قلتُ له: أَقْبِلْ عليَّ حتى أسمعَ منك كيف النجاة مِن طول الأمل؟
قال: اعلم وفَّقك الله؛ أنَّ أولى خطوات النجاة: أنْ تدركَ بعقل قلبك أنَّك في هذه الدنيا مصيرُك للفناء، وأذكِّرك بقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كُنْ في الدنيا كأنَّك غريب، أو عابر سبيل))، وكان ابن عُمر يقول: إذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح، وتزوَّد مِن دنياك لآخرتك.
وقال أبو بكر بن عيَّاش: (قال لي رجُل مرَّة وأنا شابٌّ: خلِّص رقبتَك ما استطعتَ في الدنيا مِن رِقِّ الآخرة، فإنَّ أسيرَ الآخرة غيرُ مفكوك أبدًا).
قلتُ له: زِدْني، فواللهِ لقد أشفقتُ على نفسي مِن طول الأمل.
قال: اعلم رحمك الله؛ أنَّ الإشفاق هو بداية المريد، فمَن أراد الآخرة تَرَك فضْلَ زِينة الدنيا الزائلة، وجعل الدنيا مزرعةً للآخرة، وانظر إلى حقيقةِ الإشفاق مع الإمام علي رضي الله عنه وهو يقف بيْن يدي ربِّه يُقيم الليل، قابضًا على لِحيته، يتململ تململَ السليم، ويقول: (يا دُنيا، إليك عنِّي، غُرِّي غيري، ألِي تَشَوَّفْتِ، أم لي تَعَرَّضْتِ؟! قد باينتُك ثلاثًا، فخَطَرُكِ حقير، وأمَلُكِ قصير، آهٍ مِن طول السفر، ووحْشة الطريق، وقِلَّة الزاد!!).
قلتُ: لقد فَقِهَ الإمامُ رضي الله عنه ذلك الأمرَ، وكذلك صحابةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فكيف كان ذلك؟
قال: انظر لحديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ((ما لي وللدُّنيا؟! ما أنا والدنيا؟! إنَّما مَثَلي ومَثَل الدنيا كراكبٍ ظلَّ تحت شجرة، ثم راح وتَرَكها)) [1].
فلقدْ فقِه صحابتُه صلَّى الله عليه وسلَّم، رضوان الله عليهم هذا المعنى، وجعلوا حياتَهم كلَّها استعدادًا للموت، بالطاعات والجهاد في سبيل الله، حتى وَصَلوا لمرتبةِ اليقين في هذا الأمر.
قلتُ: كيف ذلك؟
قال: انظر لحارثةَ الأنصاري رضي الله عنه؛ سأله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذات صباح: ((كيف أصبحتَ يا حارثه؟)) قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا يا رسولَ الله.
قال: ((إنَّ لكلِّ قول حقيقةً، فما حقيقةُ إيمانك؟)) قال: عَزفَتْ نفسي عن الدُّنيا، فأظمأتُ نهاري، وأسهرتُ ليلي، ولكأنِّي أرى عرش ربي، وأرى أهلَ الجَنَّة في الجَنَّة ينعمون، وأهل النار في النار يَتضاغون.
فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عرفتَ فالْزَمْ)).
قلتُ: فما موقف الأنبياء عليهم السلام مِن هذا الأمر؟
قال: سُئِل نوح عليه السلام: كيف وجدتَ الدنيا - وهو أطولُ الأنبياء عمرًا ودعوة؟
فقال: وجدتُها بيتًا له بابان، دخلتُ مِن الأول، وخرجتُ من الآخر.
قال: إخلاص النِّية لله عزَّ وجلَّ، ومتابعة الكِتاب والسُّنَّة في القول والعمل، والمحافظة على الصلوات، والصحبة الصالحة، وتذكُّر الموت، وأنْ تستحي مِن الله حقَّ الحياء؛ كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أنْ تحفظَ الرأس وما وَعَى، والبطنَ وما حَوَى، وأن تَذكُر الموتَ والبِلى، ومَن أراد الآخرة، تَرَك فَضْل زِينة الدنيا)).
فكُن واعيًا لذلك رحمك الله.
فلمَّا همَّ بالذَّهاب، ألْقى عليَّ السلام فرددتُ عليه السلام، ثم استيقظتُ مِن النوم، واستعددتُ لقيام اللَّيْل، ودعوتُ الله بالنجاة والثبات.
[1] قال الألباني في السلسلة الصحيحة(1/ 723): أخرجه الترمذي (2/ 60) ، والحاكم (4/ 310)، والطيالسي (ص: 36) (رقم: 277 )، وعنه ابن ماجه (2/ 526)، و أحمد (1/ 391 ، 441)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 102 ، 4/ 234) من طُرق عن المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله، مرفوعًا به .
وقال الترمذي: حديث حسَن صحيح، وهو كما قال، فإنَّ له شاهدًا يأتي بعده.
ورواه الطبراني وأبو الشيخ في كتاب الثواب كما في الترغيب (4/ 113).
وسببُه فيما قال ابن مسعود : (اضطجع رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على حصير فأثَّر في جنبه، فلما استيقظ جعلتُ أمسح جَنْبَه، فقلتُ: يا رسول الله، ألا آذنْتَنا حتى نبسطَ لك على الحصير شيئًا؟ فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ... الحديث.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.