دور التدريس والإفتاء في الدعوة إلى الله عند الحافظ ابن كثير

الكاتب: المدير -
دور التدريس والإفتاء في الدعوة إلى الله عند الحافظ ابن كثير
"دور التدريس والإفتاء في الدعوة إلى الله
عند الحافظ ابن كثير

 

أولًا: التدريس:

من الأساليب المهمة والنافعة للناس تعليمُهم أمورَ دينهم، ونشر العلم بينهم، عن طريق التوجيه والإرشاد وتدريس العلوم النافعة.

 

وابن كثير رحمه الله تولَّى التدريس، فكان من الأعمال الأساسية في حياته، وحازت على جلِّ وقته، فنفع الله بعلمه، وتخرَّج على يديه عددٌ كبير من التلاميذ والطلاب، يقول تلميذه ابن حجي: وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة تردُّدي إليه إلا أخذت منه واستفدت منه، وقد لازمتُه ستَّ سنين[1].

 

وقد أمضى رحمه الله في التدريس وقتًا ليس بالقصير من عمره، سواء في المدارس أو المساجد، وكان له في اليوم الواحد ستة مواعيد يُقرأ عليه فيها، أولها بمسجد ابن هشام بكرة قبل طلوع الشمس، ثم تحت النسر، ثم بالمدرسة النورية، وبعد الظهر بجامع تنكز، ثم بالمدرسة العزية، ثم بالكوشك..... إلى أذان العصر، ثم من بعد العصر بدار ملك الأمراء، إلى قريب الغروب[2].

 

كما يدرس في الجامع الأموي تفسير القرآن العظيم، فقد جاء في البداية والنهاية: وفي صبيحة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شوال سنة سبع وستين وسبعمائة حضر الشيخ العلامة عماد الدين بن كثير درس التفسير الذي أنشأه ملك الأمراء نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكي بغا... واجتمع القضاة والأعيان، وأخذ في تفسير سورة الفاتحة، وكان يومًا مشهورًا، ولله الحمد والمنَّة، وبه التوفيق والعصمة[3].

 

ومن المدارس التي درَّس ابن كثير وتولى مشيختها:

1- المدرسة النجيبية[4]: وبدأ التدريس بها يوم الخميس الحادي عشر من جمادى الأولى سنة 739هـ [5].

 

2- دار الحديث الأشرفية: بناها الأشرف موسى بن الملك العادل الأيوبي، وبنى بجانبها مسكنًا للشيخ الذي يدرس فيها، وأنشأ لها خزانة كتب أوقَفَها عليها، وقد درَّس فيها ابن كثير، لكنه لم يستمر فيها طويلًا، فبقي فيها مدة يسيرة، ثم أُخذت منه[6].

 

3- المدرسة الصالحية: وقد وَلِيَها ابن كثير بعد وفاة شيخه الذهبي سنة 748هـ، وفي ذلك يقول: وفي يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة حضرتُ تربة أم صالح رحم الله واقفها، عوضًا عن الشيخ شمس الدين الذهبي، وحضر جماعة من أعيان الفقهاء وبعض القضاة، وكان درسًا مشهودًا، ولله الحمد والمنة[7].

 

4- المدرسة التنكزية: بنى هذه الدار نائب الشام سيف الدين تنكز، وجعلها دار قرآن وحديث[8]، وقد صرح الحسيني بتولي ابن كثير مشيخة الحديث بالتنكزية بعد الذهبي[9].

 

5- المدرسة الفاضلية: وقد ذكر ابن حجر رحمه الله أن ابن كثير قد تولى تدريس الفاضلية، فقال في ترجمة شمس الدين محمد الموصلي[10] المتوفي سنة 774هـ: وولي تدريس الفاضلية بعد ابن كثير[11].

 

6- دار الحديث الأشرفية الجوانية: وقد صرح تقي الدين بن قاضي شهبة أن ابن كثير ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية، فقال: وبعد موت السبكي ولي ابنُ كثير مشيخة دار الحديث الأشرفية مدة يسيرة، ثم أُخذتْ منه[12].

 

7- المدرسة النورية الكبرى: وأنشأها الملك نور الدين محمود زنكي رحمه الله سنة 563هـ[13]، وقد درس ابن كثير في هذه المدرسة، وكان موعدهم قبل صلاة الظهر من كل يوم[14].

 

وغيرها من المدارس الكثيرة، إضافة إلى مشاركته في عضوية لجان الامتحانات التي كانت تُعقَد في عصره لامتحان الصبيان والشباب النابهين؛ فمثلًا ذكر في حوادث سنة 763هـ أنه في يوم 20 شعبان من هذه السَّنة دُعي مع مجموعة من العلماء والمحدِّثين واللغويين والأدباء وغيرهم لامتحان بدر الدين ابن الشيخ كمال الدين الشريشي، وكان يحفظ كثيرًا من شواهد اللغة، فأحضروا نيفًا وأربعين مجلدًا من كتاب المنتهى في اللغة للتميمي البرمكي، واجتمعنا كلنا، وأخذ كل منا بيده مجلدًا من تلك المجلدات، ثم أخذنا نسأله عن بيوت الشعر المستشهَد عليها بها، فينشرُ كلًّا منَّا ويتكلم عليه بكلام مبين مفيد، فجزم الحاضرون والسامعون أنه يحفظ جميع شواهد اللغة ولا يشذ عنه فيها إلا القليل الشاذ، وهذا من أعجب العجائب، وأبلغ الإغراب[15].

 

وابن كثير رحمه الله سلك في تعليمه وتدريسه في المدارس وغيرها طرقَ التعلم المختلفة والمتنوعة، وبالأساليب الواضحة السهلة، متسمًا بالجودة والإحاطة بالمسألة، مبينًا للمستمع محبوبَ الشارع ومكروهَه، وما الطريق إلى تحصيل المحبوب، وإلى دفع المكروه أو تخفيفه، وتطبيق الأمور الواقعية على القواعد الشرعية؛ ليتم فهمها؛ لأن أكثر الشرائع الظاهرة والباطنة، لا يمكن قياسُها ولا العمل بها، إلا بتعلم أهل العلم وتذكيرهم بكل وسيلة وبكل طريقة ومناسبة؛ لأن المقصود من استخدام الوسائل والطرق المفيدة من قِبَلِ أهل العلم هو إيصال العلم للناس، ورفع الجهل عنهم قدر الإمكان[16].

 

فواجب الدعاة إلى الله اليوم أن يحرصوا على تعليم الناس وتبصيرهم بأمور دينهم، بالوسائل والأساليب المختلفة، سواء كان ذلك في المدارس أو المساجد، أو وسائل الإعلام المختلفة كالإذاعة والتلفاز، أو من خلال الدورات العلمية، أو تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وغير ذلك من الأساليب المتنوعة والمفيدة.

 

ثانيًا: الإفتاء:

المفتي هو من يتصدى للفتوى بين الناس، وفقيه تُعَيِّنه الدولة ليجيب عما يشكل من المسائل الشرعية، والجمع مُفْتُون[17]، وأفتى الفقيه في المسألة: إذا بيَّن حكمها، واستفتيتُ: إذا سألتَ عن الحكم؛ قال تعالى: ? يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ? [النساء: 176]، ويقال منه: فتوى وفتيا[18].

 

والمستفتي هو السائل عن حكم الشرع في مسألة من المسائل.

 

والإفتاء واجب من واجبات العلماء والفقهاء، وهو في حقيقته تبليغ عن الله تعالى، وإخبارٌ عما شرَعَه لعباده من أحكام؛ ولذلك لا بد لمن يتصدر للفتوى أن تتوفر فيه شروط الإفتاء، فلا يحل لأحد أن يُفتيَ في دين الله إلا رجلًا عارًفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، ومحكَمِه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيِّه ومدَنيِّه، وما أريدَ به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرَف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر وما يحتاج إليه للسُّنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا، فله أن يتكلم ويُفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا، فليس له أن يُفتي[19].

 

وابن كثير رحمه الله ممن توفرت فيهم شروط الفتوى بشهادة علماء عصره وشيوخه وتلاميذه، قال عنه ابن حبيب[20]: وأطرب الأسماع بالفتوى وشَنَّف[21]، وقال أيضًا: وطارت أوراق فتاواه إلى البلاد[22]، وأطلق عليه شيخه الذهبيُّ لقب الفقيه المفتي[23]، وقال أيضًا: الإمام المفتي البارع[24]، وقال ابن تغري بردي والشوكاني: وأفتى ودرَّس[25]، وقال الحسيني: وأفتى ودرَّس وناظر[26].

 

وهذا يدل - كما يقول الدكتور الزحيلي - على تمكُّن ابن كثير رحمه الله تعالى بالفقه ومعرفة الأحكام الشرعية، وإخلاصه في علمه وعمله، وثقة الناس به، وأخذ الطلاب عنه في الفقه والإذن بالفتوى، وتوجيه القضاة والحكام الفتوى له في القضايا المهمة والخطيرة[27].

 

ومما يدل على علوِّ منزلته في هذا المجال أن الأمراء والحكام كانوا يطلبون منه الرأي والمشورة والفتوى في المسائل التي تهمُّ الناسَ، وكثيرًا ما يَدْعونه للمشاركة مع غيره من المفتين في بحث القضايا والنوازل الاجتماعية والسياسية، أو لحضور المجالس التي تُعقَد للفصل بين نزاعات العلماء وخلافاتهم[28].

 

ومما يؤسف له أنه لم يكن هناك فتاوى مدوَّنة لابن كثير، ولعلها قد فُقدت فيما فُقد من مؤلَّفاته؛ كالأحكام الكبير والصغير وشرح التنبيه في فروع الشافعية، وتخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وغيرها.

 

ولعل ما أورده من خلال كتابه التفسيرِ لبعض الأحكام الفقهية والأصولية، ومناقشته لأقوال المجتهدين الفقهاء، وبيان الصحيح منها، والراجح من غيره[29]، أو ما ذَكَر من بعض الوقائع - يجعلنا نتعرف على بعض فتاواه وآرائه الفقهية، ومواقفه الاجتماعية والسياسية.

 

فواجب الدعاة اليوم السير على خطى العلماء والمصلحين أمثال ابن كثير، وأن يتخصص فريقٌ منهم لطلب العلم الشرعيِّ وتحصيله؛ حتى يصلوا إلى مستوى علمي، يستطيعون من خلاله تعليمَ الناس أحكامَ دينهم، والإجابة على تساؤلاتهم، لا سيما في هذا العصر الذي كثُرت فيه الحوادث والنوازل والمستجدات في شتى أنواع الحياة.




[1] إنباء الغمر 1/ 39، طبقات المفسرين 1/ 111، وانظر ابن كثير الدمشقي، للدكتور الزحيلي ص 146، مرجع سابق.

[2] البداية والنهاية 18/ 699، عند حوادث سنة 766هـ.

[3] البداية والنهاية 18/ 719.

[4] النجيبية: مجاورة للمدرسة النورية، وضريح نور الدين الشهير من جهة الشمال في سوق الدقاقين المتفرع من شارع مدحت باشا بدمشق، وأقام ابن كثير منذ قدومه لدمشق سنة 707هـ، وتحولت إلى دار سكن بعد ذلك، انظر الدارس في تاريخ المدارس 1/ 468، وانظر ابن كثير الدمشقي، للدكتور محمد الزحيلي ص 101 مرجع سابق.

[5] البداية والنهاية 18/ 383.

[6] الدارس في تاريخ المدارس 1/ 36.

[7] البداية والنهاية 18/ 500.

[8] المرجع نفسه 18/ 290.

[9] ذيل تذكرة الحفاظ ص 58.

[10] هو محمد بن محمد بن عبدالكريم الموصلي شمس الدين، نزيل دمشق، وكان أكثر مقامه بطرابلس، ثم قدم دمشق، وولي خطابة جامع يلبغا يسيرًا، وتصدر بالجامع الأموي، قال فيه ابن حبيب: عالم علت رتبته الشهيرة، وبارع ظهرت في أفق المعارف شمسه المنيرة، وبليغ يثني على قلمه ألسنة الأدب، وخطيب تهتز لفصاحته أعواد المنابر من الطرب، كان ذا فضيلة مخطوبة، وكتابة منسوبة، وخبرة بالفنون الأدبية، ومعرفة بالفقه واللغة العربية، له نظم المناهج ونظم المطالع وعدة من القصائد النبوية، توفي سنة 774هـ (إنباء الغمر بأبناء العمر 1/ 68)

[11] إنباء الغمر بأبناء العمر 1/ 68.

[12] طبقات ابن قاضي شهبة ص 373.

[13] الدارس في تاريخ المدارس، للنعيمي 1/ 466.

[14] البداية والنهاية 18/ 699.

[15] انظر البداية والنهاية 18/ 661، 662، في حوادث سنة 763هـ.

[16] انظر الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة، للشيخ عبدالرحمن السعدي ص 100-101، طبعة مكتبة المعارف بالرياض الطبعة الثالثة 1400هـ.

[17] المعجم الوسيط 2/ 674.

[18] معجم مقاييس اللغة 4/ 174.

[19] إعلام الموقعين، لابن القيم 1/ 46 طبعة دار الجيل سنة 1973م.

[20] هو طاهر بن الحسن بن عمر بن حبيب، أبو العز بن بدر الدين الحلبي، المعروف بابن حبيب، فاضل، وُلد ونشأ بحلب، وكتب بها ديوان الإنشاء، وانتقل إلى القاهرة، فناب عن كاتب السر، وتوفي فيها عن زهاء سبعين عامًا، من كتبه: ذيل على تاريخ أبيه، ومختصر المنار في أصول الفقه، توفي سنة 808 هـ (الأعلام 3/ 221).

[21] شذرات الذهب 6/ 231، وشنف الآذان بكلامه: أمتعها، وشَنَّف كلامه: زيَّنه، المعجم الوسيط 1/ 496.

[22] إنباء الغمر 1/ 39.

[23] طبقات الحفاظ 4/ 1508.

[24] إنباء الغمر 1/ 39.

[25] المنهل الصافي 2/ 2415، البدر الطالع 1/ 153.

[26] ذيل تذكرة الحفاظ ص 58.

[27] ابن كثير الدمشقي ص 109 مرجع سابق.

[28] الإمام ابن كثير للندوي ص 149، مرجع سابق.

[29] انظر مثلًا التفسير 2/ 33، 1 / 552.

والبداية والنهاية 18/ 561 في أحداث 755 هـ ـ 18/ 571 في أحداث سنة 454هـ، 18/ 706 في أحداث 766هـ.

وهناك فتوى ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية حول الدجال والسؤال عن الحكمة في أن الدجال مع كثرة شره وفجوره، وانتشار أمره، ودعواه الربوبية وهو في ذلك ظاهر الكذب والافتراء، وقد حذَّر منه جميع الأنبياء، كيف لم يُذكَر في القرآن ويُحذَّر منه، ويصرح باسمه وينوَّه بكذبه وعناده؟ فقال ابن كثير رحمه الله: والجواب من وجوه، أحدها: أنه أشير إلى ذكره في قوله تعالى: ? يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ? [الأنعام: 158].

والثاني: أن عيسى بن مريم ينزل من السماء الدنيا فيقتل الدجال. فعلى هذا فيكون ذكر نزول المسيح عيسى بن مريم إشارة إلى ذكر المسيح الدجال مسيح الضلالة، وهو ضد مسيح الهدى، ومن عادة العرب أنها تكتفي بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر.

والثالث: أنه لم يُذكَر بصريح اسمه؛ احتقارًا له حيث يدَّعي الإلهية وهو بشر...

فإن قلتَ: فقد ذُكر فرعون في القرآن وقد ادَّعى ما ادعاه من الإلهية والكذب والبهتان، حيث قال: ? أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ? [النازعات: 24]، وقال: ? يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ? [القصص: 38]؟

فالجواب: أن أمر فرعون قد انقضى وتبيَّن كذبُه لكل مؤمن وعاقل، وأمر الدجال سيأتي وهو كائن فيما يستقبل فتنة واختبارًا للعباد، فتُرك ذكره في القرآن احتقارًا له وامتحانًا به؛ إذ أمره وكذبه أظهَرُ من أن يُنبَّهَ عليه ويُحذَّر منه، وقد يُترك الشيء لوضوحه... إلخ الفتوى، البداية والنهاية 19/ 195-197.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook