكان عظيم الروم من أعلم علماء أهل الكتاب بما أنزل الله على عيسى، وكان في وقت إرسال الكتاب إليه يتفقد شؤون ملكه ببلاد الشام، فوصل كتابه مع كتاب ملك الشام في وقت واحد؛ فلما وصله بعث يبحث عن أناس من أهل مكة؛ وصادف أن أبا سفيان وجماعة من أهلها كانوا موجودين بالشام في ذلك الحين، فأخذهم رسل ملك الروم إليه؛ ثم أعطى ملك الروم الكتاب إلى ترجمانه وأوقف أبا سفيان أمامه وأوقف الذين كانوا معه وراء أبى سفيان وقال لهم إني سائله عن أمور فإن كذبني فكذبوه. وكان هرقل قد أصابه من الهم والكرب والتفكير في عاقبة ملكه وماذا يكون لو اتبع هذا النبي الذي لا يشك في نبوته ما جعله في حيرة واضطراب. وقد استدعى من القسطنطينية أعلم رجل يستشيره في الأمر بعد أن درس الكتاب بينه وبين نفسه، فوافق على كل ما استقر عليه رأي هرقل. وكان ذا دراية بعلم النجوم؛ وكان يعلم أنه إذا ظهر في السماء نجم كذا فإنه يظهر النبي الموعود به على لسان موسى وعيسى، فطلع ذلك النجم بعد وصول الكتاب إليه.

 

أسئلة هرقل إلى أبي سفيان وجوابه عنها:

قال هرقل: كيف نسبه فيكم؟ فقال: هو فينا ذو نسب، قال: هل كان في آبائه من ملك؟ فقال أبو سفيان: لا، قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ قال أبو سفيان: لا؛ قال: هل علمتم عليه كذبا؟ قال: أبو سفيان: لا؛ قال: يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، قال: هل يرتد أحد عن دينه سخطة له؟ قال: لا، قال: هل حاربتموه؟ قال: نعم؛ قال: كيف كانت الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال ينال منا وننال منه؛ قال: بم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف وصلة الرحم، قال: هل يغدر، قال: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.

 

فقال هرقل: سألتك كيف نسبه فيكم فقلت هو فينا ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في أنسابها. وسألتك هل كان في آبائه من ملك فذكرت أن لا، ولو كان في آبائه ملك لقلنا رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله فذكرت أن لا، ولو قال أحد هذا القول قبله لقلنا رجل يتأسى بغيره. وسألتك هل علمتم عليه كذبا فذكرت أن لا، وما كان له أن يدع الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك يتعبه أشراف الناس أم ضعفاؤهم فذكرت أن أتباعه ضعفاؤهم، وكذلك أتباع الرسل من قبله. وسألتك هي يرتد أحد عن دينه سخطة له فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. وسألتك عن حربه معكم فذكرت أنها سجال، وكذلك الرسل. وسألتك عما يأمركم به فذكرت أنه يأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف وصلة الرحم، وبمثل ذلك تأمر الرسل. وسألتك أيغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.

 

قال أبو سفيان في سياق القصة: فلما أن سمع ما أجبته به وأعاده وزاده عليه ما زاد قال: إن لنبي حقاً ولو وصلت إليه لغسلت عن قدميه. فلما خرت من عنده قلت: لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشه حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر علينا. قال البخاري رحمه الله تعالى بعد سوقه ما ذكر: هذا آخر خبر هرقل.

 

هذا ما صح من خبره عند الإمام البخاري رحمه الله تعالى. ثم إن ملك الروم جمع أكابر دولته وعلماءها في قصر وغلق أبوابه وصعد إليه وأطل من إحدى شرفاته وقال لهم: إني جمعتكم لأطلعكم على هذا الكتاب الذي وصلني من هذا الرجل الذي يزعم أنه النبي العربي، وإني أنصح لكم أنن تتبعوه؛ فحاصوا حيصة حُمر الوحش. فلما رأى أنهم قد نفروا نادى فيهم أن انصتوا، فسكنوا، فقال لهم: إنما قلتك لكم ما قلت لأمتحنكم وأعلم شدة تمسككم بدينكم وإني معكم على ما أنتم عليه؛ فانصرفوا بعد ذلك وهم عنه راضون ولعمله شاكرون. ثم حدثنا التاريخ أن هرقل ثبت على كفره وأنه حارب النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: سنة سبع من الهجرة في غزوة مؤتة من أرض الشام وإن لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا هرقل، وفيها قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالبة وعبدالله بن رواحة وهم الذين عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عند إرسال الجيش بقيادته على التعاقب فقال إذا مات زيد فالأمير جعفر، فإذا مات فالأمير عبدالله بن رواحه. وبعد موت الثلاثة قاد الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه. وكان الجيش أربعة آلاف في مقابلة عدد يبلغ مائة وخمسين ألفاً تقريباً، فأوهم العدو أن المدد جاءه بعد موت الثلاثة، وبذلك نجى الجيش من الموت؛ فلما رجع إلى المدينة قال بعض الناس قد فرّ خالد، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بل انه الكرار وإنه سيف من سيوف الله، فلقب بذلك من يومئذ. والمرة الثانية في غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وهي آخر غزوة له صلى الله عليه وسلم خرج فيها ولم يقع فيها قتال.

 

ثم حارب هرقل بعد ذلك أبوبكر وعمر ورضي الله عنهما، وفي خلافة عمر ذهب ملكه بعد وقائع مشهورة بينه جيشه وبين المسلمين وقد فر إلى القسطنطينية عاصمة ملكه وقال عند فراره: السلام عليك يا سوريا سلام من لا يراك بعد. والذي عليه المحققون من علماء المسلمين أنه لم يؤمن بل يكاد يكون إجماع منهم وموعدنا بشرح كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه الأعداد التالية إن شاء الله.

 

مجلة الهدي النبوي: المجلد السادس - العدد (1-2)، محرم سنة 1361هـ


"
شارك المقالة:
23 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook