رحمة الله في الكون

الكاتب: المدير -
رحمة الله في الكون
"رحمة الله في الكون




انظر إلى السماء، ألا تراها مَمسوكة أن تقع؟ وهذه الأرض لا تَحيد ولا تَميد، فمَن الذي أمسكهما برحمته إلَّا الرحمن؟ ? إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ? [فاطر: 41].

 

وتأمَّل ختام الآية؛ فلولا رحمة الله بعباده حين لم يؤاخِذهم بذنوبهم، ولولا حِلمه ومغفرته لأسقط عليهم السماء؛ ? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ? [فاطر: 45].

 

ومن رحمته أنْ جعل الجبالَ أوْتادًا للأرض، تثبِّتها فلا تضطرب؛ ? وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ? [النبأ: 7]، ? وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ? [النازعات: 32].

 

وهذه الشمس تبلغ حرارة سَطحها (6000) درجة مئوية، وحرارة جوفها تبلغ (20) مليون درجة مئوية، وألْسنة اللَّهب ترتفع عن سطحها إلى نصف مليون كيلو متر، وهي تبتعد عن الأرض قريبًا من (93) مليون ميل، ولا يصِل إلى الأرض من حرارتها إلَّا شيء قليل لا يتجاوز جزءًا من مليون جزء من حرارتها، وهو القَدْر الملائم لحياة البشَر، ولو كانت أقرب إلى الأرض بقليل لاحترقَت الأرضُ وانصهرتْ، أو استحالَتْ بخارًا يتصاعد إلى الفضاء، ولو كانت أبعد من ذلك لأصاب التجمُّدُ ما على سطح الأرض، فمَن الذي برحمته جعلها كذلك؟

 

والقمر في حجمه وبُعده عن الأرض من أظهر ما يدلُّ على رحمة الله، فلو كان أكبر من ذلك بقليل أو أقرب لكان المد الذي يَحدث في البحار كافيًا لغَمْر الأرض بطوفان يعمُّ كلَّ ما عليها[1].

 

ومن رحمته أنَّ كبير الوَحْش لا يعَضُّ صغيره، ويرفع قدَمَه عنه ويعطف عليه، ويحضر طعامَه وشرابه، مع أنَّها وحوش كاسرة وحيوانات مفترسة، وفي الحديث: ((إنَّ لله مائة رحمة، أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنس، والبهائم والهوام؛ فبها يتعاطفون، وبها يتَرَاحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها، وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عبادَه يوم القيامة))، وفي رواية: ((حتى ترفَعَ الدَّابَّةُ حافرَها عن ولدها خشيةَ أن تصيبه))[2].

 

ومن رحمته أن ترى الطَّيرَ تسهر ليلَها لتصطاد حتى إذا استيقظَت أفراخُها صباحًا كان عندهنَّ طعامهنَّ، وفي الحديث عن ابن مسعود: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفَرٍ، فانطلَق لحاجته فرأينا حُمَّرَةً معها فرخان، فأخذنا فرخَيها، فجاءتِ الحُمَّرةُ فجعلَتْ تَفرش، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَن فجَع هذه بولَدِها، ردُّوا ولدَها إليها))[3].

 

ومن رحمته أنْ ذلَّل للإنسان الحيوانَ البهيم، وجعله سميعًا بصيرًا ليبلغ الإنسان حاجته منه: ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ? [يس: 71 - 73].

 

ووالله لا يقطر قطرٌ من السماء، ولا تسقط ورقةٌ من شجرة إلَّا برحمة، ومن رحمته أن ? يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [الروم: 48 - 50].

 

ولذا فما تلك البذرة التي تزرع، فإذا بها دوحة في السَّماء وارِفة الظلال كثيرة الثِّمار تمنح النَّاس ثمارها - إلَّا أثَر من آثار رحمةِ الله.




[1] انظر: مباحث في إعجاز القرآن؛ لـ: د. مصطفى مسلم (195 - 197).

[2] رواه البخاري (6000)، ومسلم (2752) واللفظ له، والحديث من باب التعبير باسم الصفة عن المفعول بها فيسمى المرحوم به رحمة، ولذا في رواية لمسلم: ((خلَق الله مائةَ رحمة))، انظر: الجواب الصحيح (2 / 158)، درء تعارض العقل والنقل (7 / 261، 262)، مجموع الفتاوى (4 / 228).

[3] رواه أبو داود (2675)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2675، 4388)، والسلسلة الصحيحة (25)، وفي النهاية في غريب الحديث (1 / 439): الحُمَّرة بضم الحاء وتشديد الميم، وقد تُخَفَّف: طائر صغير كالعصفور، وفي معالم السنن (3 / 125): قوله (تفرش) أو (تعرش) معناه ترفرِف، والتعريش مأخوذ من فَرْش الجناح وبسطه، والتعريش أن يرتفع فوقها ويظلِّل عليها.


"
شارك المقالة:
25 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook