حتى أثني..

الكاتب: المدير -
حتى أثني..
"حتى أثني..

 

إنَّ سَماعَك لِكلمةٍ شعرية، مَحشوَّة أرجاؤها بالثَّناء العطِر، تجعلك تَثِقُ أَنَّ نعمةً وقعت، أو أُمنيةً تحقَّقتْ، أو هي رجاءاتٌ لِما سيكون..

 

(الثناء والمديح) دائمُ الحضور مع (الهباتِ والأعطيات)، هذان في العادة صِنوان لا ينفكَّان.

 

(ثناء) و(عطاء)، ولهما أخٌ ثالثٌ يتوارى عن الأنظار، مع أنه في حضور مستمر.

 

الثناء والهبة، والكذب الذي بينهما.

 

فطرفٌ يثني ثناءً كاذبًا، وطرفٌ يُعطي على أنَّه كريمٌ وهو بضد ذلك.

 

الثناء والهبة نوع من التسَوُّل؛ فهذا يتسوَّل الدنيا، وذاك يتسول الإطراء؛ ليطعم نفسه المحتاجة.

الثناء والهبة، حفلة صاخبة، عَقَد قرانها الكذب، بمباركة الشيطان.

 

الثناء نوعُ عطاءٍ من المُثنِي لِلمُثنى عليه، وعطاء القول أبقى من غيره؛ كما أشار عمر رضي الله عنه لذلك.

 

الثناء باختصار، فيه ما هو حقٌّ وصدق، وكثيرٌ منه ربما حق عليه العذاب.

 

الثناء والعطاء وَجهان لعملة واحدة، وليس شرطًا أن يكون سبب الثناء أُعطية مالية؛ فهناك ثناءات عطاءاتها الأخلاق الحميدة، والمقاصد النبيلة.

الثناء فيه دالَّةٌ من دَوالِّ النعم، وخيطٌ رفيع لجر الأعطيات للجهات الأربع وحتى الفرعية.

لكنَّ الخوضَ في سوق الثناء تبضعًا، يحتاجُ لأخلاقٍ لا تقبل الجلوس على طاولة التنازلات.

وحتى تصدر من سوق الثناء وأنت موفور الدين والعرض، تحتاج لحظٍّ وافرٍ من المراقبة.

الثناء جميلٌ، لكنه شائك، وليس بشائكٍ لِمن لا يهتم.

إنما حين يقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليُثني على ربِّه؛ فإنه حتمًا سيختارُ كلماتِ الثناءِ بعنايةٍ فائقة.

ولأنَّه معصوم من الزَّلل، لا يقول إلا حقًّا وصدقًا؛ فلن يختار ما لا يليقُ مِن مثل هذه السوقِ الوعرة.

سينتقيها انتقاءً؛ لعلمه بِكَمِّ النِّعم التي أتت من المنعِم سبحانه.

فإذا كان مَن دونه مِن عقلاء البشر، يعلمون أن لكل مقامٍ مقالًا، وأنَّ مقامات الثناء تحفُّها النعمُ والأعطيات.

 

فما هي الأعطياتُ والهبات، التي حَفَّت برسولنا صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة (أُحد)، حين قال لهم بعد الغزوة: ((استووا حتى أُثني على ربِّي)).

الثناءُ مُحتَفٌّ بالأعطيات، فما هي تلك الأعطياتُ التي مِن أجلها قام يُثني على ربه؟

 

أهِيَ ثناياه التي كُسرتْ؟ أم المغفرُ الذي غاص في وجهه؟ أَم خروجُ عمِّه حمزة رضي الله عنه من الدنيا مُشوَّه الجسد؟ أَم صلاته بالجيش جالسًا من إثخان الجراحِ له؟ أم الحصير المحروق الذي حُشِيَ به جرحه ليندمل؟ أم البقر التي ذُبحتْ في المنام، وتحقق الذبح في أصحابه؟!

 

إنَّه أعقلُ البشر، وأكرمهم على ربِّه، ويعلم جيدًا أن لكل مقام مقالًا، ولن يخلط بين المقامات.

 

فكأنَّ اختياره لمقال الثناء في مقام الدماء النازفة، ليقول لنا: هكذا أفهم ربي، وهكذا يجب أن تفهموه؛ فالعقول لا طاقة لها بمعرفة كُنه أفعاله، وعظيم حِكَمِه، إنَّ منعه عطاء، وحرمانه هبات، وإنزاله للموت حياة.

 

صلَّى بهم العصرَ عند الجبل، ثم أعلن لهم رغبتَه في الثناء على ربِّه، وكأنَّه حان الوقتُ المناسب لتعليم الصَّحابة درسًا لن يتم استيعابه إلَّا في مثل هذه الظروف، وكأنه ثمرٌ حان قطفه.

 

هذا وقتُ تَعَلُّم نوع من المفاهيم الشاقَّة، التي تأبى العقول تَعَلُّمها (أن تقفَ للثناء، وأنت تنزف دمًا وألَمًا)، فبربِّك، أين تكمن الأعطياتُ التي حفَّت هذا الثناء؟

وكأنَّه يعلن للكون كله، أنَّ مفهوم الهباتِ والأعطيات، يحتاج لشيء من المراجعة.

فليست الهبات هبات، ولا الأعطياتُ أعطيات.

خمسُ كلماتٍ قلبت لديَّ مفهوم العلاقة الحقيقية بين الثناء والهبة: ((استووا حتى أُثني على ربِّي)).

 

إليك نص الثناء:

((اللهمَّ لك الحمد كله، اللهمَّ لا قابِض لما بسطتَ، ولا باسط لما قبضتَ، ولا هادي لمن أضللتَ، ولا مضلَّ لمن هديت، ولا معطي لما مَنعتَ، ولا مانع لما أعطيتَ، ولا مقرِّب لما بعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إنِّي أسألك النعيمَ المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهمَّ إني أسألك الأمنَ يوم الخوف، اللهم عائذ من شرِّ ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهمَّ حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهمَّ توفَّنا مسلمين، وأحْينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهمَّ قاتِل الكفرةَ الذين يكذِّبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك إله الحق آمين)).


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook