جهل العمل

الكاتب: المدير -
جهل العمل
"جهل العمل




مقدمة:

المشهور عند أكثر الناس أن الجهل حينما يطلق يراد به عدم العلم، مع التفريق بين الجهل البسيط، وهو أن يعلم الإنسان أنه لا يعلم ذلك الشيء، والجهل المركب وهو أن يعلم الشيء على غير حقيقته، معتقدًا أنه يعلمه على حقيقته وصورته.

 

وهذا هو المعنى المشهور للجهل:

يقول ابن فارس رحمه الله تعالى: (جهل) الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خِلاف العِلْم، والآخر الخِفَّة وخِلاف الطُّمَأْنِينة.

 

فالأوَّل الجَهْل نقيض العِلْم...[1].




وفي اللسان لابن منظور رحمه الله تعالى: (جهل): الجَهْل نقيض العِلْم وقد جَهِله فلان جَهْلًا وجَهَالة، وجهِلَ عليه وتَجَاهل: أَظهر الجَهْل... تَجَاهَل أَرَى من نفسه الجَهْل وليس به، واسْتَجْهَله: عَدَّه جاهِلًا واسْتَخَفَّه أَيضًا، والتجهيل أَن تنسبه إِلى الجَهْل[2].




لكن هناك نوع من الجهل قلَّ مَن يعرفه أو بالأحرى قل من يعتقد أنه جهل.

 

إنه عدم العمل بالعلم، فإذا كان عدم العلم جهلًا وهو المشهور كما أسلفت، فكذلك عدم العمل بالعلم يعد جهلًا، إذًا فالجهل جهلان: جهل علم وجهل عمل.

 

وهذا كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارجه: فكلاهما جهل لغة وعرفًا وشرعًا وحقيقة[3].

 

يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى في مفرداته: جهل: الجهل على ثلاثة أضرب: الأول: وهو خلو النفس من العلم، هذا هو الأصل... والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه. والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل[4].

 

فالأول والثاني الجهل فيهما نقيض العلم، فالأول جهل بسيط والثاني مركب، كما سبقت الإشارة إليه.

 

وأما الثالث فهو نقيض العمل بالعلم، فمن علم الحق وعمل بخلافه أو لم يعمل به مطلقًا، فهو جاهل.

 

يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: وسُمي عدم مراعاة العلم جهلا؛ إما لأنه لم ينتفع به، فنزل منزلة الجاهل، وإما لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله[5].

 

وستكون مناقشة هذا الموضوع الهام عبر خمس نقاط، وهي كالتالي:

1- من أدلة القرآن الكريم على أن عدم العمل بالعلم جهل.

2- إجماع الصحابة رضوان الله عنهم.

3- اليهود أكثر الناس جهلًا جهلَ عملٍ.

4- الاهتداء إلى صراط الله منجاة من جهل العمل.

5- التحذير من عدم العمل بالعلم.

 

1- من أدلة القرآن الكريم على أن عدم العمل بالعلم جهل:

وهذه بعض الأدلة على أن عدم العمل بالعلم يعد جهلًا:

1- يقول جل في علاه حكاية عن يوسف عليه السلام: ? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? [يوسف: 33، 34].




فقوله عليه السلام: وأكن من الجاهلين، ليس المراد منه جهل العلم، فقد كان عليه السلام نبيًّا يوحى إليه وأتاه الله تعالى علم التأويل، لكن المراد جهل العمل؛ أي: إن لم تحفظني وتكلأني وتصرف عني مكرهنَّ وكيدهنَّ وإغواءهنَّ، فسأقع في المخالفة، مخالفة ما أعلم من تحريم الفاحشة.

 

فالتجأ عليه السلام إلى ربه التجاء الضعيف العاجز إلى الركن الشديد، فقد علم عليه السلام أنه إنسان ضعيف لا حول له ولا قوة إلا بالله جل في علاه وتعالى في سماه؛ يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: ? وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ?؛ أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، ? وَأَكُنْ ? إن صبوت إليهنَّ، ? مِنَ الْجَاهِلِينَ ? فإن هذا جهل؛ لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟! فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة[6].

 

وتأمل قوله عليه السلام: أصب إليهنَّ، لعلمه أن ذلك العمل ليس من شأن العقلاء أولي الألباب وأصحاب النهى، بل هو من شأن السفهاء والصبيان.

 

يقول الراغب في مفرداته: صبا فلان يصبو صبوًا وصبوة: إذا نزع واشتاق، وفعَل فِعل الصِّبيان[7].




فإذا علم الإنسان الحق وخالفه، فقد نزل منزلة الصبيان الذين لا عقل لهم ولا تمييز.

 

2- يقول جل في علاه: ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ? [البقرة: 67].




أمر كليم الرحمن موسى بن عمران عليه السلام قومه بذبح بقرة[8] ليعرفوا القاتل، فظنوا أنه يستهزئ بهم (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)، فماذا كان جوابه عليه السلام: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فاستعاذ بالله سبحانه من أن يكون في زمرة الجاهلين، وليس مقصوده طبعًا عدم العالمين، فقد كان عليه السلام من أولي العزم، بل قد خصَّه الله بكلامه واصطفاه دون غيره؛ كما قال تعالى: ? إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ? [الأعراف: 144].

 

فكان مقصوده بالجاهلين العاملين بخلاف ما يعلمون، فالاستهزاء محرَّم، ومن علم ذلك وخالفه واستهزأ بغيره، فهو جاهل جهل عمل.

 

وكيف يليق برسول كريم مِن أُولي العزم أن يقع في هذا الخُلق الذميم، فيستهزأ بغيره ويحتقره ويزدريه، فهذا يُنَزَّه عنه أيُّ عاقل، فكيف إذا كان رسولًا مكلمًا!

 

يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: والهزؤ: اللعب والسخرية، كما قال الراجز:

قد هزئت مني أم طيسلة
قالت أراه معدما لا شيء له



يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت.

 

ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله - فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي - هزؤ أو لعب... [9].

 

يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: فقالوا: ? أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ?، فقال نبي الله: ? أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ?، فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه، وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل، استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه، فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه، والرحمة لعباده[10].




3- يقول تعالى: ? إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ? [النساء: 17]، فعمل السوء ومعصية الله تعالى مع علم بذلك جهالة، فمن عصى الله وهو يعلم بالمخالفة والتحريم، فهذا قد حصل له العلم، لكنه بعدم عمله بما علم أو بمخالفته لما علم يعد جاهلًا وعمله جهالة؛ يقول الإمام أبو حيان رحمه الله تعالى: وموضع بجهالة حال، أي: جاهلين ذوي سفه وقلة تحصيل، إذ ارتكاب السوء لا يكون إلا عن غلبة الهوى للعقل، والعقل يدعو إلى الطاعة، والهوى والشهوة يدعوان إلى المخالفة، فكل عاص جاهل بهذا التفسير[11].




روى ابن أبي حاتم بسنده عن مجاهد: للذين يعملون السوء بجهالة قال: من عمل سوءًا خطأً أو إثمًا أو عمدًا، فهو جاهل حتى نزع منه[12].




وقال ابن زيد في قول الله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، قال: الجهالة: كل امرئ عمل شيئًا من معاصي الله، فهو جاهل أبدًا حتى ينزع عنها[13].




4– يقول جل ذكره وتقدست أسماؤه: ? ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ? [النحل: 119]: وهذه الآية قريبة من التي قبلها، وقد تعددت أقوال المفسرين في تأويل الجهالة، ومن تلك الأقوال ما ندندن حوله في هذا الموضوع، وهو إتيان المعصية مع العلم بأنها معصية واقتحام الحرام، مع العلم بأنه كذلك، والوقوع في المخالفة مع العلم بأنها مخالفة، وكل هذا يجمعه جهل العمل، فعدم العمل بالعلم جهل؛ يقول الإمام الرازي رحمه الله تعالى: قال المفسرون: كل من عصى الله سُمي جاهلًا، وسمي فعله جهالة... وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل: يا جاهل لم فعلت كذا وكذا، والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب، لما أقدم على المعصية، فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له، فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلًا، وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الإنسان مع العلم بكونها معصية أو مع الجهل بذلك.

 

والوجه الثاني: في تفسير الجهالة: أن يأتي الإنسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلٍا بقدر عقابه، وقد علمنا أن الإنسان إذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات، فإنه يصح أن يقال على سبيل المجاز: إنه جاهل بفعله.

 

والوجه الثالث: أن يكون المراد منه أن يأتي الإنسان بالمعصية، مع أنه لا يعلم كونه معصية، لكن بشرط أن يكون متمكنًا من العلم بكونه معصية، فإنه على هذا التقدير يستحق العقاب...[14].




5- يقول تعالى: ? هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ? [يوسف: 89]:

(جاهلون) ليس المراد أنهم كانوا غير عالمين بفعلهم، بل كانوا على وعي بما أقبلوا عليه من إلقاء أخيهم يوسف عليه السلام في الجب، ولكن المراد جهل عمل، فهم كانوا عالمين بأن ذلك الفعل ظلم، لكنهم عملوا بخلاف ما علموا، فكانوا بهذا الاعتبار جاهلين.

 

فقوله: إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ حال؛ أي: إنكم فعلتم ما فعلتم، والحال أنكم جاهلون مخالفون للحق الذي علمتم مِن تحريم الظلم عمومًا، فكيف إذا كان المظلوم أخاكم الصغير الذي يجب أن يكون محط عناية ورعاية منكم بدلًا من التخطيط للكيد به والتخلص منه؛ يقول العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى: ? إذ أنتم جاهلون ?، نفى عنهم العلم وأثبت صفة الجهل؛ لأنهم لم يعلموا بما يقتضيه العلم[15].




ويقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى: (كل ذنب عمله العبد وإن كان عالِمًا، فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه، فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليه السلام لإخوته: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون)، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى...)[16].




وهذا أحد التأويلات في الآية، وهناك أقوال أخرى في تفسيرها، منها ما ذكره الخازن رحمه الله تعالى: هذا يجري مجرى العذر لهم، يعني أنكم أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر حال كونكم جاهلين، وهو وقت الصبا وحالة الجهل، وقيل: جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف[17].




2- إجماع الصحابة رضوان الله عنهم:

ومن الأدلة كذلك على ما يمكن أن نصطلح عليه جهل العمل إجماع خير القرون وأفضل جيل بعد الأنبياء والمرسلين، إنهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، كما حكى غير واحد من السلف، (فعن أبي العالية: أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة، وقال عبدالرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة، عمدًا كان أو غيره)[18].

 

وقال حَبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما: من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء.

 

3- اليهود أكثر الناس جهلًا جهل عمل:

مما تضمنته أعظمُ سورة في القرآن الكريم ذكر أصناف الناس: اليهود والنصارى والمنعم عليهم أهل الصراط المستقيم؛ قال تعالى: ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? [الفاتحة: 6، 7].

 

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال[19].




وسببُ غضب الله تعالى على اليهود إخوان القردة والخنازير - أنهم علموا الحق فعملوا بخلافه، فضربوا أقبح الأمثلة في جهل العمل، فهم على يقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الحسد منعهم من الاستجابة والإيمان؛ كما قال تعالى: ? بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ? [البقرة: 90].

 

وقال تعالى: ? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? [البقرة: 146].

 

يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: يُخبر تعالى: أن أهل الكتاب قد تقرَّر عندهم، وعرفوا أن محمدًا رسول الله، وأن ما جاء به، حق وصدق، وتيقَّنوا ذلك، كما تيقنوا أبناؤهم بحيث لا يشتبهون عليهم بغيرهم، فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون، ولكن فريقًا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به، كتموا هذه الشهادة مع تيقُّنها وهم يعلمون[20].




فمن أعظم صفات اليهود قبَّحهم الله تعالى مخالفةُ ما عندهم من العلم، فهم قد أوتوا علمًا، لكنهم خالفوا وعاندوا وبخلاف ما علِموا عملوا؛ كما قال تعالى في وصفهم: ? مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? [الجمعة: 5].

 

ومن أعظم ما حملوا من التوراة الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به، لكنهم آثروا اتباع الهوى والكفر به صلى الله عليه وسلم، مع علمهم ويقينهم بأنه رسول الله حقًّا، وبأنهم على الباطل، فكما أن الحمار لا ينتفع بما فوق ظهره من الكتب والأسفار، فكذلك هؤلاء اليهود لم ينتفعوا بما أوتوا من التوراة، ولم يحصدوا إلا الخزي والندامة.

 

وللأسف، الكثير من المسلمين يشبهون اليهود في هذه الصفة الذميمة، فيعملون بخلاف ما يعلمون.

 

وقد صح عن سفيان ابن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: من فسد من عبادنا ففيه شبهٌ من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شَبهٌ من اليهود؛ لأن النصارى عبدوا بغير علم واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه[21].




يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: كان السلف يقولون: مَن فسد من علمائنا ففيه شبهٌ من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وهذا كما قالوا: فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله... وتلبيس الحق بالباطل، فهذا شبهه باليهود ظاهر[22].




4- الاهتداء إلى صراط الله منجاة من جهل العمل:

إذا كان اليهود عملوا بخلاف ما علموا ضاربين أقبح الأمثلة على ما يُمكن أن نصطلح عليه (جهل العمل)، فناسبهم وصف المغضوب عليهم، فإن النصارى على النقيض من ذلك لم يعلموا، فعملوا بغير علم، فناسبهم وصف الضلال.

 

ومن رحمته تعالى بهذه الأمة أن أرشدها إلى سؤاله سبحانه السلامة من طريق هاتين الطائفتين (اليهود والنصارى) في ذلك الدعاء العظيم الذي تضمَّنته أعظمُ سورة، والتي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها[23]، إنه دعاء الهداية إلى صراط الله المستقيم المائل عن طريق المغضوب عليهم وعن طريق الضالين: ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? [الفاتحة: 6، 7].

 

ولشدة حاجة العبد إلى النجاة من الجهل بنوعيه: جهل العلم وجعل العمل، فإن الله تعالى أرشده لهذا الدعاء يدعو به في كل ركعة من صلاته فريضة كانت أو نافلة.

 

يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك[24].




والمنعم عليهم هم الذين مَنَّ الله عليهم بالعلم والعمل وهداهم لذلك، فعلموا الحق وعملوا به، بخلاف اليهود الذين علموا الحق وخالفوه والنصارى الذين جهلوا الحق، وعملوا على جهلهم به[25].

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة المنان: وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم الذين عرَفوا الحق واتَّبعوه، فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين[26].




ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة[27].




ولا أجور ولا أظلم من العلم بالحق والعمل بخلافه، أو ترك الحق عن جهل وضلال.

 

وكل من خالف ما علم فهو جاهل شاء أم أبى.

 

5- التحذير من عدم العمل بالعلم:

إذا كان طلب العلم من أعظم القربات فإن مخالفته والعمل بضده يعتبر من الطامات.

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من العلم الذي لا ينفع فعن عبد الله بن عمرو قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع، ومن نفس لا تشبَع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع؛ صحيح الترمذي.

 

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن القرآن الذي هو أس العلم ومنبعه؛ إما حجة للإنسان أو حجة عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: والقرآن حجة لك أو عليك؛ رواه مسلم.

 

وللأسف كل مَن رام رفع الجهل عن نفسه، فإنه يحصر ذلك في جهل العلم، فيُقبل على طلبه، لِما ورد في فضل العلم والتعلم من النصوص والأخبار، ولِما في ذلك من الرِّفعة والأجور عند العزيز الغفار.

 

وهذا كله حق وأمرٌ محمود، لكن هل فكَّرنا في رفع جهل العمل؟

إن العلم لا يُطلب لذاته، وإنما يُطلب للعمل به، وكما قال علي رضي الله عنه: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحَل)[28]، وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: إن للعلم غوائل[29]، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب...[30].

 

وسئل سفيان الثوري: طلب العلم أحبُّ إليك أو العمل؟ فقال: إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم.

 

قال الشافعي: ليس العلم ما حفِظ، العلم ما نفع[31].

 

وقال بعض السلف: يا حملة العلم، اعملوا فإنما العالم من عمل بما علِم، ووافق علمَه عملُه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقًا يباهي بعضهم بعضًا، حتى إنَّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى[32].

 

فالعبد إذا خالف عن جهل حاله أهون ممن خالف عن علمٍ، فالأول قد يُعذر بجهله بخلاف الثاني، فإنه قد أُقيمت عليه الحجة بعلمه، فاستحق الوعيد، فإن من علِم فقد بلغه الوحي في تلك المسألة، وقد قال تعالى: ? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ? [الإسراء: 15]، وقال تعالى: ? رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ? [النساء: 165].

 

فالعلم حجة لك أو عليك إذا لم تعقبه بالعمل، فالمؤاخذة والحساب لا يكون إلا بعد العلم.

 

كان أبو إسحاق الألبيري الأندلسي، المتوفى سنة 653هـ، من أهل العلم، وقد نصح ولدًا له بأبيات قال فيها:

وإن أعطيت فيه طول باع
وقال الناس: إنك قد علِمتا
فلا تأمن سؤال الله عنه
بتوبيخ: علمت، فهل عملتا؟[33]
فرأس العلم تقوى الله حقًّا
وليس بأن يقال: لقد رؤستا.
إذا لم يُفدك العلم خيرًا
فخير منه أن لو قد جهلتا

 

وقال بعضهم:

اعْمَلْ بِعِلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ
لَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ[34]



ولعِظمِ معرفتهم بخطورة عدم العمل بالعلم، أو ما وسمته بـ(جهل العمل)، فإن السلف وفي مقدمتهم الصحابة الكرام عليهم أفضل الرضوان، كانوا يجدون غاية الجد في العمل بكل ما علموا... ولعلي أذكر شاهدًا واحدًا في ذلك، فعن عبدالرحمن السلمي قال: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ: كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا[35].

 

ولذلك كانوا رضي الله عنهم يمكثون المدة الطويلة في الحفظ.

 

وكلامهم رضي الله عنهم وكلام غيرهم من السلف في الحث على العمل بالعلم كثيرٌ جدًّا، وهذه نماذج من ذلك أسوقها من الكتاب الماتع للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: (اقتضاء العلم العمل):

عن عَطَاءٌ، قَالَ: كَانَ فَتًى يَخْتَلِفُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، فَيَسْأَلُهَا وَتُحَدِّثُهُ، فَجَاءَهَا ذَاتَ يَوْمٍ يَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ عَمِلت بَعْد بِمَا سَمِعْتَ مِنِّي؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا أُمُّهْ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ فَبِمَا تَسْتَكْثِرُ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْكَ.

 

وعَنْ مَطَرٍ، قَالَ: خَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ وَإِنَّمَا يَنْفَعُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ مَنْ عَلِمَهُ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ، وَلَا يَنْفَعُ بِهِ مَنْ عَلِمَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، ويقول الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَا يَزَالُ الْعَالِمُ جَاهِلًا بِمَا عَلِمَ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِذَا عَمِلَ بِهِ كَانَ عَالِمًا، ويقول رحمه الله تعالى: إِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ، وَالْعِلْمُ دَلِيلُ الْعَمَلِ، وعن بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ قال: إِنَّمَا فَضْلُ الْعِلْمِ الْعَمَلُ بِهِ.

 

وعن سَرِيَّ بْنَ الْمُغَلِّسِ السَّقَطِيَّ: كُلَّمَا ازْدَدْتَ عِلْمًا كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْكَ أَوْكَدَ[36].

 

يقول الخطيب رحمه الله تعالى:

قَرَأْتُ عَلَى ظَهْرِ كِتَابٍ لِأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبَانَ الْهِيتِيِّ:

إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ كَانَ حُجَّةً
عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ حَامِلُ
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذا فَإِنَّمَا
يُصَدِّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاعِلُ

 

فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن يرزُقنا العمل بما علِمنا، وأن يهديَنا صراطه المستقيم، صراط المنعم عليهم بالعلم والعمل.

 

والله أعلمُ وأحكمُ ونسبة العلم إليه سبحانه أسلمُ.




[1] معجم مقاييس اللغة:1/ 489.

[2] لسان العرب:11/ 129.

[3] مدارج السالكين:1/ 469.

[4] المفردات في غريب القرآن:102.

[5] مدارج السالكين:1/ 470.

[6] تيسير الرحمن:397.

[7] المفردات في غريب القرآن:274.

[8] وقد ورد لفظ البقرة نكرة، ليعلم أنهم ما عليهم إلا أن يذبحوا أي بقرة كيفما كانت، لكنهم تنطعوا وشددوا فشدد الله عليهم.

[9] تفسير الطبري:2/ 182-183.

[10] تيسير الرحمن:54.

[11] تفسير البحر المحيط:3/ 207.

[12] تفسير ابن أبي حاتم:3/ 897. وفي رواية أخرى: (كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب).

وقال ابن جُرَيْج: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها. قال ابن جريج: وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه.) - تفسير ابن كثير:2/ 235.

[13] الطبري:8/ 90.

[14] مفاتيح الغيب:10/ 5.

[15] فتح القدير: 3/ 74.

[16] روح المعاني:4/ 238.

[17] تفسير الخازن:3/ 312.

[18] ابن كثير:2/ 235.

[19] صحيح الترمذي.

[20] تيسير الرحمن:72.

[21] إغاثة اللهفان:1/ 24.

[22] بدائع الفوائد:2/ 268.

[23] كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها - يعني أم القرآن - وإنها لسبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته.-صحيح الترمذي-.

[24] تيسير الرحمن:39.

[25] يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: فمن لم يعرف الحق كان ضالا ومن عرفه ولم يتبعه كان مغضوبا عليه ومن عرفه واتبعه فقد هدي إلى الصراط المستقيم- الصواعق المرسلة:3/ 1089-.

[26] العبودية:150.

[27] إعلام الموقعين:1/ 131.

[28] اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي:35-36.

[29] ( الغائلة ) الفساد والشر والداهية ( ج ) غوائل.-المعجم الوسيط:2/ 666-.

[30] موسوعة البحوث والمقالات العلمية.

[31] تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم:15.

[32] ممن روي عنه هذا الأثر علي رضي الله عنه كما في اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى.

[33] وقد روي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أنه قَالَ : إِنَّمَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ ، أَوَّلَ مَا يَسْأَلُنِي عَنْهُ رَبِّي أَنْ يَقُولَ : قَدْ عَلِمْتَ فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ -اقتضاء العلم العمل:41-.

[34] اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي:38.

[35] مقدمة في أصول التفسير.

[36] اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، بتصرف يسير.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook