حركة الردة في اليمامة وموقف الدولة الإسلامية في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
حركة الردة في اليمامة وموقف الدولة الإسلامية في المملكة العربية السعودية

حركة الردة في اليمامة وموقف الدولة الإسلامية في المملكة العربية السعودية.

 
 
عاد وفد حنيفة إلى اليمامة، ولم يمضِ وقت طويل حتى أعلن مسيلمة الحنفي دعواه الكاذبة بأنه نبي يوحى إليه زاعمًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشركه في الأمر معه، أي في النبوة والرسالة. وكتب إلى رسول الله في السنة العاشرة من الهجرة كتابًا يحمل تلك الدعوى الكاذبة ويعرض نصف خراج اليمامة  .  فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على مَنْ اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها لمن يشاء والعاقبة للمتقين) 
يرى إحسان العمد أن نفوذ مسيلمة الديني والسياسي في اليمامة قد زاد بعد وفاة هوذة بن علي، إذ كان نفوذه في عهد هوذة محدودًا
 
ولم يكن مسيلمة أكثر من كاهن يتنبأ للناس وينظم لهم الأسجاع  .  ومما أسهم في انتشار نفوذ مسيلمة وتأثيره على بني حنيفة، بالإضافة إلى غياب هوذة بن علي الزعيم السياسي للقبيلة، قابلية بعض من أبناء القبيلة للتأثير والإغواء. كما أن عامل التعصب للقبيلة الذي يعدُّ من مقتضياته الولاء الأعمى لزعامة القبيلة، يمثل قوة دافعة للأفراد نحو التأييد العاطفي دون روية وتفكر. ولا يقتصر هذا النوع من التأييد الذي تمليه العاطفة القبلية على المنتمين إلى حنيفة، بل شمل أناسًا منتمين إلى ربيعة. ولهذا قال طلحة النمري لمسيلمة: "أشهد أنك لكاذب وأن محمدًا لصادق ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر"  
 
كما أن الرجّال بن عنفوة الحنفي - وهو ممن أسلم وتفقه ثم ارتد - ادّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشرك مسيلمة في الأمر، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة  .  ثم جاءت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لتضيف عاملاً جديدًا أسهم في اتساع دائرة التأييد لمسيلمة. ونشر مسيلمة تعاليمه وأسجاعه بين الحنفيين، على أن ما يرويه الطبري وغيره من الأسجاع والكلمات التي يقلد بها القرآن الكريم أساطير وحكايات يظهر أن نسبة منها من مخيلة الرواة وضعوها بغية شد العامة ولفت انتباههم.
 
بذل ثمامة بن أثال جهده في سبيل إيقاف تسارع بني حنيفة إلى الردة وانسياقهم وراء أباطيل مسيلمة الكذاب مستخدمًا البيان والخطابة. ومما قاله لهم: "اسمعوا مني وأطيعوا أمري ترشدوا، إنه لا يجتمع نبيّان بأمر واحد، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده ولا نبي مرسل معه"،
 
تمسك جزء من زعماء اليمامة بالإسلام إبان ردة بني حنيفة. فبالإضافة إلى ثمامة بن أثال الحنفي، هناك مجموعة من الزعماء وأصحاب الرأي، مثل: عمير بن ضابئ اليشكري، وهو من أهل قرية بني يشكر، وقد عمل على إضعاف تأثير دعوى مسيلمة بين قومه، وكان مما قاله لهم: "إني رأيت أقوامًا إن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد، لستم والقوم سواء، الإسلام مقبل والشرك مدبر، وصاحبهم نبي وصاحبكم كذاب ومعهم السرور ومعكم الغرور" 
 وكذلك محرز بن قتادة الحنفي الذي قام يحث بني حنيفة على البقاء على الإسلام والتمسك به وينهاهم عن اتباع مسيلمة. وكان يخطب فيهم ويحثهم على تركه قائلاً: "ما أعجب أمركم أدخلكم في الدين نبي وأخرجكم منه كذاب، والله لو كان فلان وفلان أحياء ما يلعب بكم الأخينس الكذاب، والله ما أصبتم دنيا ولا آخرة وإني لأخاف عليكم العذاب، فلم يسمعوا له فاعتزلهم" 
لقد حاول ثمامة بن أثال الحنفي رضي الله عنه مواجهة مسيلمة، فجرت بينهما وقعتان إحداهما قرب حجر والأخرى حول ملهم، وكانت كفة مسيلمة هي الراجحة في هذا النـزاع  .  وقد تأثرت جهود ثمامة بن أثال في مقاومة المرتدين أتباع مسيلمة بانصراف من كان يساعد من التميميين عنه لخلافات جرت بين العشائر التميمية.
 
أدركت الدولة الإسلامية، وهي تواجه حركة الردة الواسعة في المنطقة، أنه ليس بالمستطاع القضاء على تلك الحركة العاتية عن طريق المعارضة المحلية لها بقيادة ثمامة بن أثال ومن تبعه من بني حنيفة وتميم ممن لم ينخدع بمسيلمة الكذاب وسجاح التميمية. فهؤلاء الثابتون على الإسلام، وهم يشكلون قسمًا لا يستهان به في مواطن بني حنيفة  ،  لم يكن بوسعهم مواجهة مسيلمة الكذاب بما حشده من قوة مادية وبشرية
حاول الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه إقناع من ارتد من بني حنيفة بالرجوع إلى الإسلام من خلال إرسال حبيب بن عبدالله الأنصاري الذي ذهب إلى اليمامة، فوعظ بني حنيفة (المرتدين) ودعاهم إلى الإسلام فقتله مسيلمة  . 
 
لهذا عقد أبو بكر الصديق رضي الله عنه لواء لعكرمة بن أبي جهل وأرسله إلى اليمامة، وتذكر المصادر أنه واقعهم فنكبوه، وكان الصديق قد أتبع عكرمة بشرحبيل بن حسنة إلا أنه لم ينتظره، فلما بلغ الأمر خليفة المسلمين الصديق رضي الله عنه طلب من عكرمة بن أبي جهل ألا يقدم عليه في المدينة وصرفه إلى عمان ومهرة   وذلك لئلا تتأثر معنويات المسلمين ولئلا تضعف عزائمهم.
 
ألقت الدولة الإسلامية بثقلها في مواجهة مسيلمة، ورمى الصديق مرتدي اليمامة بقائد عظيم هو خالد بن الوليد الذي أرسل إلى اليمامة في حشد كبير من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم. ولما بلغ مسيلمة قدوم خالد بن الوليد عسكر بعقرباء التي تبعد عن الرياض بنحو 50كم من الجهة الشمالية  ،  وجعل ريف اليمامة وراء ظهره  .  وفي الطريق إلى مواجهة قوات مسيلمة أسر خالد بن الوليد مجّاعة بن مرارة الحنفي الذي أخبر خالدًا أنه لم يرتد ولم يغير ولم يبدل  .  وفي عقرباء، حيث نـزل مسيلمة، دارت رحى معركة عنيفة تراجع فيها جيش مسيلمة إلى ما عُرف بحديقة الموت، وفيها هُزم المرتدون وقتل مسيلمة هناك، وهلك سبعة آلاف من أولئك المرتدين في عقرباء وفي الحديقة العدد نفسه، وكذلك في الطلب، واستشهد من المسلمين المهاجرين والأنصار من أهل المدينة 360 رجلاً، ومن المهاجرين من غير أهل المدينة 300 رجل  
 
ولقد جرى قتال ملحمي شديد بين الجانبين، وكان على الأنصار ثابت بن قيس رضي الله عنه ضمن جيش المسلمين، فأخذ يحث الأنصار على جهاد المرتدين ويقول لهم: الله الله دينكم، فقاتلوا أشد القتال حتى اختلطوا بالمرتدين في الحديقة، فما يعرف بعضهم بعضًا إلا بالشعار. وروي عن خالد قوله: "شهدت عشرين زحفًا فلم أرَ قومًا أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقدامًا من بني حنيفة يوم اليمامة"  
 
وبعد أن كُسرت شوكة حركة الردة في اليمامة، وقُتل مسيلمة الكذاب، صولح من في حصون بني حنيفة، ومعظمهم من النساء والصبية عن طريق مجّاعة بن مرارة الحنفي الذي صالح خالدًا على البيعة على الإسلام وأن من تبقى من بني حنيفة آمنون بأمان الله تعالى، وأن يحوز للمسلمين السلاح الصفراء والبيضاء ونصف السبي  
 
وبنهاية حركة مسيلمة الكذاب طويت صفحة من تاريخ منطقة الرياض، فنتائج القضاء على تلك الحركة القوية لم تقتصر على مواطن حنيفة فحسب، بل شملت المنطقة بكاملها، وقد أمسى الاتجاه نحو الردة ضعيفًا، والقيادات المترددة في قبول الحكم الإسلامي والوفاء بأركان الإسلام كلها، أدركت أنه ليس بوسعها البقاء في خندق التردد والتربص، هذا مع أن فصائل قبلية يمامية ونجدية أخرى بزعامتها وقيادتها كان لها بلاءٌ حسنٌ في محاربة المرتدين في اليمن وفي البحرين، فقد شارك بنو عقيل في محاربة المرتدين في اليمن ودعموا موقف الأبناء باليمن في أثناء محاربتهم المرتدين بزعامة زيد بن عبد يغوث  ،  كما شارك قيس بن عاصم التميمي وثمامة بن أثال الحنفي في مساندة العلاء بن الحضرمي في محاربة المرتدين  
 
لقد أزيلت عقبة كؤود حالت دون انتشار الإسلام في المنطقة، وتمسكت بمقدرات قلب نجد وأهم مناطق التحضر والاستقرار فيها، بعد تضحيات جسام وبعد سقوط أعداد كبيرة من الشهداء والقتلى. ويمثل هذا الإنجاز من جانب المسلمين هزة عنيفة نتج منها مجموعة من المتغيرات التي أثرت على أوضاع المنطقة ومسيرتها التاريخية. وقد رصد صالح الوشمي   مجموعة من النتائج التي مست الخرائط السكانية في المنطقة، ومنها توطين بعض بطون القبائل العربية التميمية في بعض الأمكنة، ومنها أمكنة فني أهلها في الحرب، ومن ذلك: الفقي (سدير) حيث نـزلها بنو العنبر، والهدار حيث نـزلها بنو الأعرج بن الحارث بن كعب بن سعد بن زيد بن مناه   التميميون. ويرجع الوشمي هذا الإجراء إلى سببين: الأول الحرص على إعادة اليمامة إلى حظيرة الإسلام لئلا تعود مرتدة مرة أخرى، وهذا الحرص اقتضى توطين قبائل لم ترجع عن إسلامها. والثاني استغلال اقتصاد أرض اليمامة بقراها العامرة، إذ لا شك في أن ارتفاع الوفيات في صفوف حنيفة أدى إلى تعطل كثير من القرى والمزارع، فجاء هذا الإجراء لمعالجة هذه المشكلة  .  وهناك بعد آخر يمس أولئك السكان الجدد وأغلبهم كانوا بداة جوالين. فحياة البادية المنعزلة عن الحواضر والحاملة لبعض العوائق المسلكية تولد الجفاء والقسوة واللامبالاة بتعاليم الدين وترك الجمع والجماعات 
وإن هذا الإجراء كما هو في مصلحة هؤلاء القوم، فإنه يخدم أهداف الدولة الإسلامية الساعية إلى نشر التفقه في الدين والتعامل بحكمة مع المؤثرات البيئية والمجتمعية المؤدية إلى الضلال، والوقوع في الردة مرة أخرى ولو على نطاق فردي. ومع مرور الزمن ترسخت المؤثرات الإسلامية في إقليم اليمامة، وانتشر التفقه في الدين في حواضرها، إلا أن بعض العادات الجاهلية لم تغب عن ذلك بصورة فورية. ولقد صار التفقه في الدين وقراءة القرآن الكريم من الأعمال التعليمية المرغوبة عند أبناء المنطقة التي حظيت بإقبال كبير. وربما كان قرار منع المرتدين (السابقين) من المشاركة في أعمال الفتح الإسلامي في عهد الصديق رضي الله عنه مما حفز جزءًا من أبناء اليمامة على التفقه في الدين، والتزود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم
لقد وفد إلى أبي بكر الصديق عشرة من بني حنيفة، فتفقهوا وتعلموا، وكان منهم أبو مريم الحنفي أحد قضاة عمر بن الخطاب فيما بعد  
 
شارك المقالة:
70 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook