درجات الإخلاص

الكاتب: المدير -
درجات الإخلاص
"درجات الإخلاص




مقدمة:

يفقد المرءُ عزيزًا لديه؛ من ولدٍ أو والد، أو خَدِينٍ أو صاحب، فيمتلكه الأسى، وتحيط به الأحزانُ، وتُظلم الدنيا في وجهه، وتضيق عليه الأرض بما رحُبَت، ويكاد ينسى نفسه وربَّه لولا صديقٌ يُعزِّيه، أو شفيق يُسليه، أو إيمان يردعه، أو عقل يمنعه، وقد يتَّجر فتكسُد تجارتُه، أو يزرع فيَهلِك زرعُه، فيبكي حظَّه، ويندُب نفسه، ويتأفَّف ويتبرَّم، ولا يُطيق على حالته صبرًا، ويا ويل نفسه لو ألمَّت به مُلمَّة، أو نزلت به نازلة فأتلفت من جسمه شيئًا، هنالك تذهب نفسُه حَسَراتٍ، وتتقطع أنفاسُه زَفَرات، ويعتبر أنْ لا حقيقة له في هذه الكائنات؛ لكنه - والكبد تذوب، والفؤاد يتفتَّت - قد خَسِر أكبرَ من هذا كله وهو راضٍ مطمئنٌّ، لا يُكدِّر عليه مُكدِّر، ولا يحوم حوله قلق، أعجبُ لهذا الإنسان المسكين، يخسر غيرَه فيجزع ويهلَع، ويخسر نفسه وهو يفرح ويمرح، ثم هو بعد ذلك يحتسب نفسَه من ذوي العقول والفَطَانة، ومن أولي الفضل والرَّزانة، وما هو - والحق - إلا قد ضلَّ الرشاد، وأخطأ السداد.

 

يقول الإنسانُ ما لا يفعل، وينسُب إلى نفسه ما لا يعمل، ويظل على تلك الحال حتى تختَطِفَه يدُ المنون، وإذا بذلك المسكين واقع في الشقاء والهُون؛ إذ كانت حياتُه كلها كلامًا، وآماله كلها أوهامًا، ولم يُغنِه كلُّ ذلك شيئًا، ذلك هو الخسران المبين، وقد يعمل أعمالًا تلوَّثت بالنفاق، وامتزجت بالرياء، وأُحيطت بالفخر والمباهاة، ودُنِّست بالشهوات والأغراض، ولا يزال على هذا الدأب؛ تُساوِره شهوتُه، ويتغلَّب عليه هواه؛ حتى يلحَقَ بصاحبه الأول، وهو أسوأُ منه عاقبة وأكبر خسرانًا؛ ذلك لأنه شقي في دنياه وآخرته، وسجَّل لنفسه بنفسه صحيفة سوداءَ كلُّها كذِبٌ وضلال.

 

هذان الصنفان من الناس - واعذروني إن قلتُ: هما كل الناس - أحقُّ بالعزاء، وأولى بالتسلية، وأجدر أن يبكوا على أنفسهم الضائعة وحياتهم المفقودة، وأحرى أن يحزنوا عليها أضعافَ ما يحزنون على أعزِّ عزيزٍ لديهم، وأجلِّ حبيب لهم.

 

الإخلاص - أيها السادة - شيء عزيزُ المنال، بعيدُ المَرامِ، آلى ألَّا يسكنَ إلا قلوبًا طاهرة طيبة، ونفوسًا مُصفَّاة زاكية، قد تقلَّبت على الجمر مِرارًا، ثم انجلت عن مثل الإبريز خُلُوصًا، وعن مثل البِلَّور صفاء، ومَن لي بتلك القلوب التقية؛ فأفتديَها بنفسي وما أملك؟ ومن لي بتلك النفوس الصافية؛ فأتعلَّق بأذيالها وأَضْرَع إليها أن أكونَ عبدًا لها؟ إني إذا بكيتُ الإخلاص فإنما أبكي الجوهرةَ الغالية؛ بل الحياة العزيزة، بل المفقود الوحيد الذي لا أجدُ له بديلًا، ولا أرى له الأرضَ وما فيها عِوَضًا.

 

أين أجد الإخلاصَ أيها السادة؟ لقد فتَّشتُ عليه في جميع الطبقات، وفي كل الهيئات؛ حتى أعياني الكَلالُ، وأمضَّني النَّصبُ، فلم أجدْ له أثرًا.

 

نقَّبتُ عنه في طبقة العلماء - وهم أحق الناس بالإخلاص - فما وجدتُ إلا ألسنةً تصِفُ، وقلوبًا تصرِف، وأعمالًا تخالف[1].

 

بحثتُ عنه في طبقة العُبَّاد، فوجدتُ أقوامَ سَوءٍ، يُوهِمون الناسَ أنهم على قَدَمٍ من الصلاح، وعلى مكانة في الإخلاص، وما عرفوا ما هو الصلاح، ولا دَرَوا ما هو الإخلاص.

 

ذهبتُ إلى طائفة التجار؛ عسى أن أجدَ فيهم ضالَّتي المنشودة، ويا لهول ما رأيت! رأيتُ كذِبًا صُراحًا، وغِشًّا مضاعفًا، وطمعًا فاحشًا، وشراهة منكرة، فأيقنت أن بين هذه النفوس وبين الإخلاص أَمَدًا بعيدًا، وشُقَّة شاسعة.

 

عدلتُ عن هؤلاء إلى الصُّناع، فما ألفيتُ إلا نفوسًا قد لَبِسها الشيطانُ، وجرَّعها كؤوسَ الهوان، وأنساها الملِكَ الدَّيَّان، وهل يُبتغى الإخلاص عند حَومةِ الغَوَاية، وميدان الضلالة؟

 

أيستُ من هؤلاء جميعًا، فذهبت أبتغيه عند الشَّرِيكين؛ خلطا مالَهما وأوثقا أيمانَهما، وعاهدا ربَّهما لَيَكونان يدًا واحدة وقلبًا واحدًا، وروحًا واحدة قد انتظمت شخصين، كلٌّ يعمل على سعادة الآخر ويتفانى في الإخلاص إليه - فما علمت إلا نقضًا للعهود ونبذًا للمواثيق، وجهادًا في المَكِيدة وعملًا على الوقيعة.

 

وبعد أن أعياني الجَهدُ، وتقطعت بي الحبال، ضربتُ في الأرض أتلمَّس الإخلاصَ عند الأخوينِ تجمعهما رابطةُ الصداقة وصلة المحبة، يتناصحان ويتشاوران ويتعاهدان على ذلك حينًا من الدهر، وهنالك يرجع إلى نفسي شيءٌ من سرورِها، وإلى صدري بعضٌ مِن انثلاجه، حتى إذا ما توسَّمتُ كمالَ الصداقة بينهما، وإحكام عُقدة المودة التي تربِطهما، وهممتُ أن أفرحَ لهما الفرح كله، وأهنِّئ نفسي بظَفَرِها بالطَّلِبة - دبَّ بينهما دبيبُ الفُرقة، وسعى فيهما ساعي الفساد، فانقلبت الحال، وضاعت الآمال، وتقطعت الأوصال، وبُدِّل السرورُ غمًّا، والابتهاج همًّا، وبلغ اليأس مبلغًا لا يعلم كُنْهَه إلا مُفرِّجُ الكروب، وعلَّام الغيوب.

 

لذلك حُقَّ لي - أيها السادةُ - أن أبكيَ، وحُقَّ لكم أن تبكوا معي، لا بكاءَ الوالد ولدَه، ولا بكاءَ الأخ أخاه؛ ولكن بكاء الثكلى فقدت ولدَها البارَّ بها، ولم تُرزق في الدنيا سواه.

 

أنا مؤمن بوجود الإخلاص أيها السادة؛ ولكني ضللْتُ موضعه، وأخطأت أهلَه فلم أجد إليهم سبيلًا، وقد يخالج ضميري أن أهلَ الإخلاص هم ذوو الأطْمارِ البالية، وساكنو الجبال النائية، والمُتنكِّرون في هذا العالم المُظلِم، الذي أحاطت به الشهوات وغمرتْه الفتنُ، رضوا لأنفسهم هذه المنزلةَ، وفرُّوا بها من تلك الغوائل التي لا تزال تدهَمُ الناسَ من حين إلى حين، فتسلبهم عقولَهم، وتودي بحياتهم، أشهدُك اللهم أني مؤمن بوجود الإخلاص، وإن لم أهتدِ إليه، معترفٌ ببقية من المخلصين لا يزال يَسطَعُ نورُهم على هذا العالم، وإن كنت محجوبًا عنهم؛ ذلك لأن الإخلاصَ سرٌّ من أسرارِك تصطفي له مَن تشاء من خلقك، وليس بعزيزٍ عليك أن تهديَني إلى هذا السر، وأن تُمتعَني بنورِ عبادك المخلصين.

 

معنى الإخلاص ودرجات المخلصين:

ليس الإخلاص - أيها السادة - هو الكلام؛ فالقائلون لا يُحصَرون، وليس الإخلاص هو العمل؛ فالعاملون كثيرون، وليس الإخلاص هو ادِّعاء الإخلاص؛ فأكثرُ المُدَّعين كاذبون؛ إنما الإخلاص صفاء النية ونقاء العمل، إنما الإخلاص أن تُطهِّرَ قلبك من دَنَسِ الشوائب، وعملَك من شهوة الأغراض، إنما الإخلاص أن تعملَ لله، وتستمرئَ الأذى في الله، وتبيعَ نفسَك لله، غيرَ حافلٍ بمدحِ مادحٍ، ولا مهتمٍّ لقَدْحِ قادح، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 

وقد أجمع سلفُ الأمة وخلفُها - بل أجمعت الأممُ كلها - على فضل الإخلاص ومدحِه، وأنه لُبابُ الأعمال، ومِفتاح الآمال، وهو ينتظم الأقوالَ والأفعال، وأيُّ قول خلا من الإخلاص فهو جُفَاء، وأيُّ فعل عَرِي عن الإخلاص فهو هَبَاء.

 

والناس فيه درجات، وعلى قدر درجاتهم يكون إخلاصهم، وعلى حسب إخلاصهم تكون آثارهم، وأشدُّ الخلق إخلاصًا بعد أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم هم الصِّدِّيقون وكبار الصالحين، وهم الذين استثناهم إبليسُ اللعين ممَّن حَلَفَ ليُغوِينَّهم أجمعين؛ قال المفسرون في قوله تعالى حكاية عن إبليس: ? إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ? [الحجر: 40]: أي: الذين أمحضوا الطاعةَ لك وحدك لم يشركوا بك أحدًا، أو الذين اصطفيتَهم لعبادتك واصطنعتهم لنفسِك؛ وذلك لأنه علِمَ أنه لا يعمل فيهم كيدُه، ولا تؤثر عليهم وسوستُه.

 

وقد قسَّمَ بعضُهم الأعمالَ إلى أقسام ثلاثة:

• ما يكون كله لله لا شائبةَ للأغراض فيه، فهو مقبول.

• وما يكون كله للشهوات، فهو مردود.

• وما تمتزج النِّيَّةُ فيه بالعِلل والمراءاة، فهو مقبول إن غلب جانبُ الله، ومردود إن غلب جانب الشهوات.

غير أن الخُلَّص الكُمَّل يأبَون هذا التقسيم ويرُدُّونه، ولا يَحفِلون إلا بما كان لله خالصًا لم يُدنِّسْه غرض، ولم تَشُبْه لغيره شائبة، وهؤلاء هم الذين كانوا يخافون الدَّخَل في الأعمال والعلةَ فيها أكثرَ من أن يُلقى أحدهم في النار، حتى كانت تُؤدِّيهم مبالغتُهم في الإخلاص إلى ترك العمل أحيانًا؛ خشيةَ أن تُزهى نفوسُهم وينالَها شيء من العُجْبِ والاغترار، ولا تعجبوا أيها السادة؛ فهذا مقام لو اطَّلعنا عليه لوجدنا لهم حججًا تَدْفَع، ومعاذيرَ تشفع، هذا مقام أهل الحق، وشهداء الصِّدق، وهم على خطر عظيم.

 

كان الفُضيل بن عياض - مع علو منزلته، وكبير خطره - إذا قرأ قوله تعالى: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ? [محمد: 31]، يبكي ويرددها ويقول: إنك إن بلوتَنا، فضحتَنا وهَتَكْتَ أستارنا!، وكان يقول: لا تهتموا لقلة العمل، واهتموا للقَبول، وكان معروف الكرخي يضرِب نفسه ويقول: يا نفسُ، أَخْلِصي تتخلصي، وهكذا كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم لا يرون لأنفسهم عملًا، ولا يظنُّون أنهم يبلغون الإخلاصَ يومًا، وكانوا يرونه أشدَّ شيء عليهم، وأبعدَ شيء عنهم.

 

وربما ذهبوا في الإخلاص مذاهبَ بعيدة، حتى جعلوا الإعانة في الطاعات تنافي الإخلاص؛ قال الألوسي: وقد بالغ في العموم[2] من جعل الاستعانةَ في الطاعات كالوضوء شِركًا منهيًّا عنه، فقد قال الراغب في المحاضرات أن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه كان عند المأمون، فلما حضر وقت الصلاة، رأى الخدمَ يأتونه بالماء والطست، فقال الرضا: لو توليتَ هذا بنفسك؛ فإن الله تعالى يقول: ? فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ? [الكهف: 110]، وهذا لعمري غايةُ الإخلاص، ومنتهى درجات المخلصين، ولم يعتَدَّ اللهُ سبحانه وتعالى - وهو العليم بما تكنُّه القلوب - إلا بالأعمال الخالصة، والنيات السليمة؛ لذلك حثَّ على الإخلاص، وامتدح المخلصين في غير آية: ? قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ? [الأنعام: 162، 163]، ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ? [الكهف: 30]،? يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? [الشعراء: 88، 89]، كما حذَّرنا الرياءَ ونفَّر منه، وبيَّن أنه يُحبط الأعمالَ ويُفسدها، وأن مَثَلَ المُرائي كمثلِ المنافق، الذي يرجو بعمله رِضاءَ الناس وثناءهم، ثم يطلب ثوابَ ما عمِل، فلا يجد إلا كما يترك الوابلُ حينما ينزل من السماء بقوة على حجرٍ أملس ناعم قد عَلَتْه طبقة ترابية؛ قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ? [البقرة: 264].

 

وقد تضافرت الأحاديث الصحيحة على تسمية الرِّياء شركًا أصغرَ، وأنه محبط للأعمال، نكتفي منها بما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أولَ الناس يُقضى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجلٌ استُشهد، فأُتيَ به فعرَّفه نِعَمَه فعرفها، فقال: ما عمِلت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى قُتلتُ، قال: كذبتَ، ولكن قاتلت ليُقال: هو جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ فيك العلمَ وعلمته وقرأت فيك القرآن، فقال: كذبت، ولكن تعلمتَ ليُقال: هو عالم، فقد قيل، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه رزقه وأعطاه من أصناف المال كله، فعرَّفه نعمه فعرفها، فقال له: ما عملت فيها؟ فقال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، فهؤلاء أولُ خلْق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة)).

 

ثمرة الإخلاص:

ما قام الدينُ - أيها السادة - ولا صلَحت الدنيا إلا على الإخلاص، وما انتشرت العلوم ولا انبثت المعارفُ إلا بالإخلاص، وما كانت سعادة الأمم ووصولها إلى ذُروة المجد إلا نتيجة الإخلاص، وحسبكم شاهدًا ما أبلى الصحابةُ رضي الله عنهم في سبيل نصرة الدين وإعلاء كلمته، وقد علمتم إلى أي حدٍّ وصل عزُّ الإسلام ومجده، وكذلك العلوم والمعارف أيها السادة، لولا أن سخَّر الله لها رجالًا مخلصين، آثروا العكوف عليها، وواصلوا البحث فيها، لكنا الآن نتخبَّط في دياجير الظُّلمة وما كنا مهتدين، ننظر الآن إلى مؤلَّفات الأئمة المتقدمين، فتأخذنا الدهشة، وتمتلكنا الحَيرةُ، ثم نتساءل أسئلة مختلفة: في كم سنة تربَّى هذا المؤلِّف؟ وفي كم سنة ألَّف هذه المؤلَّفات الضخمة، التي نَعجِز عن قراءتها، فضلًا عن كتابتها، فضلًا عن دراستها؟ وكم بلغ هذا المؤلِّف من العمر؟ وكيف كانت عقليته الكبيرة وهمته العالية؟ وما أشد دهشتنا حينما يحدثنا التاريخ أنه لم يتجاوز الأربعين، أو لم يبلغ الخمسين، وأنه كان من الصالحين المُتنسِّكين!

 

عجبًا! ألسنا بشرًا مثلهم؟ أوَ ليس زمننا كَزَمَنِهم؟ الليل هو الليل، والنهار هو النهار، واليوم أربع وعشرون ساعة؛ فما بالنا لم نبلغ على كثرتِنا ما بلغوا على قِلَّتِهم، ولم نؤتَ ما أُوتوا؛ مع توفر الوسائل لدينا، وتيسير أسباب العلم من وجوه كثيرة؟

 

كثير من المفتونين يعرض هذه الأسئلة على نفسه، فينظر فيها نظرةَ الغِرِّ الأحمق، ثم يقوم عنها وقد امتلأ تِيهًا وعُجْبًا، فينادي في الناس: نحن رجال كما هم رجال، كلمة تُشوِّه وجهَ الحقيقة، وتطمِس معالمَ الإنصاف، كلمة لا يفُوهُ بها إلا أحدُ شخصين: جاهل بمعناها، أو معاند كذاب، ولا يَسَعُ من قلَّب الأمرَ على وجوهه، وبحث فيه بحثًا صريحًا منزَّهًا - إلا أن يعترفَ بأن هناك سرًّا غامضًا قد حُجب عن الجاهلين والكذابين، ولا يزال يبحث عن هذا السر، حتى يهديَه البحثُ إلى أن تلك نفوسٌ كبيرة، احتوت هِمَمًا عالية، وعزائمَ ماضية، وإخلاصًا لا يشوبه رياء.

 

نعم، نحن بشر مثلهم، وزمنُنا هو زمنُهم، والوسائل لدينا أوفر، والأسباب أكثر؛ ولكنْ بين نفوسنا ونفوسهم بَونٌ بعيدُ الشُّقَّة، واسعُ المدى، على أن زمنًا سطعت فيه شموس الإخلاص، وتألَّقت فيه كواكب العَزَمات - ليس كزمنٍ سادت فيه المظاهرُ، وانتشرت فيه دواعي الترف، وأخلد أهلُه إلا قليلًا منهم إلى الرفاهة والدَّعَةِ والتظاهر والمباهاة حتى بما لم يكونوا له أهلًا، وكأن الجوَّ - أيها السادة - يحمل بين خلاله ذرات من جنس ما ساد فيه، فيستنشقها أهلُه، فيتأثرون بها تأثُّرَ الدواء الناجع أو الداء العُضال، ولا ينجو من تأثيرها إلا مَن كان ذا نفسٍ قوية، وروح ملكية، وهِمَّة عَلِيَّة.

 

هل لنا أمل في الإخلاص؟

خَصلةٌ ممقوتة إذا تخلى عنها المرءُ، عاش سعيدًا مُنعَّمًا، أو على الأقل عاش غير ملوم ولا محسور، تلك هي اليأس، خصلة - قاتلها الله - كم أضلَّت ناسًا وأشقتْهم، فجرَّت عليهم وبالًا في الدنيا، وهلاكًا في الآخرة، لو أننا تخلَّينا عن هذه الصفة أيها السادة، وأقبل كل منا على ما يُسِّر له بجِدٍّ وعزيمة، لكان لنا في الإخلاص حظٌّ وفير، وقسط كبير، وما الإخلاص إلا أن يؤديَ كلُّ امرئ عمله على ما يرضي الله، ويرضاه الواجبُ والمروءة وكرم النفس وطهارة الذمة، ولا يُنكَر أن للنفس مشجعاتٍ تُحفِّزها إلى مواصلة القيام بواجبها؛ كالثناء والمكافأة، وأن لها مثبِّطات تَثني من عزيمتها، وتقلل من جهادها؛ كالقدح وإنكار حقوقها، فإن هذين أمران جُبلت عليهما النفسُ، وأقرَّهما العقل، وأيدهما الشرع، كما لا يُنكر أن النفس إذا تهذَّبت وتصفَّت، كان أثر التشجيع أو التثبيط عندها قليلًا جدًّا، وما ترى أمامها إلا الواجب، تفعله مخلصة فيه، لا تبالي إذا أرضت ربَّها ثم ضميرها: أأثنى الناسُ أم كانوا قادحين؟

 

بماذا نكون مخلصين؟

سؤال قبل أن نجيبَ عليه، يحسُن أن نمهِّدَ له بتمهيد.

يرى المُطَّلع في كتب الصوفية أن محل الإخلاص عندهم هو الأعمال الأُخرويَّة ليس غير ذلك؛ لأنهم لا يحفِلون بالدنيا ولا يُقيمون لها وزنًا، ويرون أنهم لم يُخلقوا إلا للآخرة، وأرى أنه ليس من الإنصاف أن نُسرِفَ في معارضتهم والرد عليهم؛ فإن أساسَ ما جاءت به الرسل هو التبشير بما عند الله من نعيم مقيم، والإنذار بما عنده من عذاب أليم، والأدلة على صحة ما ذهبوا إليه لا تقف عند حدٍّ، وحسبهم مؤيدًا قولُه تعالى: ? وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? [القصص: 77]؛ حيث جعل الآخرةَ هي المقصودة، وجعل للدنيا حدًّا لا ينبغي تجاوزه، ولا يُماري عاقل في أن الدنيا والآخرة ككفتَي ميزان؛ إذا رجحت إحداهما، طاشت الأخرى، غير أنه لا يخالف أحد في أن وسائلَ الدار الآخرة ليست من أعمال الدنيا، ويذكر العلماء أن المباحات - كالتوسع في المأكل والمشرب والملبس - تدخل في قسم الطاعات بالنية والقصد، وذِكر نِعَمِ الله تعالى وأداء الشكر عليها؛ ومن هنا كانت حياةُ الخُلَّص الكُمَّل كلها طاعة؛ فإذا سعَوا في الأرض، فبِنِيَّة امتثال أمره تعالى، وتحصيل ما به طاعته ورِضوانه، وإذا أكلوا مما رزقهم اللهُ، فبقصد التَّقوِّي على عبادته، وإذا ناموا أو استراحوا، فاستعدادًا لِما كُلِّفوا به، وطلبًا لأدائه على خير وجه، وبناء على تلك القاعدة يمكننا أن نجعل محل الإخلاص شاملًا لوسائل الأعمال الأخروية؛ بل لا نرى بأسًا إذا جعلناه شاملًا للأعمال الدنيوية أيضًا، ويسهُل حينئذٍ أن نحدد معناه بأنه: أداء العمل دنيويًّا كان أو أخرويًّا على الوجه الأكمل، وبماذا نُحقِّق هذا المعنى ونصل إليه؟ هذا هو السؤال الذي نسأل الله تعالى أن يُسدِّد قولَنا في الإجابة عنه.

 

لا بد لكل امرئ من أعمالٍ في هذه الحياة، وإذا نظرنا إليها على اختلافها وكثرة تنوعها، أمكننا أن نحصرها في قسمين أساسيين: ما يرجع إلى سعادة المرء نفسه، وما يرجع إلى سعادة المجموع، وقد يكون الغرضُ من العمل سعادةَ المرء وسعادة المجموع معًا، وأيًّا كان العمل فلا يخلُص من الشوائب، ولا يصفو من الكدرات، ولا يحقق معنى السعادة - إلا إذا اتصف صاحبُه بصفات ثلاث، هي عِماد الإخلاص وقِوامه:

الأولى: إنكار الذات[3]، والثانية: محاربة الشهوات[4]، والثالثة: مصاحبة الثبات[5]، ولا بد أن يكونَ في سائر أحواله حَسَنَ النية، قويَّ العزيمة، لا تفتنه الزخارف، ولا تغرُّه البوارق، ولا تخدعه كواذبُ الآمال.

 

ومجمل القول أن وسيلة الإخلاص الكبرى وعمادَه الأقوى: مجاهدةُ النفس ومصابرتُها، وتحميلها المشقَّات والمكاره، والدأب على ذلك أشهرًا وسنين؛ حتى تخلصَ وتصفوَ، فتكون مصدرًا لكل خير، وسببًا لكل سعادة.

 

هذا هو الدواء أيها السادة، وهو - كما تعلمون - مُرُّ المذاق، كريهُ الطعم؛ ولكنه بعد التجرع جميلُ العاقبة، جليل الأثر، فهَلُمَّ إلى هذا الدواء الناجع نواصل تناوله، ونُحسِن استعماله؛ فإن لم نستأصل شأفةَ الداء، فلا نُحرَم كل الشفاء.

 

هلمَّ إلى هذا الدواء؛ فقد استفحل المرضُ، وأنذرنا الهلاك إن لم نتلافَ أمرَه، ونتدارك خطرَه، قبل أن يأتيَ يومٌ يَعِزُّ فيه الشفاء، ولا ينفع فيه الدواء، وقد أعذر من أنذر، وفي هذا بلاغ.




[1] هذه الحقيقة، نذكرها وإن كانت مُرَّة.

[2] ذهب بعضهم إلى أن معنى الشرك في قوله تعالى: ? وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ? [الكهف: 110]: الشرك الجلي، وقال بعضهم: هو الرياء؛ بمناسبة تقديم ? فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ? [الكهف: 110]، وقال آخرون: المراد عموم الشرك جليِّه وخفيِّه.

[3] يرجع فشل كثير من الجمعيات إذا أمعنا النظر - إلى الغرور وحب الرياسة، فتجد كلًّا يحب أن يكون رئيسًا، وكلًّا يدَّعي ما ليس فيه، فتكون النتيجة قضاء مُبرمًا، وخيبة عاجلة.

[4] لأنها ضد الإخلاص، فيعترض المخلصَ حبُّ الشهرة مثلًا، فإن لم يكن حازمًا بصيرًا، ضاع ما يتمناه، وكان الندم حليفه وعقباه.

[5] كل مَن سار في عمله - سيما إذا كان جليلًا - فلا بد أن تعترضه صدمات، وتنتابه موانع قاطعات، فإن لم يسلك طريق الصبر والمصابرة، رجع ولم يقضِ مرادَه، ولم يُنجِز أمله.


"
شارك المقالة:
21 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook