درس من الرياض ودرس من الفلبين

الكاتب: المدير -
درس من الرياض ودرس من الفلبين
"درس من الرياض ودرس من الفلبين

 

خلال ممارستي لمهنتي تعلَّمْت درسَيْن، لا أنساهما أبدًا ما حَيِيت؛ درس مِن الرِّياض، ودرس من مندناو في الفلبِّين.

 

أبطال الدَّرْس الأول شَباب مِن الرِّياض، التقيتُ بهم في مكتبِي؛ تلبيةً لِنداء صديق قديم تَرك بلاد الشام، وغادر مدرِّسًا إلى الرياض، وفي إجازته في الصَّيف اتَّصل بي قائلاً: أعرفْتَني؟

? نعم، أنت أبو أنس، رفيقي في الجامعة، مِن البلد الفلاني.

? معي ضيوف من الرِّياض، وأريدك في المكتب.

 

? الآن، وقد أنْهيتُ دَوَامي، وهجَعْتُ في منزلي؟!

? نعم، الآن.

? حسنًا، أكون في المكتب حبًّا وكرامةً للضِّيفان.

 

في المكتب هَمس مُضِيفهم: يريدون السَّفر إلى حلَب.

? يبحثون عن الطعام الطَّيِّب، والجلسة الهانئة، والفراش الوثير؟

? لا، ولا شيء من ذلك، إنهم رِفاقي في التدريس في الرياض، تعرَّفوا في زمن سابق وفي زيارات سابقةٍ على أيتام في حَلَب، فأَلزموا أنفسهم بكفالتهم؛ يَجمعون مِن كل أستاذ في كل شهر ثَلاثَمائة ريال، وفي نهاية العام يَتأبَّطون ما جَمعوا، ويُسافر البعض منهم إلى أداء حقوق الأيتام.

? ولكنهم من الرياض، والمسافة بعيدة!

 

إذا أردتم الحديث عن الصَّفوة، فهؤلاء وأمثالهم هم الصفوة، وهؤلاء وأمثالهم هم المَعالم الحقيقية، وهؤلاء وأمثالهم خِيرة الناس.

 

نَعم، هم خِيرة الناس وصفوتُهم في زمن تجذَّرت فيه قِيَم المادَّة، وتعملقَت الأنا وحُبُّ الذات، ولكنهم ارتقَوْا بأفعالهم وبمالهم القليل، فهم لَيسوا مِن الأغنياء، وليسوا الأَغْنى مِن الناس، كأنَّهم سمعوا قولَ المقنَّع الكِنْدي:

لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً ??? حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ

 

قطَعوا عن أنْفُسهم بعْضَ مالِهم ومالِ أبنائهم، وقطعوا الفَيَافي والقِفار، وقاموا برحلة تَزيد على ألف وأربعمائة كيلو متر؛ ليُسْهِموا في كفالة يتيم، واللهِ إنَّ فِعْلهم لعظيم، وكرَمَهم لكبير، أصحاب الأيادي البيضاء والقلوب الكبيرة.

 

لم أشعر إلا وأنا أَسْبح في دموعي؛ فرَحًا بما أسمع، هذه القَصصُ وأمثالها تَجعلنا نَطير فرَحًا بما نسمع؛ فالخير باقٍ في هذه الأمَّة، وأهل الخير هؤلاء وأمثالهم - الأقرَبُ إلى القلب؛ فهؤلاء هم أصحاب السَّبْق، وهؤلاء هم الطَّيِّبون المتنافسون في الخير، أنْعِم بهم مِن شباب عَرَف طريقَه! وأنعِم بهم مَن نَشأة!

 

? أتعني أنَّهم ليسوا وفْدَ سياحة؟

? لا.

 

? إذًا فأُسَمِّيهم أنا؛ إنَّهم وَفْد الخير.

جعل الله عَمَلهم في ميزان حسناتهم، وثمَّره لهم، وجعلهم في علِّيِّين؛ كفَلُوا أيتامًا من الأمَّة.

 

ولكنَّني أشعر أنَّ هؤلاء الشبابَ الطامح المحِبَّ للخير - لهم دَيْن في رقبتي، وأرى أنْ أَذْكُرهم بخير، وأدعُوَ لهم، وأكتب عنهم؛ إنَّهم يمثِّلون الشَّطْر الثاني من بيت الشاعر أحمد شوقي، لا يمثِّلون أصحابَ الشَّطر الأول، وهو يصف شَباب هذه الأيام:

شَبَابٌ قُنَّعٌ لاَ خَيْرَ فِيهِمْ ??? وَبُورِكَ بِالشَّبَابِ الطَّامِحِينَا

 

نعم، هؤلاء هم الشباب الطامح إلى مَرْضاة ربِّه، السَّائرون على هَدْي نبيهم - عليه الصلاة والسلام - سَمِعوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) وأشار بالسَّبابة والوُسْطى، وفرَّجَ بينهما شيئًا؛ صحيح البخاري 4998.

 

مما يَسُرُّ - أيها السادة - أنَّهم وصَلوا قُوَّتَهم المادِّية ببعضها، فكانوا في القِمَّة، أهذه القمة خيرٌ أمْ تسَلُّق إيفرست؟!

وشتَّان بين مَن يُتْعب نفسه في العُلو ليجلس على صخرة، وبين من يَضع نفسه في الرِّفعة والسمو.

فِعْلهم رسالةٌ، ومَعلَمٌ للشباب الراغب الطامح؛ رسالة! نعم؛ لأنَّها أُنموذج يقدَّم، ومَعْلم؛ لأنه منارةٌ لمن أراد الاقتداء بهم، والتأسِّي بفعلهم، هم أصحاب النفوس الكبيرة:

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ??? تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ

???




القصة الثانية والدرس الثاني لممرِّضة فيليبِّينيَّة اسمها سانا، تَعمل في جُدَّة في أحَد مستوصفاتها مرتبطة بشاب فيلبيني مهندس مُسْلم.

 

هي تعمل في جُدَّة، وهو يَعمل في مكَّة المكرمة، لا يَراها ولا تراه، تَفصل بينهما مسافةٌ لا تتجاوز مائة كيلو متر، راتِبُها لا يتجاوز ألفَيْ ريال، تأخذ منه مائتي ريال مصروفًا لها، والباقي ماذا تفعلين به يا سانا؟

? أُرْسله إلى أقربائي.

? وماذا يَفعل أقرباؤكِ؟

? إنهم يتعلَّمون.

 

? وكم عددُهم؟

? أنا أكْفُل ثمانيةً، أُرْسل لكلِّ واحد منهم أو منهنَّ ما يعادل مائتي ريال.

 

? وزوجُك يجمع لزواجكما؟

? لا، زوجي يكفل ثمانيةً من أقربائه أيضًا.

 

? وكم يَستغرق هذا المشروع؟

? نحن في العام الثَّالث.

 

? أتَعْنِين أنَّكم تدفعون لهم منذ ثلاثة أعوام؟

? نعم.

 

? ومشروعُكما؟

? مشروعنا! أتَعْني الزواج؟

? نعم.

? هو قيد الإنجاز، سنبدأ فيه بعد سنتين وثلاثة أشهر.

 

? وهل ستُنْجبين؟

? نعم.

 

? وكم ستنجبين؟

? عشرةً أو أكثر بإذن الله.

 

كانت تشتري في أول الشهر ما يَكفيها من الأرز لشهر؛ حوالي 5 كجم، وربَّما استدانت بعضَ المال حتى بداية الشهر القادم، أيُّ شابٍّ زوجُها! وأيُّ فتاةٍ هي!

تتَّصل في العاشر من كل شهر بأهلها في مندناو - إحدى أكبر الجُزُر الإسلامية في الفلبين - وعندما تعْلَم أنَّ تحويل المال إلى أقربائها وقريباتها قد وصل، تَبكي فرَحًا، وتُمْضِي أيامًا بَعْدها سعيدةً، لِعَمَلها متْقِنَة، وبشهادة مرؤوسيها هي الفُضلى، ولا يَعْدل عملَها اثنتان مِن أقرانها.

 

ما الذي جعل شابًّا وشابَّةً في مقتبل العمر وفي زَهْرة الصِّبا، يؤجِّلانِ زَواجهما في سبيل تعليم أقربائهما؟

الجواب عن هذا السؤال هو الدَّرْس الثاني بعد الدرس الأول، والذي علينا إتقانُه، وفي الحقيقة هما وَجْهان لعُمْلة واحدة، هي الطِّيب والإحسان.

 

هؤلاء هم الأبطال الحقيقيُّون، هؤلاء هم الصَّفوة، جمَعهم في البطولة حبُّهم لهذا الدِّين رغم اختلاف الأماكن، هؤلاء هم الذين يستحِقُّون التَّحية والتقدير لا أرباب الرِّياضة والفن، هؤلاء مَن ينالون الاحترام، هؤلاء هم المعلِّمون؛ لأنهم النِّقاط المضيئة في حياتنا، والتي لو كثرت لعمَّ الخيرُ العبادَ والبلاد.

تُوجِّههم عقولٌ راشدة، ونِيَّات طيِّبة، وقلوب كبيرة، نِعْمَ المَسارُ مَسارُهم، ونِعم الأسلوبُ أسلوبُهم، ونعم الطريقة طريقتهم.

فجَزاهم الله خيرًا، وجزاهم الله خيرًا، وجزاهم الله خيرًا، وكمِثْل هذا فلْيَعمل العاملون.


"
شارك المقالة:
31 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook