ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التجرد

الكاتب: المدير -
ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التجرد
"سلسلة ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام
سابعًا: التجرد

 

نتيجة للصِّراع المادِّي الكبير في هذا الزمان، أصبح من الصعب على معظم الناس التجرُّد عن متطلبات الدنيا والزُّهد فيها، وأحد أهمِّ أسباب ذلك هو أنَّ كماليات الدنيا وبهرجتها وماديَّاتها أصبحَت معيارًا لتقويم الناس وتسكينهم في مقاماتهم الاجتماعية؛ فصاحِبُ المال محترَم وإن كان جاهلاً فظًّا غليظًا، وقليلُ المال منبوذٌ محتقر مدفوع بالأبواب وإن كان عالمًا فاضلاً، ومن هنا أصبح مؤشر البوصلة يشير إلى الاتجاه الخطأ؛ لأنَّ القيم الحقيقيَّة فُقدَت، وصار التقويم عكسيًّا.

 

والصحيح الذي يَجب أن يسود هو أنَّ المعيار الحقيقي ذلك الذي ينوء بالبشر عن ملذَّات الدنيا والمبالَغة فيها، وهو ما أثبته نبيُّ الرحمة والخير رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، دلَّني على عمل إذا أنا عملتُه أحَبَّني الله وأحبني الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس))[1]، يقول أبو تمام:

يَصُدُّ عن الدنيا إذا عَنَّ سُؤدُدٌ
ولو بَرَزَتْ في زِيِّ عَذراءَ ناهِدِ
إذا المَرءُ لم يزهَد وقَد صُبِغَت له
بعُصفُرِها الدنيا فَلَيسَ بزاهِدِ

 

والزُّهد الحقيقيُّ ليس زهد المظاهر؛ إنَّما هو زهد الأفعال، وإخراج أمور الدُّنيا الماديَّة من القلب وليس من اليد فحَسب، وعلى هذا الأساس تكون العلاقة (متجردة)؛ ولهذا يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: لقد أتى علينا زمانٌ - أو قال: حينٌ - وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلِم، ثمَّ الآن الدينار والدرهم أحبُّ إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((كم من جارٍ متعلِّق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلَق بابَه دوني فمنَع معروفَه))[2].

 

فإذا هذا قد حدَث في زمان الصَّحابة، فكيف بنا نحن اليوم؟!

وبهذا الفهم الدَّقيق في معنى (الزهد في العلاقة) جاءَت تصرُّفات الصحابة رضي الله عنهم، فقد تصرَّف سعد بن الرَّبيع رضي الله عنه تصرُّفًا يدلُّ على وعيٍ تام تجاه أخيه المسلم، وجاءَت الشَّهادة من أخٍ له في الله جلَّ جلاله، هو عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ قال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: لمَّا قدِمنا المدينة آخَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الرَّبيع، فقال سعد بن الربيع: إنِّي أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصفَ مالي، وانظر أي زوجَتَيَّ هَوِيتَ نزلت لك عنها، فإذا حلَّت، تزوجتَها، قال: فقال له عبدالرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوقٍ فيه تجارة؟[3].

 

وحتى يُفهم الزُّهد في الدنيا على نحوٍ صحيح؛ يَنبغي أن نثبت الحقائق الآتية:

الإعلان وبوضوح على أنَّ الهدف من العلاقة (ليس ماديًّا)، وقد لا يترتَّب عن العلاقة مكاسبُ ماديَّة، ولكنَّها قد تأتي بمكاسب معنويَّة، وهو أمر يَشوب العلاقةَ كما يشوبها التكسُّب المادِّي وبنفس القدر، وهو ما كان يعلن عنه رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه، فيقول أنس بن مالك رضي الله عنه: أتَت امرأةٌ النبي صلى الله عليه وسلم تَشكو إليه الحاجة، أو بعض الحاجة، فقال: ((ألا أدلك على خيرٍ من ذلك؟ تهلِّلين الله ثلاثًا وثلاثين عند منامك، وتسبِّحين ثلاثًا وثلاثين، وتحمدين أربعًا وثلاثين، فتِلك مائة، خيرٌ من الدنيا وما فيها))[4]، فالنبيُّ يوجِّه بوصلة المرأة لأن تكون العلاقة سواء مع الله جلَّ جلاله أو مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، علاقة روحيَّة غير ماديَّة، ربَّما تأتي المكافأة فيما بعد، ولكن الأصل أن تكون العلاقةُ في الله جلَّ جلاله، ومن هذا الفهم الرَّاقي كان دأب الصالحين، وشعار المتَّقين، فمِن زهد الإمام العز بن عبدالسلام[5] وورعِه رحمه الله أنَّه حين دخل على الملك الأشرف وهو في مرضه الذي مات فيه، نصحَه نصيحةَ مؤتمَن، وقد امتثل الملكُ لأمر سلطان العلماء العز بن عبدالسلام رحمه الله، فقبل النُّصحَ وعمل به، فأمر الملِك له بألف دينار مصريَّة، فردها الشيخ عليه ولم يقبلها وقال: هذه اجتماعة لله، لا أكدِّرها بشيء من الدنيا، وودَّع الشيخ السلطان ومضى[6].

 

وقصة العز بن عبدالسلام معروفة يوم خرج من مصر وكان شيخًا قد عتا، كان كل متاعه حمل حمار لا غير، وهو سلطان العلماء وقتها، يقول الشاعر:

وَرُبَّ أَخٍ أصفى لك الدَهرَ ودَّه
ولا أمُّهُ أَدلَتْ إِلَيك ولا الأَبُ
فَعاشِرْ ذَوي الأَلباب واهجُرْ سِواهمُ
فَلَيس بأرباب الجَهالةِ مجنبُ

 

الاستعداد للبذل: لا يكون الزهد حقيقيًّا حتى يكون معه البَذل ومن غير تردُّد؛ فالبذل هو الفاصل والحكم بين البخل والزُّهد، فيحدِّث أحد أصحاب الإمام الليث بن سعد رحمه الله، فيقول: كنتُ عند الليث بن سعد يومًا جالسًا فأتَته امرأة ومعها قدح فقالت: يا أبا الحارث، إنَّ زوجي يَشتكي وقد نُعت له العسل، فقال: اذهبي إلى أبي قسيمة، فقولي له يعطيك مطرًا من عسل، فذهبَت فلم ألبث أن جاء أبو قسيمة فسارَّه بشيء لا أدري ما قال له، فرفع رأسَه إليه فقال: اذهب فأعطها مطرًا، إنَّها سألت بقدرها، وأعطيناها بقدرنا[7]، (والمطر: الفرق، والفرق عشرون ومائة رطل)، يقول أبو العتاهية:

إذا المرء لم يعتق من المال نفسَهُ
تملَّكه المالُ الذي هو مالكُهْ
ألَا إنَّما مالي الذي أنا منفقٌ
وليس ليَ المالُ الذي أنا تاركُه
إذا كنتَ ذا مالٍ فبادرْ به الذي
يحق وإلاَّ استهلكَتْه مهالكُه

 

ومِن بَذل اللَّيث بن سعد رحمه الله أنه كان يَصلُ مالكًا بمائة دينارٍ في السَّنة، فكتب مالكٌ إليه: عليَّ دَينٌ، فبعث إليه بخمسمائة دينارٍ، وكان ابن وهبٍ يقولُ: كتب مالكٌ إلى اللَّيث: إنِّي أريدُ أن أُدخل بنتي على زوجها، فأُحبُّ أن تَبعث لي بشيءٍ من عُصفُرٍ، فبعث إليه بثلاثين حملاً عُصفُرًا، فباع منه بخمسمائة دينارٍ، وبقي عنده فضلةٌ، قال أبو داود: قال قُتيبةُ: كان اللَّيثُ يستغلُّ عشرين ألف دينارٍ في كُلِّ سنةٍ، وقال: ما وجبَت عليَّ زكاةٌ قطُّ[8].

 

تسمية الاحتياجات الماديَّة للحياة: وحين نتكلَّم عن الزُّهد، فلا يعني أنَّنا نتكلَّم عن تجريد الإنسان من كلِّ متطلبات الحياة الأساسيَّة للعيش الكريم، بل لا بدَّ من توفيرها؛ فهي التي تجعل منه إنسانًا (منتجًا)، لا عالَة على غيره.

 

لقد حرَصَت الشريعةُ الإسلاميَّة على توفير مستلزمات أساسيَّة يحتاجها الفرد في حياته، فقد قال رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((من كان لنا عاملاً، فليكتسب زَوجة، فإن لم يكن له خادم، فليكتسِب خادمًا، ومن لم يكن له مَسكن، فليكتسب مسكنًا))، قال أبو بكر - يعني المعافى -: أُخبرتُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من اتَّخذ غير ذلك، فهو غالٌّ أو سارق))[9].

 

فنجد في هذا الحديث واجبات واضِحة على من يتبنَّى أيَّ نوع من العلاقات، فعليه أن يَسعى جادًّا لتوفير هذه المستلزمات لنفسه ثمَّ للآخرين، كحاجة حقيقية من احتياجات الحياة، ويَدخل في هذا الموضوع من يشغِّل النَّاس في مشاريع أو مؤسسات تعود إليه، فليس القصد من عمل الناس أن يُذَلُّوا أو أن يكونوا في حالة فقر وحاجة لضمان ولائهم، إنَّ من يعمل بهذا المبدأ فكأنَّه يطبِّق القاعدة البشعة في التعامل مع الآخرين بقولهم: (جوِّع كلبَك يتبعك)، وهي قاعدة الظالمين والفاسقين.

 

النَّظرة الصحيحة للحياة؛ فإنَّ الحياة ليسَت حلبَة للتقاتل بين الناس من أجل مصالح ماديَّة فانية، ولا هي ساحَة للحرب بينهم، فيَقتل أحدُهم الآخر، ولا هي مسرحًا كبيرًا للتهريج والتمثيل والتزوير كما وصفها أحدُ دعاتها؛ وإنَّما هي فرصة للعبور لِما هو أعظم منها، وهي فسحة زمنيَّة لتقديم ما يمكن من الخير ليوم الامتحان الحقيقي، يقول ابن القيم رحمه الله: (ولا يستقيم الزُّهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين؛ نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصِها وخسَّتها، وألَم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والإنكاد، وآخر ذلك الزَّوال والانقطاع، مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالِبُها لا ينفكُّ من همٍّ قبل حصولها، وهمٍّ حال الظَّفر بها، وغمٍّ وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النَّظرين.

 

النظر الثاني: النَّظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بدَّ، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: ? وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? [الأعلى: 17]، فهي خيرات كامِلة دائمة، وهذه خيالات ناقِصة منقطعة مضمحلَّة.

 

فإذا تمَّ له هذان النظران، آثَر ما يقتضي العقلُ إيثارَه، وزَهد فيما يَقتضي الزهد فيه، فكلُّ أحدٍ مطبوع على ألَّا يَترك النفعَ العاجِل واللذَّة الحاضرة، إلى النَّفع الآجل واللذَّة الغائبة المنتظرة)[10].

 

والزَّهد لا يعني الترفُّع عن الأمور الماليَّة فحسب، بل في الأمور المعنويَّة كذلك، فقد يَلجأ بعضُ من يعيش معهم الفرد لاستخدام أساليب المدح والثَّناء والإطراء له، وخاصَّة الشخصيَّات القياديَّة منهم، والأصل في العلاقة أن تكون بعيدة عن هذا الأسلوب في التعامُل، لقد كان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم يَرفض بل وينهى عن هذه الطَّريقة، فهو يتكلَّم مع من معه فيما يخصه، فيقول لهم: ((لا تُطروني كما أطرَت النَّصارى ابن مريم، فإنَّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله))[11]، وكلُّنا يَعلم أحقيَّته صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنَّه معلِّم الناس الخير، ولما منع رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم من الإطراء، فهو حكم سائر على كلِّ البشر.

 

كما أنَّ رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه حين يكون الأمر لا يخصه صلى الله عليه وسلم شخصيًّا، فالأمر هذه المرَّة متعلِّق بالعلاقة فيما بينهم، فهو نظام عامٌّ في التعامل مع الآخرين، فقد أثنى رجل على رجلٍ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ويلك، قطعتَ عنقَ صاحبك، قطعتَ عنقَ صاحبك))، مرارًا، ثمَّ قال: ((مَن كان منكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكِّي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يَعلم ذلك منه))[12].




وينبغي على الآخرين أن يَحترموا من يَدعو إلى الزُّهد أو يمارسه، فالأمَّة التي تدعو للزهد وتحترم زهَّادها أمَّةٌ محترمة وواعية، لا أن يَحدث العكس، فيُهان الفقير أو الزَّاهد، ويكرم ويُحترم صاحب الجاه والمكانة الدنيويَّة، ففي هذه الحالة ستُهزم الأمَّة وتتمزَّق لا محالة، وكما قال عباس بن الأحنف:

يمشي الفقير وكلُّ شيء ضدُّه
والناس تغلِق دونَه أبوابَها
وتراه مبغوضًا وليس بمذنبٍ
ويرى العداوةَ لا يرى أسبابَها
حتى الكلاب إذا رأَت ذا ثروة
خضعَت إليه وحرَّكَت أذنابَها
وإذا رأَت يومًا فقيرًا عابرًا
نبحَت عليه وكشَّرَت أنيابَها

 

ومن الفهم الصَّحيح لأمور الحياة في جانب الزُّهد التمييزُ بين كِبار الأمور وصغارها، وبين كلِّيات القضايا وجزئيَّاتها أو فروعها، لقد صرنا اليوم نَقع في أمور عظيمة، ونجترح قضايا جوهريَّة ومفصليَّة، قد تتوقَّف عليها قرارات مصيريَّة في حياتنا وحياة الآخرين من غير أن نَشعر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إنْ كنا لنعدها على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الموبقات[13][14].

 

أحيانًا يَصل الصِّراع المادِّي مع الآخرين لدرجة البُغض، وهنا تكون البوصلة قد انحرفَت انحرافًا كبيرًا وخطيرًا؛ لأنَّ هذا الوضع يوقع المبغِض في خروجه عن دائرة الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الحب والبغض من الأعمال القلبيَّة التي لها علاقة بالإيمان بشكلٍ مباشر، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحبَّ في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))[15].




فإنَّ أبا الدَّرداء رضي الله عنه مرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا وكانوا يسبُّونه، فقال: أرأيتُم لو وجدتموه في قليب، ألَم تكونوا تستخرجونه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا اللهَ الذي عافاكم، قالوا: أفلا نُبغضه؟ قال: إنَّما أبغض عمَلَه، فإذا ترَك فهو أخي[16].

 

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا وقف على أبواب المدائن يقول: يا مدينة، أين فرسانك؟ يا مدينة، أين عمارك؟ يا مدينة، أين كنوزك؟، قال: فما نزال حتى يَبكي ويُبكي.




العلاقة في الله جلَّ جلاله: ولا تكون العلاقة متجرِّدة بحقٍّ، حتى تكون في ذات الله جلَّ جلاله، ليس فيها أي نوعٍ من المصالح أو المنافِع الماديَّة أو المعنويَّة، الحالية أو المستقبليَّة، حين ذلك ستكون سببًا في حُبِّ الله جلَّ جلاله للإنسان المحبِّ، فعن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ((أنَّ رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملَكًا، فلمَّا أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا، غير أنِّي أحببتُه في الله عزَّ وجل، قال: فإني رسولُ الله إليك، بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه))[17].




فهل في حياتنا من تربطنا بهم علاقة خالِصة في الله جلَّ جلاله؟

من هم أصدقاؤك الذين تحبُّهم في ذات الله جلَّ جلاله؟

إذا كانت الإجابة بالنفي، فإن الوقت لم يَفُتْ.

 

يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه في ساعاته الأخيرة: مرحبًا بالموت، مرحبًا بزائر مغب، حبيب جاء على فاقَة، اللهمَّ إنِّي قد كنتُ أخافك وأنا اليوم أرجوك، إنَّك لتعلم أنِّي لم أكن أحبُّ الدنيا وطول البقاء فيها لكَري الأنهار، ولا لغَرس الأشجار، ولكن لظَمأ الهواجر، ومكابدَة السَّاعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند حِلَق الذِّكر[18].




وإنَّ زهد عِلْية القوم وكبارهم يَنبغي أن يكون أكثر بكثير من زهدِ عامَّة الناس، ومثالنا في ذلك قدوتنا النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم، فقد عُرِضَت عليه الدنيا وزهرتها، وعُرض عليه أن يكون ملكًا نبيًّا، ولكنَّه اختار أن يكون نبيًّا وعبدًا، واختار أن يَعيش حياةَ الناس بكل تفاصيلها، لقد عاش صلى الله عليه وسلم معاناتهم؛ فجاع معهم ونام معهم، ومرَّ بالشدائد في الخندق وفي أُحد معهم، ولبس ممَّا يلبسون، وأكل مما يأكلون، وكان معهم معطاءً كريمًا، مستغنيًا عما عندهم، سخيًّا بما عنده.

 

لقد زهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وهو الأمير ابن الأمراء عندما تسنَّم الخلافة، فكان زهده سببًا في غنى أولاده وليس العكس، فقد قال عمرو بن عبيد وهو يَعظ أبا جعفر المنصور: توفِّي عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وخلف أحد عشر ابنًا، وبلغَت قيمة تَركته سبعة عشر دينارًا، فكُفِّن بخمسة دنانير، واشتُري له موضع قبره بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده ثمانية عشر قيراطًا.

 

ومات هشام بن عبدالملك، وخلف أحدَ عشر ابنًا، فحصل لكلِّ واحد من ورثَته ممَّا خلفه عشرة آلاف دينار، فرأيتُ رجلاً من أولاد عمر بن عبدالعزيز قد حمل على مائة فرسٍ في سبيل الله، ورأيتُ رجلاً من أولاد هشام يَسأل الناس.

 

وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول: (إنَّما وَلَدُ عمرَ بين رجلين: إمَّا رجل صالح، فسيغنيه الله، وإما غير ذلك، فلن أكون أول من أعانَه بالمال على معصية الله).




[1] سنن ابن ماجه - كتاب الزهد - باب: الزهد في الدنيا.

[2] الأدب المفرد؛ البخاري، ص 52.

[3] صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب ما جاء في قول الله تعالى: ? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ? [الجمعة: 10].

[4] الأدب المفرد للبخاري، وابن أبي شيبة في المصنف - كتاب الدعاء - ما علمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمر به مما يسد الحاجة.

[5] جاء في طبقات الشافعيَّة الكبرى، هو عبدالعزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطَّلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، لم يَرَ من رآه مثلَه علمًا وورعًا وقيامًا في الحقِّ وشجاعة وقوةَ جنان وسلاطة لسان، ولد سنة سبع أو سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، تفقَّه على الشيخ فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصولَ على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره، وسمع الحديثَ من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وشيخ الشيوخ عبداللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طبرزد، وحنبل بن عبدالله الرصافي، والقاضي عبدالصمد بن محمد الحرستاني وغيرهم، ومن أشهر تلاميذه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، درس بدمشق أيام مقامه بها بالزاوية الغزالية وغيرها، وولي الخطابة والإمامة بالجامع الأموي، وفي سنة 639 هـ توجَّه إلى القاهرة فتلقَّاه سلطانها الملك الصالح نجم الدين أيوب وولاَّه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر والقضاء، وكان يُدرس الفقه الشافعي في المدرسة الصالحية في مصر.

[6] طبقات الشافعية الكبرى؛ تاج الدين بن علي السبكي، ج 8، ص 241.

[7] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ أبو نعيم الأصبهاني، ج 7، ص 318 - 319.

[8] سير أعلام النبلاء؛ شمس الدين الذهبي، ج 15، ص 149.

[9] صحيح ابن خزيمة - كتاب الزكاة - جماع أبواب قسم المصدقات - باب إِذْن الإمام للعامل بالتزويج واتخاذ الخادم والمسكن من الصدقة.

[10] الفوائد؛ ابن قيم الجوزية، ص 94.

[11] صحيح البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء - باب قول الله: ? وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا ? [مريم: 16].

[12] صحيح البخاري - كتاب الشهادات - باب: إذا زكى رجل رجلاً كفاه.

[13] الموبقات: المهلكات.

[14] صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب ما يُتقى من محقرات الذنوب

[15] المعجم الأوسط للطبراني - باب العين.

[16] شعب الإيمان للبيهقي - التاسع والثلاثون من شعب الإيمان - فصل فيما ورد من الأخبار في التشديد على من اقترض.

[17] صحيح مسلم - كتاب البر والصلة والآداب - باب في فضل الحب في الله.

[18] صفة الصفوة؛ عبدالرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج ابن الجوزي، ج 1، ص 501.


"
شارك المقالة:
29 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook