حقوق الأخوة في أدبيات الألوسي رحمه الله (4)

الكاتب: المدير -
حقوق الأخوة في أدبيات الألوسي رحمه الله (4)
"حقوق الأخوة في أدبيات الألوسي رحمه الله (4)

 

فهذا هو القسم الرابع من أدبيات الألوسيِّ رحمه الله في بيان حقوق الأخوَّة وآدابها، وقد شرح فيه البيتَ التاسع مِن القصيدة المعروفة بالقصيدة الشاوية[1]، وقد اشتمل من الأخلاق على مدح التواضع، وذم خلق التكبر والاختيال في المشي، وجر أذيال الثياب تبخترًا، وذم التعالي على عباد الله، وإن من هذا خلقه وسيرته بين الناس فعاقبته وخيمة، ونهايته أليمة، وسيرته مشينة، وإنه يجازى من جنس عمله، ونظير فعله، وما ربك بظلام للعبيد.

 

قال الناظم رحمه الله تعالى في ذلك:

ويرفل في أثوابه متبخترًا
وينظر كيما يُرهب الناس عن شزرٍ



أقول: يرفل رفلًا ورفلانًا[2]، وأرفل: جر ذيله وتبختر، أو خَطَر بيده، والأثواب، والثياب: جمع ثوب، وهو ما يلبس مطلقًا لا ما اصطلح عليه الناس اليوم وهو الشعار، والتبختر مشية حسنة، والتبختر الحسن المشية والجسم، المختال: ينظر بعينه، والناس يكون من الإنس والجن، جمع إنس، أصله أناس، جمع عزيز دخل عليه أل، وكيما للتعليل، ويرهب يخيف، وأرهبه واسترهبه: أخافه، والشزر إليه، يشزره: نظر إليهم من أحد شقيه، أو هو نظر فيه إعراض، ونظر الغضبان بمؤخر العين، أو النظر عن يمين وشمال.

 

وحاصل معنى البيت:

وليس ممدوحي ممن يجر أذيال ثيابه، ويتبختر في مشيه بين أصحابه، ولا ممن يختال في مشيه بين الناس، ويفخر عليهم باللباس، ولا هو ممن ينظر إليهم شزرًا، كأنه يريد أن يوقع بهم ضررًا أو شرًّا، بل ذلك كله شأن خصومه وأعدائه، وهم المقصودون بالتعريض دون أوليائه، وهذا البيت بمعنى البيت الذي قبله[3]، وجميع ما قرر فيه يجري ها هنا والله أعلم.

 

قال الناظم رحمه الله تعالى:

ولو عدلت من ظالمِ الدهرِ قسمةً
لعدَّلتُ بالصفعِ الذي فيه من صعْرِ



أقول: لو حرف شرط في معنى يقتضي امتناع ما يليه، واستلزامه تاليه، وقد تقدم في الكلام عليها مجملًا في شرح أول البيت، والعدل ضد الجور وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدولة والمعدلة، والظُّلم بالضم وضع الشيء في غير موضعه، والمصدر الحقيقي الظَّلم بالفتح ظلم يظلم ظَلمًا بالفتح، فهو ظالم وظلوم، والدهر أيضًا تقدم، والقسمة من قسمه يقسمه جزاءه، وهي القِسمة بالكسر، والتعديل الإقامة وعدل الحكم أقامه إقامةً، وعدل الميزان سواه، والصفع من صفعه: ضرب قفاه بجمع كفه، أو هو أن يبسط كفه فيضربه، والصفع مولدة[4]، والصعْر محركة، والتصعير: ميل للوجه أو في أحد الشفتين، وصعر خده تصعيرًا، وصعره وأصعره: أماله عن النظر إلى الناس تهاونًا من كبر، وربما يكون خلقه؛ ومنه قوله تعالى: ? وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ? [لقمان: 18].

 

وحاصل معنى البيت:

إن ذلك الرجل المعرض به في الذم، المتصف بالصفات الذميمة، وإخفاء الذمم، لو عدل الدهر في قسمته، ولم يجُر في حكومته، بل أعطى كل ذي حق حقه، وأوصل إليه مستحقه، ووضع الأمور في موضعها[5]، لكنت أعرفه قدره بضرب قفاه، وأجازيه على كبره بإهانته دون ما سواه، فإن الله أهان المتكبرين، فإن الكبرياء رداء خالق السماوات والأرض؛ وورد: ((إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كالذر يطؤهم الناس بإقدامهم))[6]، والعياذ بالله، وقد سبق ما في التكبر من الكلام مما يغني عن الإعادة في هذا المقام، ولا يخفى في إسناد عدل إلى القسمة من المجاز، وما بين العدل والتعديل من الجناس؛ انتهى.

 

يليه القسم الخامس إن شاء الله تعالى.




[1] وقد سبق بيان أن القصيدة سميت بالشاوية نسبة إلى أحمد بك الشاوي رحمه الله، وقد اشتملت على حكم وآداب ووصايا، على غِرار ما كُتِب في الآداب المرعيَّة لابن مفلح المقدسيِّ، مَن اتَّصف بها كان على جانبٍ عظيم من الخُلُق والأدب الرفيع، والدين القويم، ومضمونُ القصيدة هي في مدح العلامة محمود الألوسي رحمه الله تعالى.

[2] والترفيل أيضًا في عروض الكامل: وهو زيادة سبب في قافيته؛ ابن سيده: الترفيل في مربع الكامل أن يزاد تن على متفاعلن، فيجئ متفاعلاتن؛ وهو المرفل؛ وبيته قوله: ولقد سبقتهم إلي‍ = ي فلم نزعت، وأنت آخر؟ فقوله: ت وأنت آخر: متفاعلاتن، قال: وإنما سمي مرفلًا؛ لأنه وسع فصار بمنزلة الثقوب الذي يرفل فيه؛ [انظر: لسان العرب لابن منظور، جزء: 11، ص292]. وتقطيع البيت السابق: ولقدسبق تهموإلي يفلم نـزع توأنت أاخر متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلاتن ///0//0 ///0//0 ///0//0 ///0//0/0 [وانظر في البحر الكامل كتاب بحور الشعر العربي عروض الخليل، د.غازي يموت، دار الفكر اللبناني ص92].

[3] يقصد قول الناظم في قصيدته: وينفض تيهًا مِذْرَوَيْهِ مفاخرًا = ويدفَعُ مِن فرط التكبُّرِ بالصدرِ

[4] المولَّد في اللغة اسم مفعول من التوليد؛ بمعنى إخراج شيء من شيء أصلي، وفي الاصطلاح العربي هو: لفظ استخرجه المولدون من اللغة الأصلية مع شيء من التصرف، وليس مستعملًا في كلامالأعراب مثل البداية المأخوذ من البداءة، ويقال لهذا أيضًا:المستحدثوالعامي؛ [ينظر: لسان العرب، جزء: 3، ص470].

[5] قالَ الشَّاعِرُ محمود سامي الباروديُّفي مقدِّمة ديوانِهِ: وقد يَقِفُ النَّاظِرُ في ديواني هذا عَلَى أبياتٍ قُلْتُها في شَكْوَى الزَّمانِ، فيظنُّ بي سُوءًا، مِنْ غَيرِ رَوِيَّةٍ يُجِيلُها، ولا عِذْرَةٍ يَسْتَبِينُها، فإنِّي إِنْ ذَكَرْتُ الدَّهْرَ؛ فإنَّما أقصدُ به العالَم الأرضِيَّ؛ لكونِهِ فيه؛ مِن قَبِيلِ ذِكْرِ الشَّيءِ باسمِ غَيرِهِ لِمُجاورتِهِ إيَّاهُ؛ كقوله تعالَى: ? وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ? [يوسف: 82]؛ أي: أهلَ القريةِ، وكما قالَ أبو كبيرٍ عامِرُ بنُ حُلَيْسٍ الهُذَلِيُّ: عَجِبْتُ لِسَعْيِ الدَّهْرِ بَيْنِي وبَيْنَهَا=فَلَمَّا انقَضَى ما بَيْنَنَا سَكَنَ الدَّهْرُ فإنَّه أرادَ بِسَعْيِ الدَّهْرِ: سَعْيَ أَهْلِ الدَّهْرِ بالنَّمائمِ، والوِشاياتِ، فلمَّا انقضَى ما كان بينهما من الوَصْلِ؛ سَكَنوا، وتركوا السِّعايةَ، ولهذا أمثلةٌ كثيرةٌ. ولَيسَ كلُّ مَن نَسبَ شَيئًا مِن الشَّرِّ إلى الدَّهرِ كانَ سابًّـا لهُ، فإنَّ الكَلامَ في مِثلِ هذا أقسامٌ، مِنهُ ما هو جائِزٌ صَحيحٌ، ومِنهُ ما هُو مُكفِّرٌ، ومِنهُ ما هُو مُفَسِّقٌ غيرُ، وللشيخ ابن عثيمين كلام مفصل دقيق علمي شرعي في كتاب (القَول المفيدِ شَرح كِتابِ التَّوحيدِ): 2/167.

[6] أخرجه الترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (2492)، وأحمد في المسند، برقم (6677)، ولفظهما: ((يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولَس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقَون من عصارة أهل النار طينة الخبال))، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم: 8040.


"
شارك المقالة:
23 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook