حكم البلاء ومدافعة القدر

الكاتب: المدير -
حكم البلاء ومدافعة القدر
"حِكَم البلاء ومدافعة القدر

 

كُلُّ أمرٍ يحدُث في هذا الكون، وكُلُّ بلاءٍ يقع، وكُلُّ مُصابٍ، لا يخلو أن يكون وَفْق:

• قدر الله وقدرة الله.

• وإرادة الله وأمر الله.

• وحكم الله وحكمة الله.

• وعلم الله ومشيئة الله.

• وعدل الله ورحمة الله.

 

والمطلوب من العبد حين ينزل به القضاءُ، ويُصابُ بالبلاء - أن يتصرَّفَ وَفْق مُرادِ الله....

ومُراد الله:

• صَبْرُ العبد على قضاء الله.

• ومدافعة قَدَرِ اللهِ بِقَدَرِ الله.

• وحُسْن الظَّنِّ بالله.

• والرِّضا بقضاء الله.

• وعدم القُنُوط من رحمة الله.

• وانتظار فَرَجِ الله.

 

والناس في هذا على ثلاثة أقسام:

1- قسم أصابَه التسخُّط وعدم الرضا، وأساء الظَّنَّ بالله.

2- قسم صبر؛ ولكن أصابَه العَجْزُ فلم يَسْعَ للتغيير.

3- قسم صبر، ورضِي، وسعى لمدافعة القَدَر والبحث عن الحُلُول، وسعى للتغيير، وهذا تصرُّف وَفْق مُراد الله.

 

القسم الأول: أضاف إلى بلائه بلاءً آخَرَ، ووقَع فيما يُسْخِطُ اللهَ، وسقط في الامتحان.

 

القسم الثاني: وقف موقف العاجز؛ فاشتدَّ عليه البلاءُ.

 

القسم الثالث: تصرَّفَ وَفْق مُراد الله، ودافع القَدَرَ بالقَدَرِ، وسعى للتغيير، وبادَر إلى العمل؛ للخروج من الضِّيق والكَرْب، وهذا سوف يَهديه اللهُ إلى الخروج من ذلك البلاء وذلك الضِّيق، وسيفتح له آفاقًا لم يكن يتوقَّعُها، ويُرشِدُه إلى خَيْرٍ لم يكن في الحُسْبان؛ قال تعالى: ? مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [التغابن: 11].

 

المصائب خير للعبد!

((عَجَبًا لأمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فكان خَيْرًا لَهُ، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكان خَيْرًا لَهُ))؛ رواه مسلم.

 

قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى في الآية السابقة: ? يَهْدِ قَلْبَهُ... ?: يهدي قلبه لليقين، فيَعلَم أن ما أصابَه لم يكن ليُخْطِئه، وما أخْطَأَهُ لم يكن ليُصيبه.

 

قال عون بن عتبة:

إن الله ليُكْرِه العبدَ على البلاء، كما يُكْرِه أهلُ المريضِ مريضَهم، وأهلُ الصبيِّ على الدَّواء، ويقولون: اشْرَبْ هذا؛ فإن لك في عاقبته خَيْرًا.

 

فلا بُدَّ من الصَّبْر والثبات عند حلول المصيبة، وفي ذلك راحة للقلب، وهداية من الله للعبد؛ ليجد المخْرَجَ من الأزمة التي حَلَّتْ به، والمصيبة التي وقع فيها، وانظُرْ إلى الخاتمة البديعة لهذه الآية: ? وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ?، هذا الختم البديع يَزيدُ المؤمِنَ طُمَأْنِينةً وراحةً من بيان سَعةِ عِلْمِ الله، وأنه سبحانه وتعالى لا يَخْفَى عليه شيءٌ مما يقع، لا يَخْفَى عليه حالُكَ، ولا مُصابُكَ، ولا بلاؤكَ، وهو الأعلمُ سبحانه بما يُصلِحُ حال العبد وقلبه، وما هو خيرٌ له في العاجل والآجل، وفي الدنيا وفي الآخرة.

 

والمطلوب عند حلول الأزمات ونزول البلاء - الإيمانُ القويُّ بربِّ العالمين، والرِّضا والتسليم لقضائه، واليقين بأن اختيار الله للعبد هو خيرٌ من اختياره لنفسه، وأن يُحسِنَ العبدُ الظَّنَّ بربِّه، وأنه سيجعل له العاقبة والظَّفَر والمخْرَج، وأن الله ليس له حاجة في ابتلائه، ولكن له حِكْمة من وراء ذلك، فلله الحِكْمةُ البالغة، ولْيَعْلَم العبْدُ أنه لن يأتيَه إلَّا ما كُتِبَ له؛ قال أبو حازم رحمه الله: الدنيا شيئان: فشيءٌ لي، وشيءٌ لغيري، فما كان لي لو طلبتُه بحيلةٍ مَنْ في السموات والأرض لم يأْتني قبل أجَلِه، وما كان لغيري لم أَرْجُه فيما مضى، ولا أرجُوه فيما بقِي، يمنع رزقي من غيري كما يمنَع رزق غيري مني، ففي أيِّ هذين أُفنِي عُمْري؟!.

 

والمطلوب حين الأزمات أيضًا السَّعْيُ نحو التغيير:

قُمْ وبادِرْ، دافِعِ القَدَرَ بالقَدَرِ، فلا تقف مع القَدَر؛ بل ادْفَعْ قَدَرَ اللهِ بقَدَرِ اللهِ، وفِرَّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، كما أمر الله، فادْفَعْ ما قدَّره الله عليكَ من الشَّرِّ بما قدَّره من الخير، فلا تقف عاجزًا متحجِّجًا على ما أصابَكَ بالقدر؛ بل اسْعَ إلى تغيير ما قدَّره الله عليكَ ممَّا لا تُحِبُّ إلى تحقيق ما سوف يقدِّره الله ممَّا تُحِبُّ.

 

ابحَثْ عن الحلول وضَعِ الخُططَ والبدائل، وتَحسَّس مِن المخْرَج، وابحثْ عن المنفذ، وتلمَّس الفَرَج.

لا تقف مكتُوفَ اليدين، غامِرْ، سافِرْ، هاجِرْ، خُذْ من سَيْرِ الأنبياء عِبرةً، ومن حياتهم دروسًا وخِبْرةً.

 

لَمَّا ضاقت الحالُ بخليل الرحمن، ولم يؤمِنْ معه أحَدٌ إلا زوجُه وابنُ أخيه لوط، قال لأبيه وقومه: ? إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ? [الصافات: 99] سيدلُّني إلى ما فيه الخير لي، من أمر ديني ودُنْياي.

 

فلما هاجَر وترك أرضَه التي وُلِد فيها ونشأَ وتَرَعْرَعَ؛ ولكنها كانت أرضَ سُوءٍ، جعل الله منه خليلًا، وجعل من ذريَّتِه الأنبياءَ والرُّسُلَ، وجعَل له شرفَ بناء أول بيت وُضِعَ للناس للعبادة، وأسكن ذريَّتَه في أطْهَرِ بُقْعة على وجه الأرض، وأبدَلَه أرْضًا أشْرَفَ وأطْهَرَ من أرضه التي وُلِدَ فيها ونشأَ.

 

وموسى عليه السلام عاش في قصر فرعون في التَّرَف والدِّعة؛ ولكن حين داهمَه الخَطَرُ، وأراد الملأُ قَتْلَه، لم يختبئْ في مدينته التي وُلِدَ فيها، ولم يُسْلِمْ نَفْسَه لرحمةِ عدوِّه؛ بل خرج إلى أرْضٍ أخرى ليس للظَّلَمة فيها سُلْطانٌ، ولا لعدُوِّه فيها مَلِكٌ: ? وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ? [القصص: 22].

 

فخرج من مصر بلا زادٍ ولا حذاءٍ، ولا ما يُركَبُ، ولا درهم ولا رغيف، خائفًا يترقَّبُ، فهداهُ الله السبيل ونجَّاهُ من القوم الظالمين، وهيَّأ له الطريقَ إلى مَدْيَنَ، فقدم على خيرِ بيتٍ فيها، وتزوَّج منهم، وعاش بينهم عشر سنين في أطيب عيشٍ وأهنئه، ثم كافأه اللهُ بالنبوَّة والرسالة، وجعَله مِن أُولي العَزْم من الرُّسُل.

 

ومحمد صلى الله عليه وسلم عاش في مكَّةَ أطْهَر البقاع وأشرفها، البلد الأمين الذي عاش فيها آباؤه وأجدادُه؛ بل لم تتحوَّلْ من وادٍ غير ذي زَرْعٍ إلى أُمِّ القُرَى ومهوى الأفئدة، و? حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ? [القصص: 57] إلَّا بسبب سُكْنى أبيه إسماعيل فيها، ودعوة إبراهيم عليه السلام الذي هو من نَسْلِه ومن ذُرِّيَّتِه: ? رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ? [إبراهيم: 37].

 

فلمَّا آتاهُ اللهُ النبوَّةَ في هذه البُقْعة المباركة، وصدَع بما أمره ربُّه، آذاه قومُه وعذَّبُوا أصحابَه، وقتلُوا منهم مَنْ قتلُوا، وهدَّدُوه بالطَّرْد من أرْضِه، وأخْذِ الممتلكات والقتل، فلم يتنازل عن دعوته مقابل السلامة والبقاء في أرضه، واشتدَّ منهم الأذى حتى وصلوا إلى ضرورة قَتْلِه؛ فما كان منه إلَّا أن هاجر من أرضه التي وُلِد فيها، وكانت مرابِعُ صِباهُ حاضِرةً في أنحائها، وقد بلغ من عمره الخمسين وفوقها بثلاث سنين، وعبَّرَ عن حُبِّه لأرْضِه التي عشقها حين خرج مُهاجرًا، ووقف على الْحَزْوَرةِ، فقال: ((واللهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ، وأحَبُّ أرْضٍ إليَّ، ولَوْلا أنَّ أهلَكِ أخْرجُوني مِنْكِ ما خرجْتُ منك)).

 

فلما خرج منها أبدلَه اللهُ دار مهاجره، وجعل فيها من البركةِ ضِعْفَي ما جعل في مكة من البركة، ونصره فيها أهلُها ومَنَعُوه، وبنى فيها دولتَه، وأسَّسَ فيها قواعِدَ جِهادِه ودعْوته، فما هي إلا عشر سنين ليست في عُمْر الممالك شيئًا، حتى فتح الأرْضَ التي أخرجه أهلُها منها، وما هي إلَّا سنواتٌ قلائلُ حتى دانَتْ لدعوته العَرَبُ والعَجَمُ، ولولا قرارُ الهجرة لما ظهر الدين، وما انتصرت الدعوة.

 

فالحياةُ ليست للرتابة والخمول، ولا للعَجْز والكَسَل، وما من بلاءٍ يقع إلَّا وله من الله دافعٌ، وما من كَرْبٍ ينزل إلَّا وله من الله نجاةٌ ومَخْرَجٌ: ? قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ? [الأنعام: 64].

 

فكم من ضيقٍ قاد إلى سَعةٍ وفَرحٍ! وكم من كَرْبٍ جاء من بعده سُرورٌ وانشراح! وكم من بلاءٍ أعقبَتْه عافيةٌ وبُشْرى وفَرَجٌ! ومع الرحمن كل شيء يتَّسِع، ومَنْ يَسْعَ فلن يضيعَ الطريق، ولن يفقدَ الدليلَ.

 

اللهم اجعل لنا من كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ومن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، ومِنْ كُلِّ بلاءٍ عافيةً.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook