إنّ ذا النون لقبٌ لنبي الله يونس -عليه السلام-، ويُقصد بالنون الحوت، وجاءت تسميته بهذا الاسم لأنّ الحوت التقمه، وعليه فإنّ ذا النون هو صاحب الحوت، وتجدر الإشارة إلى أنّ الله -تعالى- بعث نبيّه يونس -عليه السلام- بالدعوة لعبادته وحده دون الإشراك به، إلّا أنّ قومه كذبّوه وتمرّدوا عليه وأصرّوا على كفرهم وعنادهم، وحين رأى يونس أنّ القوم لم يتغيّر حالهم خرج من بينهم وتوعّدهم بالعذاب، فتيقّنوا من حلول العذاب بهم، وبدؤوا بالتضرع إلى الله ليكشف عنهم العذاب، فرفع الله عنهم العذاب برحمته وقوّته.
ورد ذكر نبي الله يونس في العديد من سور القرآن الكريم، منها: النساء والأنعام والصافات، إضافةً إلى السورة التي سُمّيت باسمه؛ سورة يونس، وقد ورد ذكره فيها باسمه صريحاً دون اللقب، وورد ذكره بلقبه مرتين في القرآن الكريم؛ إحداهما في سورة الأنبياء بلقب "ذي النون"، والأخرى في سورة القلم بلقب "صاحب الحوت"، وتجدر الإشارة إلى أنّ جميع الأنبياء والرسل -عليهم السلام- أُرسلوا بالدعوة إلى توحيد الله -تعالى-، وما ينبني على ذلك من تصحيح العقائد والانحرافات التي وقع بها الأقوام، وما من نبيٍ إلّا وقال لقومه: (اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ)، كما كان الرسل قدوةً لأقوامهم في تبليغ ما أمرهم الله به، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ومن مهام الرسل الأساسية أيضاً إقامة الحُجّة على أقوامهم، قال -تعالى-: (وَلَو أَنّا أَهلَكناهُم بِعَذابٍ مِن قَبلِهِ لَقالوا رَبَّنا لَولا أَرسَلتَ إِلَينا رَسولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبلِ أَن نَذِلَّ وَنَخزى)، وكان واجباً على الأمم طاعة رسلهم وما يبلّغوا به، وإلّا كان خطاب خزنة جهنم لهم يوم القيامة: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)، ومن الأمور المهمة التي يجدر ذكرها أنّ النبوة لا تُكتسب اكتساباً؛ أي لا يُمكن للعبد أن يجتهد ليبلغ درجة النبوة بطاعةٍ أو مالٍ أو جاهٍ، وإنّما هي اصطفاءٌ واختيارٌ وفضلٌ من الله، ويكون ذلك بعد تهيئتهم لتحمّل مشاقّ الدعوة، كما أنّهم من أكمل الناس أجساداً، وأبلغهم لساناً، وأحسنهم أخلاقاً ونسباً، وأرجحهم عقلاً، كما أنّ الله اختصّ الرجال بالنبوة، قال -تعالى-: (وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ إِلّا رِجالًا نوحي إِلَيهِم).
بعث الله -عزّ وجلّ- نبيه يونس -عليه السلام- برسالة توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهي الرسالة التي أرسل الله رسله بها، ولمّا عرف قومه ما جاء به إليهم رفضوا الإذعان له، فأخبرهم بحلول العذاب بهم خلال ثلاثة أيامٍ، وما كان من يونس إلّا أن خرج من بينهم باليوم الثالث قبل أن يأذن الله -تعالى- له بالخروج، وبعد خروجه بدأت علامات العذاب والهلاك بالاقتراب منهم، فتأكّدوا من صدق ما جاء به يونس إليهم، وأنّ العذاب واقعٌ بهم لا محالة، فما كان منهم إلّا أن صدّقوا بدعوة يونس لهم، فتوجّهوا إلى الله تائبين نائبين مستغفرين، فبسط الله -سبحانه- عليهم رحمته بعد أن كاد يوقع بهم عذابه، وتمنّوا عودة يونس -عليه السلام- إليهم ليعيش بينهم هادياً وناصحاً، إلّا أنّ يونس استمر في طريقه وركب السفينة، وهاج البحر حين كانت السفينة في نصف البحر، فاقترح من كان بالسفينة التخفيف من حِملها حتى لا تغرق بالتخلّص من بعض مَن هم على ظهرها، ويكون ذلك بالقُرعة فيما بينهم، فخرجت القرعة على يونس -عليه السلام-، إلّا أنّهم رفضوا إلقاءه في البحر لما وجدوا فيه من الخصال الحميدة، فاقترعوا ثانيةً فخرجت القرعة عليه، ثمّ اقترعوا ثالثةً فخرجت عليه أيضاً، فعلم يونس -عليه السلام- أنّ ذلك لحكمةٍ أرادها الله -تعالى-، فقد خرج من بين قومه قبل أن يأذن الله له بالخروج، فخضع لما أراده الله وألقى بنفسه في البحر
بعدما ألقى يونس نفسه في البحر أرسل الله -تعالى- له حوتاً فابتلعه، وقد حماه الله من أي ضررٍ قد يصيبه من الحوت من كسرٍ أو خدشٍ، فكان بطن الحوت بالنسبة ليونس بمثابة السجن، وكان محاطاً بظلمة بطن الحوت فوق ظلمة البحر، وبدأ يذكر ربه ويستصرخه منادياً بكلمة التوحيد، ومعتذراً عمّا بدر منه من خروجه من بين قومه دون أن يأذن الله له، فقال: (لَّا إِلَـهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، فاستجاب له ربه دعاءه، فألقى الحوت يونس إلى الخارج، وكان يونس -عليه السلام- مريضاً من هول ما رآه في بطن الحوت، وأنبت الله -سبحانه- له شجرةً يأكل منها ويستظلّ بها.
بعدما تعافى يونس أخبره الله -تعالى- بتوبة قومه وقبوله لها، وقد أمره الله -تعالى- بالعودة إليهم هادياً وموجّهاً، فنفّذ يونس أمر ربه وعاد إليهم، وأنعم الله عليهم من خيره وفضله، وعاشوا مع نبيهم مهتدين سائرين على صراط ربهم المستقيم، وبقوا على ذلك الحال إلى أن انحرفوا عن الصراط المستقيم فبعث الله عليهم العذاب ودمّر عليهم مدينتهم.
دلّت قصة يونس -عليه السلام- على العديد من الدروس والعِبر، وفيما يأتي بيانٌ لها بشكلٍ مفصّلٍ:
كلمة الدعاء في القرآن الكريم يُقصد بها أحد معنيين؛ إمّا دعاء العبادة وإمّا دعاء الطلب، وفي قول يونس -عليه السلام-: "لا إله إلّا أنت" فيه إقرارٌ بوحدانية الله -تعالى- فهو واحدٌ لا ثاني له، كما لا يستحق أحدٌ غيره العبادة، والله وحده المستحق للخضوع والذل، وقول يونس: "إنّي كنت من الظالمين" اعترافٌ بالذنب والتقصير ووصف السائل لحال نفسه بأنّه ظالمٌ، وهذا الوصف المناسب في مقام المناجاة، كما أنّه أدبٌ في الخطاب مع المسؤول، أمّا قوله: "سبحانك" ففيه ترفيعٌ لله -تعالى- عن الظلم، ولذلك فإنّ من الآداب المتعلقة بالدعاء وطلب الحاجات من الله الاعتراف والإقرار بعدله وإحسانه على عباده أولاً، إذ إنّ من غير الممكن أن يظلم الله -تعالى- أحداً من خلقه، كما أنّ في دعاء يونس -عليه السلام- لربه تسبيحٌ وتهليلٌ له، وفي فضل ذلك رُوي عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: (أَحَبُّ الكَلامِ إلى اللهِ أرْبَعٌ: سُبْحانَ اللهِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ)، والتسبيح ينفي النقص والسوء، ويثبت الكمال والحُسن، والتهليل فيه غاية الإجلال لله والإكرام له، كما أنّ التسبيح يقترن به التحميد، والتهليل يقرن به التكبير، وذلك كلّه يتضمّن كمال المدح والثناء لله -تعالى- ببيان معاني أسمائه وصفاته العليا.
إن المتأمّل في قصة يونس -عليه السلام- يجد فيها الكثير من التوصيات الواجب اتّباعها من قبل الداعية في دعوته إلى الله، ومن تلك الوصايا:
موسوعة موضوع