رحلة روح

الكاتب: المدير -
رحلة روح
"رحلة روح

 

ألقى السلام، ثم باشر السؤال:

يا تُرى من أي الأبواب دخل الأمين صلى الله عليه وسلم حين حكَّمَتْه بطون قريش في أمر الحَجَر الأسود؟

يبدو أن السؤال حرَّكَ أشجانًا، وأثار فضولًا لمعرفة الإجابة، استقرَّ الرأي، واطمأنَّ القلب أن الأمين صلى الله عليه وسلم مرَّ من ها هنا، ووضع رجليه الشريفتين على هذا الموضع أو بالقرب منه، لا شك، لا يهمُّ هنا أن تجد أثر القدم بقدر ما تجد دعوتُه وأخلاقُه أثرًا طيبًا في سيرتك وسريرتك.




يحتشد التاريخ في هذه البقعة المباركة بكل تفاصليه منذ أن أمر اللهُ خليلَه وابنَه عليهما الصلاة والسلام ببناء هذا البيت المبارك، وصدى ذلك النداء يترنَّم به الكون بكله.




تسلَّلَ نسيمٌ لطيفٌ بين هذه المواكب والحشود، ليُلامس الطائفين والركَّع السجود، ينساب بسلاسة من تلك الشرفات، وينهمر من أعالي المنارات، ليشارك الساجد في دعائه، والراكع في تعظيمه، والطائف في ابتهاله، والقائم في تلاوته، يمرُّ هذا النسيم ليُشارك الجميع في إقامة هذه الشعائر المقدسة، وكأنه يربِّت الأكتاف، ويقبِّل الجبهات.




أرى ذلك الكهل الذي أحنى ظهرَه دهرُه، واشتعل بالشيب رأسُه وشعرُه، وقد ارتسمت في وجهه كلُّ تضاريس الحياة حلوها ومرُّها، أراه مُتَّكئًا بيده المرتعشة على منسأته، يمشي ويهرول بنشاط وكأن الحياة وهبت له من جديد، وعادت به إلى الوراء، يطوف بالبيت العتيق، ويسأل الله مغفرة لذنب وسترًا لعيب، وعملًا صالحًا يختم به وجوده في هذه الحياة، وأن يقيم الله انحناء ظهرٍ أثقلته الذنوب وهدَّتْه الأمراض.




هنا تُرفَع الدعواتُ، وتُسكَب العبرات، وتُقال العثراتُ، في هذا المكان - وما أجملَه! - تنجلي الغموم، وتُزاح الهموم.




بين قائم وراكع، وساجد وتالٍ، وطائف وداعٍ، ومُحرِم ومتحلِّل تتداخل كل معاني الروعة والقداسة في هذا الجو المشحون بالإيمان والرحمة.




يتساوى الجميع عند هذا البيت، وتتحقَّق المساواة، فلا فضل لرئيس على مرؤوس، ولا لغني على فقير، ولا لوزير على خفير، يتساوى الكل في المظهر، أما المخبر فالفائز الكريم هو التقي ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? [الحجرات: 13].




هنا تذوب كل النعرات، وتنصهر جميع المفاخرات، الناس سواء ((كلكم لآدم وآدم من تراب))




الأبيض والأسود، الأحمر والأصفر، العربي والأعجمي جمعتهم كلمة واحدة ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)).




في هذا الحشد المهيب تتزاخَم الأصوات، وتتزاحم الأجساد، وتعلو الدعوات بكل اللغات واللهجات، بين جاهرٍ ومسرٍّ، جماعاتٍ ووحدانًا، حينها تسبح بحمد ربك الخالق العظيم الذي لا تختلط عليه اللغات، ولا تتشابه عليه الأصوات، فيعطي كل سائل سؤله ? وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ? [الروم: 22].




ألمح طائرًا يغدو ويروح حول الكعبة، ولا أراه إلا طائفًا يسبح بحمد ربه ? تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ? [الإسراء: 44].




يُرفع الأذان، فإذا بالكريم النبيل الحبشي بلال - رضي الله عنه - يمرُّ طيفُه، ويسافر بك الحنين لتراه يصدح بالنداء من فوق الكعبة، وحوله من كان يمتهنه ويُعذِّبه، ولسان حاله يقول: الله أكبر منكم ومن قوَّتِكم، الله أكبر من عذابكم وغطرستكم، الله أعلى وأجلُّ.

ردد بلالٌ على البرية معلنًا
صوتَ الأذان وللأذان خلودُ
الله أكبر ما أجلَّ دويُّها
في كل قلب صاغه التوحيدُ
الله أكبر لو تعمَّق مسلمٌ
في حبِّها ما أثقلته قيودُ

 

أخيرًا:

حين تمْعن النظر قِفْ متأملًا أمام الكعبة، وانظر إلى حشمتها وحيائها وسترها مع كونها جمادًا لا ينطق، إلا أنها تقول للناظر: إن هذا هو اللباس المقدَّس الذي ينبغي لكل عفيفة طاهرة عزيزة أن تحافظ عليه وتتزيَّن به، هنيئًا لكل طاهرة شابهت الكعبة في قدسيتها وعفَّتِها وطهارتها.


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook