دخول الملك عبدالعزيز مدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.
مكة المكرمة قبلة المسلمين، ومهوى أفئدتهم، لذلك ظلت فجاجها وجبالها تمور بحجاج بيته العتيق، وتعمر أحياؤها بمجاوريه، ومن يرتزق بالقيام على تسهيل أمورهم ومعاشهم، ويمتد ذلك الحضور لجلالها وجلال هذا العمل النبيل إلى ما جاورها في جدة المنفذ البحري، وفي الطائف، وما حولها
وعلى الرغم من تبدل الأحوال الاقتصادية، إلا أن الطابع الديني، الذي أحدث صبغة اجتماعية لمكة المكرمة، وشغفًا بالعلم، جعل التأثيرات العالمية، والتطورات الحضارية تتنامى في مكة المكرمة، بفعل خليطها الاجتماعي، وبفعل رغبة أهلها في أن يكون على أيديهم حركة ترجى منهم لعالمهم العربي والإسلامي، تتناسب مع ما لمكة المكرمة من مكانة دينية، وإرث تاريخي، وبفعل رغبة السلاطين والموسرين في العالم الإسلامي في إمداد أهلها بما يكسبون به ثقتهم، وما يتقربون به إلى الله عز وجل؛ ففي سنة 1289هـ / 1872م اتفقت الأميرة صولت النساء الهندية مع الشيخ رحمت الله على بناء أول مدرسة نظامية في رحاب البيت العتيق بدأت الدراسة فيها صباح الأربعاء 10 شعبان 1290هـ / 1873م ، وعقب الصولتية تأسست سنة 1296هـ / 1879م الفخرية العثمانية، على يد عبدالحق قاري بجوار باب إبراهيم، والذي دعا أثرياء الهند لمساعدته ، وتوالى بعد ذلك إنشاء المدارس الخاصة، فأنشئت بجدة مدرسة الفلاح عام 1323هـ / 1905م، ثم أنشئ فرع لها بمكة المكرمة عام 1330هـ / 1912م، ويدَرَّسُ بها علوم الدين والعربية، والمنطق، والجغرافيا، والتاريخ والحساب والجبر ، أما في الطائف فكان التعليم يتمُّ في المساجد مثل: مسجد عبدالله بن عباس، ومسجد الهادي، إضافة إلى الكتاتيب، ثم في المدرسة التي أنشأها الحسين بن علي وهي المدرسة الهاشمية الراقية
وهيئ لمكة المكرمة من قبل الوالي العثماني الوزير عثمان نوري باشا سنة 1300هـ / 1883م، أن تحل بأرضها المطبعة الميرية، وقد كانت حجرية ثم تحولت إلى الحروف الطباعية . وقد زاد وجود هذه المطبعة في الإحساس بحاجة المجتمع المكي لمثلها، فكان من ثمرة ذلك أن مد المجتمع الأهلي يده لدعم ركائز الطباعة والنشر، فكانت مطبعة الترقي الماجدية لصاحبها محمد ماجد الكردي المكي التي كانت ذات أثر إيجابي في إشعار النخب الثقافية التقليدية بأهمية الطباعة ، واتجه اهتمام هاتين المطبعتين إلى كتب التدريس بالمسجد الحرام ومدارس مكة المكرمة وكتاتيبها، وإلى الأدعية والمناسك والفتاوى الشرعية "تليها في الأهمية كتب النحو والتجويد والتصوف، ثم متفرقات قليلة في التاريخ والحديث والبلاغة والأدب" , ويبدو أن ذلك ليس انسجامًا فقط مع الطبيعة الدينية لمكة المكرمة، كما يرى بافقيه ، وإنما هو بسبب عدم تكون الطلب الثقافي الذي يجاوز دروس الحرم والمدارس في تلك الفترة، ومن يطلع على ما ذكره جنيد من مطبوعات خارج مكة المكرمة يجد أنها في حدود دائرة ما أنتجته هاتان المطبعتـان، وإن لم يعدم المتأمل رغبة لـدى أهـل مكة المكرمة في أن تصل إلى بـلادهم مطبوعات أخرى على النحو الذي نراه في اشتراك مجموعة من أعيان مكة المكرمة في طباعة خزانة الأدب للبغدادي ببولاق . واتجر أهل مكة المكرمة بالكتب، يذهبون إلى أصقاع العالم الإسلامي، ويأتون بها أو بالمخطوطات، ويمولون نشرها .
وصاحب حركة الطباعة نشوء الصحافة بالحجاز التي لا يعنينا من تاريخها هنا إلا الإشارة للمساحة التي أصبحت متاحة لأهل مكة المكرمة وما حولها ليعبروا عن آرائهم، وليجعلوا الفكر مثارًا للحوار أمام الجماعات، ويجاوز جلسات الأفراد، ودروس المسجد الحرام، إلى أن يقرأ من يتمكن من القراءة الأفكار، ويحاور الكُتَّابُ بعضهم بعضًا، ويحاور المجتمع الأفكار، لذلك يرى الفوزان أن الصحافة في هذه الفترة "نقلت النثر من قصر على الأفراد إلى مرحلة الجماعات، أو من مرحلة التخصيص إلى مرحلة التعميم"
وحين نجاوز ذلك إلى عهد الشريف حسين بن علي الذي قام بثورته على الأتراك بمكة المكرمة عام 1334هـ / 1916م، نجد الصحافة والمنتديات الأدبية، وأمكنة النشر تأخذ على عاتقها الاتفاق على النهوض بالبلاد، واستعادة أمجادها، وتحقيق القيادة لمكة المكرمة، فكانت صحيفة (القبلة) التي صدرت بمكة المكرمة في 15 / 10 / 1334هـ الموافق 15 / 8 / 1916م، وقد أسهمت في ضم كثير من الرؤى العربية، من خلال استقطابها بعض الكتاب والشخصيات من خارج الحجاز، واهتمامها بأمر العالم العربي
وإذا نظرنا إلى مشاركة جدة والطائف وجدناها حاضرة في هذه الصحيفة، فمن الطائف الشيخ عبدالله كمال، والشاعر عثمان الراضي، ومن جدة الشاعر حسين روحي . ونجد (بريد الحجاز) تستقبل قصيدة لمحمد حسن عواد ويكتب المحرر تعليقًا عليها، يقول فيه: "وصلتنا هذه القصيدة الغراء من فخر الشباب الناهض بجدة الشيخ محمد حسن عواد ننشرها بكل ابتهاج، وإن صفحات البريد مفتوحة لما يجود به يراع الكتاب والأدباء من الشبيبة الحجازية والعربية" .
ولا يخفى ما في هذه العبارة من تحمس للنهضة الفكرية، وتشجيع للكتَّـاب، ويدل كل ذلك على وجود حركة فكرية ثقافية تتنامى وتهيئ لفعل ثقافي قادم