حبيب حياة

الكاتب: المدير -
حبيب حياة
"حبيب حياة

 

في بيئةٍ ريفيةٍ نشأَتْ (حياة)، وكل ذنبِها أنها أنثى، فهذه البيئة لا يتعلَّم فيها إلا الذكورُ، أما الإناث - لدى أسرتِها الواعية! - فحَسْبُهن المرحلة الابتدائية أو بعض سِنِيها، ثم تتدرَّب على أعمال البيت وتتزوَّج، ونتيجةً لانشغال أبيها بأرضه وتجارته، كان أبوها الرُّوحي هو أخاها الأكبر، الذي صار مدرسًا وشاعرًا، وهو في الأصل وسيمٌ حليم، فخلب لبَّها علمُه ووجاهتُه، وكانت شبيهته، وتمنَّت أن تكون مثله، بكَتْ له كثيرًا وتوسَّلت إليه أن يُعينَها على والدَيْها لتكمل تعليمَها، لكنه لم يجد لذلك سبيلًا، ثم انشغل بنفسه، وظل الحلم يراودُها، بَيْدَ أنه غدا مِن أحلام اليقظة التي تنعش الخيالَ قليلًا ثم تتلاشى.

 

شاء الله أن تتزوَّج في أسرة لا يهتم أفرادها بالتعليم، ومَن يتعلم منهم فإنما تعلَّم مِن عفو خاطره فقط، وينقطع بمجرد إتقان الكتابة والقراءة، عاشَتْ بقلبينِ: قلب يعفس الواقع، وقلب تداهمه أحلامُ حب التعلم، حب تكادُ لا تُصدِّق بريقَه الذي ينفذ إليك من بين أحرفِها، ويُذهِلك أن يحتفظَ به قلبها كلَّ هذه السنين، ويروي عنه بشوق وحماس، وكأنه حلم الأمس القريب الذي ما زال قابلًا للتنفيذ؛ إذ إنها أوشكت على الستِّين من عمرها!

 

تحاورتُ معها؛ لأفهم سرَّ هذا الحب!

• وفيمَ حبُّك للتعليم يا (حياة)، وأنت في بيئةٍ لا تحتاجه غالبًا؛ فأنت ربَّة بيت، وأم ممتازة ونشيطة، رحوم أُلْهِمت حكمةً وعمقًا في التفكير، وهذا فوق ما ترجوه أيُّ امرأة هنا؟!

قالت: كانَتْ صديقتي المقربة ابنةَ الشيخ الذي يحفظنا القرآن بالمدرسة، وكنتُ أحبها حبًّا جارفًا لسحر صوتها، وجمال القرآن الذي سكن قلبي حبُّه، ولكنني أفتح المصحف فأتعثَّر، وإن اجتهدت في القراءة أخفقتُ في التجويد، كنتُ أتمنى أن أكون مثلها!

 

وبقي فتيل الأمل في قلبي، آمُلُ أن أصيب فراغًا وأكمل تعليمي، كنت كلما نظَّفت البيت ووجدت كتابًا مهملًا أو ممزقًا أو جريدة، احتفظتُ بهم لأقرأهم في فراغي، ولكن لا يأتي الفراغ أبدًا، بل يأتي الشتاء ويأخذ (حَماي) كلَّ أوراقي لتُسهِّل عليه إشعالَ النار التي تدفِّئهم في الشتاء! أحزن قليلًا، ثم أبدأ في تجميع غيرها، ويكثر الورق فيعود الشتاء.

 

ورغم أولادي السبعة، ومسؤولياتي، وقسوة الحياة في الريف في بيت كبيرٍ أنا تُرْس الآلة فيه، وثقتي أنني لن أملك وقتًا، فإن هناك دافعًا ظل يملأ قلبي في أنني سأتعلَّم ما أريده يومًا ما! وسأرتِّل القرآن مثل صديقتي وأبيها!

 

أخذتْ نَفَسًا عميقًا، ثم قالت: مات أبي، وقررنا أنا وإخوتي أن يكون جُلُّ ميراثنا منه لأداءِ فريضة الحج، وقد كان ذلك بالفعل، سافرتُ للحج والعمرة وأعانني أخي أن أظلَّ هناك في مكة أربعة أشهر، بعد الأسبوع الأول بدأ يُداهِمني الفراغ، ولا أعلم مَن الذي أخذ خيالي وعقلي وذاكرتي وقذف بهم فجأةً لصديقة الابتدائية، التي لم أرَها منذ عقود، وملأ سمعي بصوتِها وهي ترتل القرآن، وكأن هاتفًا يناديني: هذا وقتك لا تفلتيه! فتدمع عيناي، وأكلم نفسي بصوت مسموع: لقد حان، لقد حان! اشتريتُ مصحفًا في نفس اللحظات، وبدأت (تهتهة)، ثم قراءة، فتجويد، فحفظ! وجدتُ عونًا من الناس في تلك الفترة، وكأنهم جندٌ مرسَلون لتعليمي، فلا أعرفهم ولم أطلب منهم، ولكن الله أرسَلهم لي! قالتها والدموع تتصبب من عيونها: (نعم أرسلَهم لي ليرُزقني القرآن عندما وصلت الستين من عمري، ولكنه يعلم سبحانه أنه كان حلم عمري منذ أدركت الحياة)!

انتهى حديث (حياة)، وبقيت دموعها تُضفِي شبابًا ونورًا على وجهها، فسبحان الودود الذي ننسى ولا ينسى، ونَعجِز ويُلهِم ويُدبِّر.

الرائع في (حياة) أن غالب حديثها بألفاظ القرآن، وكأن معجمها الذي اكتسبَتْه على مدار عمرها تبدَّل أو عاد لصورته الأصلية التي خُلق عليها.

ما أعظمَ حظَّك ورزقَك يا (حياة)! صدقتِ فوَهَبك الكريم سبحانه فوق ما رجوتِ، ولا أرى من خلال حواري معها إلا أن هذا الفضل يعودُ للقدوة المميزة في حياة الإنسان، فقد اقتدت بصديقة صالحة، وشقيقٍ بهر عقلَها من الصغر، وبقيَتِ الفطرةُ تحثُّها على الوصول لنفس المكانة وحيازة ذلك الفضل، ثم الصدق مع الله عز وجل في النية، والمحاولة وعدم اليأس، فما أغناه وأكرمه جل وعز! ما ضره شيءٌ لو أعطى كلَّ إنسان سُؤْله، إلا أنه يختبر الهمم، ويبلو القلوب؛ أتُقبِل أم تكون من المعرِضين؟

انتقُوا لأنفسكم وأولادِكم قدوةً يصْبُون إليها، واصدُقوا معهم، وعلِّموهم الصدق، ولا شك أن الله سيُغنيكم ويغنيهم من فضله.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook