ساعة الاحتضار والإشراف على عالم البقاء

الكاتب: المدير -
ساعة الاحتضار والإشراف على عالم البقاء
"ساعة الاحتضار والإشراف على عالم البقاء

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فالموت نهاية كل حي، وما من إنسان إلا سيموت في يوم من الأيام طال الزمان أو قصر، قال الله عز وجل: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? [آل عمران:185]، والموت من أعظم المصائب التي تصيب الإنسان في دنياه؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: الموت من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله: ? فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ? [المائدة:106]، فالموت هو المصيبة العظمى، والرزية الكبرى، قال علماؤنا: وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل له، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير، فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حاله الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة؛ قال الله عز وجل: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?[الحسر:18-19]، وقال الإمام ابن قدامه المقدسي رحمه الله: واعلم أن خطر الموت عظيم، وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم وذكرهم له، ومن يذكره منهم إنما يذكره بقلب غافل، فلهذا لا ينجع فيه ذكر الموت، والطريق إلى ذلك أن يفرغ العبد قلبه لذكر الموت كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة، أو يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا في ذلك، وأنفع طريق في ذلك ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله، فيذكر موتهم ومصارعهم تحت الثرى.

 

فحري بكل مسلم أن يُكثر من ذكر الموت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات)؛ يعني الموت؛ [أخرجه الترمذي]، وهناك أمور تحدث للميت حين احتضاره، ينبغي التفكر فيها والاستعداد لها، منها:

 

شدة الموت وسكراته:

قال الله عز وجل: ? وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ? [ق:19]، قال الإمام البغوي رحمه الله: (وجاءت سكرةُ الموتِ) غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، وقال الإمام ابن عطية الأندلسي رحمه الله: سكرةُ الموت: ما يعتري الإنسان عند نزعه، والناس فيها مختلفة أحوالهم، لكن لكل أحد سكرة.

 

وقال الله سبحانه وتعالى: ? ولَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ? [الأنعام:93]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي: في سكراته، وغمراته، وكرباته.

 

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لَما تغشاه الموت، كانت بين يديه ركوة أو علبة من الماء، فجعل يدخل يديه في الماء، ويمسح بهما وجهه، ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)، فالموت له سكرات شديدة، ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: ما أغبط أحدًا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ [أخرجه الترمذي].

 

قال الإمام القرطبي رحمه الله: يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به، من عندهم فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.

 

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قال الحسن: اتَّقِ الله يا بن آدم، لا يجتمع عليك خصلتين، سكرة الموت، وحسرة الفوت، وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن، قال: أشد ما يكون الموت على العبد، إذا بلغت الروحُ التراقي، فعند ذلك يضطربُ ويعلو نَفَسُهُ، ثم بكى الحسن رحمه الله.

 

وقال ابن السماك: احذر السكرة والحسرة، أن يفجأك الموتُ وأنت على الغرة، فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.

 

نزول الملائكة لقبض الأرواح:

من عقيدة المسلمين: الإيمان بإرسال الله عز وجل الملائكة لقبض أرواح المحتضرين، قال الإمام الطحاوي رحمه الله: ونُؤمن بملكِ الموتِ، الموكَّل بقبض أرواح العالمين؛ قال الله سبحانه وتعالى: ? حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ? [الأنعام:61]، والملائكة التي تأتي لقبض روح المؤمن تأتي إليه في صورة حسنة، كما جاء ذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوهم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيءُ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، (وفي رواية المطمئنة)، اخرُجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السماء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض؛ [أخرجه أحمد وغيره]، فروح المؤمن تخرج بسهولة كسهولة تقطير الماء من فم القربة.

 

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: روح المؤمن إذا بشِّرت بهذا خرجت من البدن بسهولة؛ لأنها ستفارق المألوف لكن إلى ما هو خير منه، فيسهل عليها أن تخرج.

 

قال الله عز وجل: ? الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? [النحل: 32]، قال البغوي: معناه إن وفاتهم تقع طيبة سهلة.

 

وما يحدث للميت حال موته لا نراه؛ قال الله عز وجل: ? فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ?[الواقعة:83-85]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ? وأنتم حينئذ تنظرون ?؛ أي: إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت، (ولكن لا تبصرون)؛ أي: ولكن لا ترونهم.

 

وبعض المحتضرين قد يتكلمون، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقد سُمع بعض المحتضرين يقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بهذه الوجوه، وأخبرني شيخنا عن بعض المحتضرين، فلا أدري أشاهده أو أخبر عنه، أنه سُمِعَ وهو يقول: عليك السلام، ها هنا فاجلِس، وبعضهم قد يتكلم بما رأى: ذُكِرَ أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لما كان في يومه الذي مات فيه قال: أجلسوني، ثم رفع رأسه، فأحدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرةً ما هم بإنس ولا جن، ثم قُبض.

 

وقد يري بعض الناس آثارًا لما يحدث للميت، قال العلامة العثيمين رحمه الله: يشاهدُ بعض الأموات حسيًّا استنارة وجهه، وحدثني شخص وهو ثقة ولا سيما في هذا القول، وقد حضر جنازة رجل مُحتضر أعرِفه من عباد الله الصالحين ومن طلبة العلم، يقول: إنه في غرفة بالمستشفى، فإذا بنور قد ملأ الغرفة، ولا أستطيع أن أصفه؛ لأنه شيء عظيم، فبدأ الموت بهذا الرجل، سبحان الله هذا يدلُّ على أن الملائكة تنزلت بنور لهذا الميت، وهذا شيء أنا أشهدُ به عليه، وأنا أعرفُ حال المشهود له بأنه رجل حرِي بذلك.

 

والملائكة تتنزل على أولياء الله المؤمنين المتقين عند الموت ألا تخافوا فيما تستقبلونه مما أمامكم من أهوال، ولا تحزنوا على ما تركتم؛ قال سبحانه وتعالى: ? إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ? [فصلت: 30]؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: قال وكيع وابن زيد البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث.

 

ونعمة عظيمة من الله عز وجل أن يُبشر المؤمن بالجنة قبل أن يموت؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله رحمه الله: الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت، فإذا حضر الأجلُ ودعت الملائكة النفس للخروج، وقالت: اخرُجي أيتها النفسُ المطمئنةُ إلى رضوان الله، وتُبشرُ النفس بالجنة، قال الله تعالى:? الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ? [النحل: 32]، يقولونه حين الوفاة: ? ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? [النحل: 32]، فيبشَّر بالجنة فتخرُج رُوحُه راضية متيسِّرة سهلة، ومن بُشِّر بذلك، أحب لقاء الله عز وجل، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من أحب لقاء الله أحبَّ اللهُ لقاءهُ، ومن كره لقاء الله، كرِه الله لقاءه)، قالت عائشة: يا رسول الله، كُلنُّا يكره الموت، قال: (ليس الأمر كذلك)، فكلنا يكره الموت، وهذه طبيعة، ولكن المؤمن إذا بُشر بما يُبشر به عند الموت، أحبَّ لقاء الله، وسهُل عليه.

 

أما الكفار فتتنزل عليهم الملائكة تبشِّرهم بالعذاب؛ قال الله عز وجل: ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ? [الانعام:93].

 

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ? وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ? بالضرب؛ كقوله: ? وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ? [الأنفال: 50]، ولهذا قال: ? وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ?؛ أي: بالضرب لهم حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)، وذلك أن الكافر إذا احتُضر، بشَّرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتُفرق روحه في جسده وتعصى، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)؛ أي: اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.

 

وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن العبد الكافر (وفي رواية المنافق)، (وفي رواية الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر ثم يجيءُ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتُفرق في جسده، فيَنتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض؛ [أخرجه أحمد وغيره].

 

فالكافر والمنافق والفاجر تخرُج أرواحهم بشدة وعذاب، ويخرج من أرواحهم روائح منتنة كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض.

 

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: روح الكافر - والعياذ بالله - تتفرق في جسده، لأنها تُبشِّرُ بالعذاب فتخاف، ولهذا يوجد بعضُ الناس - والعياذ بالله - يُسوَّدُ وجهُهُ ولونه في الحياة أحمر، وحدثني من أثقُ به - وأقسم لي أكثر من مرة - وهو ممن يباشرون تغسيل الموتى، يقول: والله مرَّت عليَّ حالتان لا أنساهما أبدًا، غسلت اثنين بينهما زمنٌ، يقول: الوجه أسود مثل الفحم - والعياذ بالله - والبدنُ طبيعي، لأنه يُبشر بما يسوؤه، والإنسان إذا بُشِّر بما يسوؤه تغيَّر.

 

ندم المفرط والمقصر:

ومن الأمور التي تحدث للمحتضر إذا كان من الظالمين المفرطين: الندم، قال الله عز وجل: ? حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ?[المؤمنون:99-100]، قال العلامة السعدي رحمه الله: يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله وشاهَد قُبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول: (لعلي أعمل صالحًا فيما تركت) من العمل، وفرطت في جنب الله.

 

وقال الله: ? وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [المنافقون:10-11]، يتحسَّر المفرط على ما فرط، ويسأل الرجعة التي هي محال، ليعمل صالحًا بأداء المأمورات واجتناب المنهيات، لينجو من العذاب؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فكل مفرِّط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة، ولو شيئًا يسيرًا، ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات.

 

فبالدار البدار قبل الندم والحسرة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: واعلم أن الإنسان ما دام يؤملُ الحياة، فإنه لا ينقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح له نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويُرجيه الشيطان التوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكادُ يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجابُ إلى شيءٍ من ذلك، فيجتمعُ عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.

 

وقد حذَّر الله تعالى عباده من ذلك في كتابه؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح؛ قال الله تعالى: ? وأنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ?[الزمر: 54-56].

 

سُمعَ بعض المُحتضرين عند احتضاره يلطمُ على وجهه ويقول: ? يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ?، وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي، وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني.

 

فهل من مستفيق من غفلته، ومفيق من سكرته، وخائف من صرعته، قبل أن يقول عند مفارقة هذا العالم، والإشراف على عالم البقاء: ? يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ? [الفجر:24] و? يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ? [الزمر:56].

 

فرحِم الله عبدًا ذُكِّر فاتَّعظ، واستمع فانزجَر، ورزقنا جميعًا الاستعداد للموت، والعمل له.

اللهم أكْرِمنا بالخاتمة الحسنة يا رحمن يا رحيم.


"
شارك المقالة:
37 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook