جاء أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين، وقد خصّ بالذكر البرّ عند كبرهما، لأنّه الوقت الذي يشعر فيه الوالدان بالضعف، وقلّة الحيلة، ويحتاجان من يهتم بأمرهما، ويعتني بهما، ولقد فصّل الله سبحانه بعض الأوامر التي يجب على المسلم أن يحذر منها، ويأخذها بعين اعتباره مع والديه، فقال: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، وذلك لأنّه قد يصاحب مكوث الوالدين مدةً طويلةً عند ابنهما الملل والضجر، ويبدأ الاستثقال من وجودهما، وإظهار ذلك بالغضب، أو الشتم، وغير ذلك، فلذلك جاء الأمر من الله سبحانه ألّا يُصدر الإنسان أيّ فعلٍ يدلّ على ضجره، وملله منهما، ولو كان بلفظ التأفف منهما، أو نهرهما على شيءٍ بدا منهما، وفي ذلك تمام البرّ، ولقد زاد الله تعالى بعد ذلك الأمر بالتواضع لهما، والدعاء لهما بالرحمة مستذكراً فضلهما السابق عليه وهو صغيرٌ، لا حيلة له ولا قوة، فقال الله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
من كرم الله تعالى أن فتح الباب أمام الناس أن يبرّوا آبائهم حتى بعد وفاتهم، وذلك لأهمية وعظيم شأن البرّ عند الله سبحانه، ولقد جاءت الوصيّة جليةً في كتابه الكريم في برّ الوالدين، إذ قال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ)،ولقد سُئل النبيّ -عليه السلام- عن برّ الوالدين بعد الوفاة، هل لا يزال إليه سبيل؟ فأجاب بالإيجاب، وقال: (الصَّلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما، وصلةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلَّا بهما، وإكرامُ صديقِهما)،فكلّ ما ورد في الحديث عن النبيّ -عليه السلام- يكون وجهاً من أوجه برّ الوالدين بعد وفاتهما، وقد سأل صحابيٌّ النبيّ في جواز أن يتصدّق عن والدته المتوفية، فوافق له على ذلك، وقد زاد العلماء جواز أداء الحجّ والعمرة عمّن تُوفي من الوالدين، وممّا ذُكر صريحاً عن النبيّ -عليه السلام- من أعمال البرّ التي لا تزال تزيد من حسناته بعد وفاته، ولدٌ صالحٌ يدعو له، ففي ذلك تنبيهٌ على عظيم فضل الدعاء للوالدين بعد وفاتهما، وحتى إنّ فضل الدعاء يكاد يزيد على فضل الصدقة، أو الحجّ، أوالعمرة إن كانا نافلتين.
كثيرةٌ هي أشكال البرّ التي يستطيع أن يقدّمه الابن لوالديه وهم أحياءً، فيما يأتي ذكرٌ لبعض أشكال البرّ للوالدين في حياتهما:
يجني المرء ببره لوالديه الكثير من الأجور والفضائل في الدنيا والآخرة، فيما يأتي ذكرٌ لجانبٍ من ثمرات برّ الوالدين في الدارين: