المحتوى

حشد

الكاتب: المدير -
حشد
"حشد

 

إلى كتابة هذه السطور من سنةِ ثمانٍ وثلاثين وأربعمائة وألفٍ من الهجرة، نعيش لونًا طاغيًا في الذوق حيال اختيار أسماء الأبناء، خاصة في البنات.

 

ترى بنتًا صغيرة لبعض أقاربك، لكنك قد تستحيي أن تسأل أباها عن اسمها؛ لأنها ستكون المرة العاشرة ربما، إنك للوهلة الأولى ستظن أنك تعيش في مكان بعيد عن الجزيرة العربية الحارَّة، حين تسمع أبًا ينادي ابنته: يا (لوريت)، وما شابه ذلك، وقد يكون في الآية الآتية لفتةٌ مِن وراء وراء أن الأم ربما تجيد اختيار اسم بنتها، قال ربنا على لسان أم مريم عليهما السلام: ? وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ? [آل عمران: 36].

لكننا الآن لا نعلم هل تُجِيد بعض الأمهات ذلك أم لا؟

ولولا أن الأمر هام، لَمَّا غيَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضَ الأسماء.

تأمَّل ما حولك، لا يكاد يوجد شيء لا يحمل اسمًا؛ فالنوابض بالحياة كالنبات والحيوان تتمتع بأسماء مستقلة، والجماد ليس بمنأًى عن ذلك، فقد ظفِر باسم يخصه أيضًا، حتى زعيم الأشرار يسمى (إبليس).

 

الأسماء - عزيزي القارئ - تعتبر من الأحكام المؤبَّدة، نعم من الأحكام المؤبدة، التي لن تنفكَّ عنك ولن تنفك عنها؛ فالاسم الذي ستلصقه بابنِك سيرافقه في حياته على الأغلب، ثم سيُرافِقه في أرض المحشر، ثم في إحدى الدارين، أحيانًا تتردَّد على ألسن بعض الآباء والأمهات حاجاتٌ نفسية قد تحتاج إلى إشباع، إنك لربما تسمع قائلًا يقول: أريد اسمًا مميزًا لابني، أريد اسمًا لم يُسبَق إليه، وفي ظني القاصر أن هذا ليس من الترف، وإلَّا لَما تم لَفْت النظر إليه في قوله سبحانه عن يحيى عليه السلام: ? لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ? [مريم: 7]، فالتَّسمِّي باسمٍ لم يسبق إليه ربما فيه نوع تميز وإشباع، وحِكَم ذات آفاق، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءه رسولُ قومٍ سأله عن اسمه، وكأنه يستشرف شيئًا؛ وفي صلح الحديبية لَمَّا جاء سُهَيل بن عمرو، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ((لقد سهل لكم من أمركم))؛ البخاري.

 

الأسماء جليلة القدر والمكانة، فلعِظَمها وجلالة قدرها جاءت في سياق الحديث عن الملكية الخاصة بالله سبحانه.

قال عزَّ اسمُه: ? لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [طه: 8]، وقال أيضًا: ? وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الأعراف: 180]، فما ينسب ملكيته لله تعالى لا بد أن يكون جليل القدر.

 

أيضًا لعظم الأسماء وجلالة قدرِها؛ فإنها استحقَّت أن تكون أسئلة اختبار، للتمييز والرفعة، ولإظهار منزلة أبينا على غيره، فلكل اختبارٍ مستوى معينٌ من الأسئلة، والأسماء ذات مستوى ملائكي، قال الحق سبحانه: ? قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ? [البقرة: 33].

 

معرفة أسماء الأشياء قضيةٌ لا يستهان بها، وكلَّما عظُمت الذات تعدَّدت أسماؤها:

فإنك ترى الأسد يُسمَّى بـ(الليث، والغضنفر، وأسامة، وقسورة)، ونحو ذلك.

ومثله السيف فإنه يسمى (الحسام، والمهنَّد، والصمصام)، حتى عد له ما يفوق مائة اسم.

والمدينة كذلك، فإنها تسمَّى (طيبة، وطابة، والدار، والإيمان)، وغير ذلك.

أما صاحبها عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، فقد تمَّت تسميته قَبْل مولده بمئات السنين، فمِن قبيل ذلك قولُ عيسى عليه السلام: ? وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ? [الصف: 6]، وله من الأسماء (محمد، والحاشر، والعاقب، والماحي)، وغير ذلك، فالذات العظيمة لها أسماءٌ عدة.

 

أما الله سبحانه، فإليه المنتهى في الأسماء حسنًا وعددًا؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، مَن أحصاها دخل الجنة))، ولم يجتمع من أسماء الله الحسنى من حيث العدد في سورة كما اجتمع في نهاية سورة الحشر، فله الحمد سبحانه أن له الأسماء الحسنى والصفات العلا.

 

ومن بين أسماء الله الحسنى اسم يُسمَّى (الاسم الأعظم)، والذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى، وللعلماء رحمهم الله مذاهبُ في هذا الاسم:

فمنهم مَن قال: هو (الله).

ومنهم مَن قال: هو (الرحمن).

ومنهم مَن قال: هو (الحي القيوم).

ومنهم مَن قال: هو (الواحد القهار)، ومنهم مَن قال غير ذلك.

 

وفي اعتقادي أنه اسمٌ قد ورد ذكره مرَّة واحدة في القرآن الكريم، وأنه مكتنف بلفظ الجلالة (الله) قبله وبعده، واعتقادي أنه الاسم الوحيد الذي أحاط به لفظ الجلالة من قبل ومن بعد، ولك البحث والاستقصاء في ذلك أيها القارئ الموفَّق لتقف عليه بنفسك.

 

ولا ينفكُّ المسلم في دعائه عن أسماء الله الحسنى، يختار منها بِناءً على تنوُّع حاجاته ومراداته؛ فالعليم ليُعلِّمه، والرازق ليرزقه، والمولى والنصير للنصرة والموالاة، ونحو ذلك، لكنَّ أعلمَ الخلق بالله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال يذهب بنا بعيدًا في الآفاق، إنك لتقفُ في خشوع وتذلُّل حين تراه يحشد كل أسماء الله تعالى بطريقة لا يتقنها إلا الأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام، اقرَأْ بربِّك هذا الحشد المهيب لأسماء الله تعالى، وهذا الاستقصاء المدهش لها:

((اللهم إني عبدك، ابن عبدِك، ابن أَمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألُك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزَلْتَه في كتابِك، أو علَّمتَه أحدًا مِن خلقك))، لم يكتفِ صلى الله عليه وسلم بذلك، بل ذهب لأسماء الله تعالى المخزونة المكنونة؛ ((أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك...))، ألا إنه حشد لم يُسمَع به مِن قبل.

 

ولكن ما هذه القضية التي استحقت كلَّ هذا الحشد المهيب؟

إنه القرآن العظيم؛ ((أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي، ونور صدري، وذَهاب همي، وجلاء حزني))، انظر ماذا قال: ((ربيع قلبي))، وكأن القلوب مرتعٌ للفصول الأربعة:

قلوب صيفية حارة جافة.

وقلوب خريفية تساقَطَت مظاهر الحياة منها.

وقلوب ضربَها الشتاء بزمهريره.

أما القلوب الربيعية المخضرَّة المبهجة، فهي التي أتى عليها القرآن، فأَرْبَعَت وأعشَبَتْ.

ثم انظُرْ لظلام الصدور، كيف يُبدِّده القرآنُ ليحلَّ النور ثَمَّ.

ثم انظر لهمِّك أيًّا كان، وانظر لحزنك مهما تعدى الآفاق، ماذا يصنع بهما القرآن.

لا زلتُ أعجب كيف اختزلت كل أسماء الله تعالى من أجل القرآن، ثم مِن أجل نور صدرك، وذهاب همك، وجلاء حزنك! ماذا تريد؟ هذه أسماء الله تعالى من أجلك، فاحمد الله واشكُرْه.

لفتةٌ: وَرَد في الأثر الحثُّ على تعلم هذا الدعاء.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook