رقة ولطافة في الخطاب القرآني

الكاتب: المدير -
رقة ولطافة في الخطاب القرآني
"رقة ولطافة في الخطاب القرآني

 

? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ? [الفجر: 27 - 30].

 

بعد أن ساق الله أحوال المكذِّبين المتجبِّرين - عاد وثمود وفرعون وغيرهم - يوم الحشر والحِساب، وما يلاقونه من العنت والشدة والجزع، جاءت هذه الآيات تُخاطب بكل لطف ورقةٍ النفوسَ المؤمنة المطمئنة بذكر الله، التي سكنها اليقين فلم يخالجها شك أو ريب، وأَمِنت يوم الفزع الأكبر، فلا تشعر بخوف أو حزن أو اضطراب.

 

وهو حكاية لحال من اطمأن قلبه بذكر الله وطاعته، إثر حكاية حال مَن اطمأنَّ بالدنيا؛ تفسير أبي السعود (9: 158).

 

يقول الراغب الأصفهاني - رحمه الله -: الطمأنينة والاطمئنان: السكون بعد الانزعاج؛ قال: ? وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ? [الأنفال: 10]، ? وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ? [البقرة: 260]، ? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ? [الفجر: 27]، وهي ألا تصير أمَّارةً بالسوء، وقال تعالى: ? أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? [الرعد: 28]، تنبيهًا أن بمعرفته تعالى والإكثار من عبادته يكتسب اطمئنان النفس؛ معجم مفردات ألفاظ القرآن: (ص: 317).

 

فهي إذًا لفتة جميلة، أن يأتي سبحانه بهذه اللفظة (المطمئنَّة) لا غيرها، المفيدة للسكون بعد الانزعاج في سياق الهلع والخشية والاضطراب، وسياق من خلع قلبه خوفًا من العذاب والحساب والعرض على الله.

 

والسؤال: متى يقال لها هذا الكلام؟

والجواب: قد يكون هذا عند الموت ومُعايَنة السكرات.

 

ومن جميل ما روي: عن سعيد بن جبير قال: قرأ رجل عند رسول الله عليه الصلاة والسلام: ? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ? [الفجر: 27، 28]، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا! فقال النبي: ((أما إن المَلَك سيقولها لك عند الموت))؛ تفسير ابن كثير (4: 511 - 512).

 

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحًا قالوا: اخرجي حميدة أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي وأبشري برَوْح وريحان، ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تَخرُج، ثم يعرج بها إلى السماء فيُفتح لها فيقال: مَن هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة في الجسد الطيِّب، ادخُلي حميدة، وأبشِري برَوْحٍ وريحان، ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله))؛ الحديث رواه ابن ماجه.

 

قال الحسن البصري: إن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنَّت النفْس إلى الله تعالى، واطمأنَّ الله إليها؛ القرطبي (22: 285).

 

ويُمكن أن يقال لها هذا الكلام عند البعث، وقد يقال عند دخول الجنة.

 

ومِن اللطائف المرويَّة: ما جاء عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طير لم يُرَ على خلقته، فدخل نعشَه، ثم لم يُرَ خارجًا منه، فلما دُفن تُليَت هذه الآية على شفير القبر، لا يُدرى من تلاها: ? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ? [الفجر: 28 - 30]؛ تفسير ابن كثير (4: 512).

 

وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهروي - المعروف بشكر - في كتاب العجائب بسنده عن قباث بن رزين أبي هاشم قال: أُسرت في بلاد الروم، فجمعنا الملك وعرض علينا دينه، على أن مَن امتنَعَ ضُربت عنقه، فارتدَّ ثلاثة، وجاء الرابع فامتنع، فضُربت عنُقُه، وأُلقي رأسه في نهر هناك، فرسَب في الماء، ثم طفا على وجه الماء، ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان - يُناديهم بأسمائهم - قال الله تعالى في كتابه: ? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ? [الفجر: 28 - 30]، ثم غاص في الماء، قال: فكادت النصارى أن يُسلموا، ووقع سرير الملك، ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام، قال: وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر المنصور فخلَّصنا؛ تفسير ابن كثير (4: 512).

 

والمتأمِّل في الآيات يجد فيها مِن ضروب الإعجاز والإيجاز ما يُمكن إجماله بما يَلي:

• افتُتح الخطاب بالنداء بـ (يا)، وهو للنداء على البعيد لا للقريب، والقريب يستعمل له أي، فتقول: أي زيدُ، أو الهمزة أ، فتقول: أخالدُ.

 

والسؤال: لماذا جاء بالنداء للبعيد والسياق سياقُ قرب من الحضرة الإلهية والرضوان الرباني؟ والجواب: أنه جعل البُعد في المكان والمنزل بعدًا في المكانة والمنزلة، فهذه الثلَّة سيبلغون شأوًا عظيمًا، ويَسكنون رضًا لا مثيل له، وهو كثير في القرآن، وهذا مِن اللُّطف الإلهي مع هؤلاء القوم، جعلنا الله منهم.

 

• استعمل القرآن الربوبية مضيفًا إياها إلى الذات العلية في قوله: ? ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ?، فلِمَ لَم يستعمل لفظ الجلالة (الله) أو غيره من الأسماء والصفات؟!

والجواب: أن الربوبية تُستعمَل عادةً في سياق اللطف والرقة والإصلاح، وأما لفظة (الله) فتستعمل عادة في سياق الجلال والعظمة؛ فالمناسب هنا استعمال الربوبية؛ لِما في هذا الإكرام الذي سيلقاه هؤلاء من اللطف بهم ما لا يخفى على أحد.

 

• أنَّ مجيء لفظة (عبادي) بالإضافة إلى الذات الإلهية العليَّة فيه من الإكرام والتعظيم لحال هؤلاء القوم ما لا يناله غيرهم؛ فالإضافة فيها تشريف لسموِّهم في العلياء حتى استحقُّوا أن يُضافوا إلى الله الجليل.

 

لكن السؤال: ما معنى هذه الجملة ? فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ?؟

الجواب: ادخلي في جملة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلكهم، فهي كقوله تعالى: ? لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ? [العنكبوت: 9].

 

فهم ليسوا وحدهم في هذه الجنان، وإنما مع إخوانهم على سُرُر مُتقابلين.

 

• عادة ما يأتي في القرآن الوعد بـ: جنة والجنة وجنات جنتان، ولم يعهد في القرآن الوصف بهذه الإضافة إلى الله إلا في هذا الموضع من القرآن الكريم في هذه السورة الكريمة ? وَادْخُلِي جَنَّتِي ?، فهذا مِن ميزات السورة وخصائصها التي انفرَدت بها من دون السور الأخرى.

 

والحكمة من الإضافة هنا: زيادة تشريف لهم ولسكناهم، وبيان علو منزلتهم والكرامة التي حباهم بها الله - جلَّ شأنه - فما تتخيَّل وتتوقع من جنة يُضيفها الله إلى نفسه العليَّة؟!

 

فهم في كنف وضيافة وجوار العلي العظيم، في مقعَد صدق عند مليك مقتدر، فهنيئًا لهم هذه المنازل والمساكن.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ممَّ خُلق الخلق؟ قال: ((مِن الماء))، قلنا: الجنة ما بناؤها؟ قال: ((لَبِنة مِن ذهب، ولَبِنة مِن فضَّة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، مَن يدخلها ينعم ولا يَبْأَسُ، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم))؛ رواه أحمد، والترمذي، والدارمي.


"
شارك المقالة:
18 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook