سوء فهم القضية يجعلها القاضية (1 – 2)

الكاتب: المدير -
سوء فهم القضية يجعلها القاضية (1 – 2)
"سوء فهم القضية يجعلها القاضية (1 – 2)




لم تمر حِقبة من حِقَب الزمان إلا وكان فيها حرب ضروس بين الحق والباطل، وهذه هي سنة الله تعالى في خلقه، ولقد مرَّت على الأمة الإسلامية أحداث جِسام، مَن شهدها ظن أنه لن تقوم للإسلام بعدها قائمة، وفي كل مرة تخرج الأمة الإسلامية وهي أصلب عُودًا، وأقوى قوة، وأمضى عزيمة، تخرج وقد تجدَّد شبابها، وكادَتْ عدوَّها فاندحرَ وخنث كما يخنث الشيطان.

 

وما تمر به مِنطقتنا العربية بصفة خاصة، وأمتنا الإسلامية بصفة عامة، هو ما يشبه الحُمَّى التي تحاول أن تتمكَّن من الجسد النحيل الهزيل، فتُودي به وتُردِيه صريعًا، ولكن المَخرج من ذلك هو حسن فهم سُنة الله تعالى في خلقه، وحُسن فهم القضية جيدًا؛ لأن سوء فهم القضية يجعلها القاضية.

 

وقبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع لا بد أن نتفق على عدة ثوابت:

1- فَهم طبيعة الطريق، ومعرفة أن كل ما يحدث إنما هو حلقة مُحكمة من حلقات الصراع بين الحق والباطل التي لا تنتهي حتى قيام الساعة.

 

2- أن سنة الله تعالى في الصراع أنْ جَعَلَ فئة الحق فئة قليلة مُستضعَفة، وفئة الباطل قليلة مُستأسدة، وبين الفئتين فئة كبيرة من العوام يُراهن عليها الجميع.

 

3- المطلوب من أهل الحق أن يفهموا حقيقة الصراع، وأن معركتهم الحقيقية إنما هي مع أئمة الضلال، ورؤوس الفتنة، وحزب الشيطان، وليست مع العوام من الناس.

 

4- إن منزلة القيادة هي منزلة الرأس من الجسد، وهي هدف الباطل وجنوده.

 

5- الطبيب الماهر هو الذي يصف العلاج الناجِع؛ فلا يوحِّد علاجه لجميع الأمراض بدواء واحد، أو جرعة واحدة من العلاج.

 

6- أن الباطل يريد أن يفرض على أهل الحق واقعًا من صُنعِه هو، ويجعل الحق أسيرًا وحبيسًا لهذا الواقع، فيموت أصحابه يأسًا وهمًّا وغمًّا ونكدًا.

 

• أولًا: فهم طبيعة الصراع: إن الصراع بين الحق والباطل يتطلَّب من أهل الحق اليقظة والوعي والفهم الجيد؛ فالطريق طويل، والتكاليف شاقة، والمُثبِّطات كثيرة، والمبررات لا تنتهي، ومَعِين الأعذار لا ينضب.

 

وكل ذلك يهون عندما ندرك أن الصراع بين الحق والباطل مستمرٌّ إلى قيام الساعة، وعندما نستشعر أننا حلقة في سلسلة طويلة بداية من آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، وعندما نتدبر قول الحق تبارك وتعالى: ? الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ? [العنكبوت: 1 - 3]، وعندما نَعِي ردَّ الإمام أحمد بن حنبل عندما سُئِل: متى الراحة يا إمام؟ قال: عندما أضع إحدى قدميَّ في الجنة.

 

عندها - وعندها فقط - يشعر الإنسان بقيمته، ويستعذب هذه المشقة التي تقرّبه من الله تعالى، وما يصبو إليه من نعيم أبديٍّ.

 

يقول ابن تيميَّة رحمه الله: فإن المُخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره؛ إذ ليس في القلب السليم أحلى ولا أطيب ولا ألذ ولا أسرُّ ولا أنعم من حلاوة الإيمان، المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب مُنيبًا إلى الله خائفًا منه راغبًا راهبًا.

 

وحلاوة الإيمان لا يشعر بها ولا يعايشها أيُّ أحد، كما أنها لا تُباع ولا تُوهَب ولا تُستجدَى، يقول أحد السلف من شدة سروره بتلك النعمة: لو يعلم المُلُوك وأبناء الملوك ما نحن فيه - يعني من النعيم - لَجالَدُونا عليه بالسيوف، وقال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبَّة الله تعالى ومعرفته وذكره، وكان شيخ الإسلام ابن تيميَّة يقول: إن في الدنيا جنة، مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة؛ فلنوقن أن الصراع مع الباطل طويلٌ شاقٌّ مستمرٌّ إلى قيام الساعة، والباطل لا تقضي عليه ضربة أو ضربات، بل يخنث كما يخنث الشيطان، ويُدبر كإدبار الشيطان عند سماعه الأذان، ولكنه سُرعان ما يعود مرة أخرى إذا وجد الصفوف قد اصطفت، والقلوب قد تأهبت، وهذا ما يجب علينا أن نَعِيَه جيدًا؛ فسوء فهم القضية يجعلها القاضية، أليس كذلك؟

 

• ثانيًا: الناس على دين ملوكهم: إن المقصود بالناس هنا هم (عُموم الناس)؛ حيث إنه من المعروف أن هذه الفئة دائمًا ما تنحاز إلى من يتقلَّد زمام الأمور؛ إما طمعًا في بعض العطايا التي تسد عوزهم وتشبع جوعهم، أو تَقِيَّةً وخوفًا من أن ينالهم أحد بأذًى لم يألفوه ولم يستعدوا له، أو لالْتِباس الأمر عليهم وعدم فهم أبعاده وإدراك مَراميه، أو ليقينهم أن أهل الحق كثيرًا ما ينسون الإساءة ومِن السهل أن يعفوا ويصفحوا؛ فهم يعتبرون أنفسهم خارج حلبة الصراع، وإنما دَوْرهم قاصر على الهتاف للأقوى، وَلْنعي أن سنة الله تعالى في الصراع أنْ جَعَلَ فئة الحق فئة قليلة مُستضعَفة، وفئة الباطل فئة قليلة مُستأسِدة، وبين الفئتين فئة كبيرة من العوام يُراهن عليها الجميع.

 

ولتبسيط ذلك قم بحصر مَن يعملون للحق ويدافعون عنه في المكان الذي تعيش فيه، واعلم أن مَن يعملون للباطل هم قُرابة هذا العدد، وإن زاد قليلًا أو قلَّ قليلًا، والباقي هم العوام من الناس الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الصراع، ويجب على أهل الحق أن يَعُوا ذلك جيدًا، فلا يعادوا ضعيفًا، ولا ينتقموا من مُغرَّر به، ولا يُعرِضوا عن مَن يهتف تَقِيَّةً وخوفًا وطمعًا، ولا يُسفهوا من هو مُغيَّب الوعي ولا يدرك حقيقة الأمور؛ فليس من العقل أن تترك المباراة داخل الحلبة وتتفرغ للجمهور الذي يهتف لخصمك؛ فهؤلاء عندما ينتصر الحق ويمكَّن له سيُسرعون التحول تجاه قبلتك، والوقوف تحت رايتك، ويعتنقون ما تدعو إليه اعتناقًا، ويدخلون في خندق الحق أفواجًا، ألَمْ يجعل الإسلام نصيبًا في الزكاة للمؤلفة قلوبهم حتى وإن كانوا على غير دين الإسلام؟ ألَمْ يتزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ المؤمنين السيدة صفية بنت حُيَيِّ بن أخطب - زعيم اليهود - ليكسر شوكتهم ويأمن جانبهم؟ فلنراجع هَدْيَ نبينا صلى الله عليه وسلم لتهدأ نفوسنا وتطمئن.

 

ثم افترض جدلًا أنك تفرغت لهؤلاء وتمكَّنتَ من تأديبهم - حسب زعمك - وقضيتَ عليهم، هل ستكون بذلك قد قضيتَ على الباطل؟ إنك بذلك تعطي للباطل الفرصة أن يُشوّه صورتك التي هي صورة الحق، وستجد له المبرِّر لكي يَفتِك بك، وستمنحه الفرصة لكي يستعيد قُواه، ويشحذ همته، ويحدَّ سلاحه، حتى إذا عُدتَ إليه عُدتَ وقد أُنهِكت قواك ونَضَبتْ جَعبتُك، فكنت له لقمة سائغة وهدفًا سهلًا.

 

ألَمْ ترَ كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأعرابي الذي يأتيه بفظاظة وغلظة؛ فقد جاءه أعرابيٌّ يومًا يطلبُ منه شيئًا، فجذبه مِن ردائه في عنقه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني يا محمد من مال الله؛ فإنك لا تعطيني من مالك، ولا من مال أبيك! (هل وَرَدَكَ أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَرَه أو مَنَعَه أو أمر أحدًا أن يعاقبه؟) لقد سكَتَ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((المالُ مال الله، وأنا عبده، ويُقادُ منك يا أعرابي))؛ أي: ويُفعَل بك كما فعلتَ بي، فقال الأعرابي: لا، قال صلى الله عليه وسلم: ((ولِمَ؟)) قال: لأنك لا تَجزي بالسيئة السيئةَ، فضَحِك صلى الله عليه وسلم، وأمر أن يُحمَلَ له على بعيرٍ شعيرٌ، وعلى آخرَ تمرٌ.

 

عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيمُ بيتٍ في رَبض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقًّا، وبيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكَذِب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُن خُلقُه)).

 

فيا من تنتهجون نهجَه وتدَّعون محبته، عليكم بهَدْيِه وسنته؛ فإذا كنتَ تريد أن تقتص لنفسك وتثأر لها في الدنيا فماذا تنتظر من الله تعالى يوم القيامة؟ وإذا أردتَ أن تقتص لنفسك وتثأر لها فأين أنت من خُلُق الإسلام من الصبر والاحتساب؟ وإذا أردتَ أن تقتص لنفسك وتثأر لها فقد وسَّعت على نفسك حلبة الصراع، وأكثرت من أعدائك ومصارعيك، فستَخُور قُواك ولن تصل إلى عدُوِّك الحقيقي، بل ستجعله مُتحصنًا بهؤلاء الضعفاء، يَردُّون عنه ويحمونه، ويَفتِكون بك حال الاقتراب منه، فيا صاحب الحق لا تجعل صاحب الباطل أذكى منك، ولا تجعل صاحب الباطل ينافسك في ميدانك، وعلى أرضك، وبضاعتِك التي لا تجيد غيرها؛ وهي الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وهذا ما يجب علينا أن نعيه جيدًا؛ فسوء فهم القضية يجعلها القاضية. أليس كذلك؟

 

• ثالثًا: الصراع الحقيقي مع أئمة الضلال: إن من يصدُّون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عِوَجًا هم مَن طالبَنَا الإسلام بمواجهتهم ودحرهم وإبطال كَيْدهم، حتى يُخلُّوا بين الناس وبين الحق، فهؤلاء لم يطالبنا الإسلام أن نرضخ لهم ولا نلين معهم، ولا نُمالِئهم ولا نركن إليهم، بل يجب ألا يجدوا منا إلا كل غِلظة وكل قوة، وكل ثبات وإصرار على الحق، في إطار وحدود شَرْعِنا ونَهْجِنا الذي انتهجه النبي صلى الله عليه وسلم.

 

والدليل على ذلك أننا لم نعلم ممن تصدَّوا للإسلام إلا رموز الضلال ورؤوس الفتنة، لقد حارب ألفٌ من المشركين في بدر ولا نعلم منهم إلا أفرادًا يمكن عَدُّهم على الأصابع، وهكذا في باقي الغزوات والمواجهات، وهذا لا يعني أن نغض الطرف عمَّن حَمَل علينا السلاح، أو حارب في خندق الباطل، ولكن أن نُرتِّب أولويات المواجهة، وأن نُوزِّع الجهود على جولات الصراع، فلا نكسب جولة ونخسر المعركة بكاملها.

 

وفي أئمة الضلال والصد عن سبيل الله قال تعالى: ? وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ? [التوبة: 12]، قال القرطبي: استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طَعَن في الدين، إذ هو كافر، والطَّعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين؛ لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه، وأخرج ابن أبي حاتم عن عبدالرحمن بن جُبَير رضي الله عنه أنه كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه في الناس حين وجَّههم إلى الشام، فقال: إنكم ستجدون قومًا محلوقة رؤوسهم، فاضربوا مقاعد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لَأن أقتل رجلًا منهم أحبُّ إليَّ من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله تعالى يقول: ? قَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ?.

 

قال تعالى: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ? [الأنعام: 123]، قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والمراد بالمَكْر هنا تَحَيُّل زعماء المشركين على النَّاس في صرفهم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام.

 

كان النضر بن الحارث قد قدم الحِيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته، خَلَفَه النَّضْر، ويقول: أنا والله - يا معشر قريش - أحسن حديثًا منه، ثم يُحدِّثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول‏: ‏بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟! وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً - أي مُغنية - فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قَيْنَته، فيقول‏:‏ أطعميه واسقيه وغنِّيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى:‏ ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ? [لقمان: 6]، فالنضر وأمثاله إلى يوم القيامة هم أئمة الكفر، وأكابر المجرمين، ورؤوس الفتنة والضلال.

 

فعلى من يرفعون لواء التوحيد أن يفهموا طبيعة الصراع جيدًا، وليكن تركيزُ جهودهم نحو الهدف الرئيس؛ حتى لا تضيع جهودهم سُدًى، وليوقنوا بأن الله تعالى لن يتخلى عنهم، ولن يجعلهم لقمة سائغة لرؤوس الضلال، بل سيجعلهم الله تعالى سِتارًا لتنفيذ قدره في أهل الباطل ورؤوس الفتنة، أعداء الله تعالى، قال ابن القيِّم: إنَّ المؤمن المتوكِّل على الله إذا كاده الخَلْق، فإنَّ الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوَّة، وهذا ما يجب علينا أن نَعِيَه جيدًا، فسوء فهم القضية يجعلها القاضية، أليس كذلك؟

 

هذه دروس ثلاثة من الدروس التي يجب على أهل الحق أن يَعُوها جيدًا حال تصدِّيهم للباطل وصراعهم معه، ويبقى لنا ثلاثة دروس أخرى سنتناولها في المقال القادم بإذن الله تعالى.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook