سوء فهم القضية يجعلها القاضية (2 – 2)

الكاتب: المدير -
سوء فهم القضية يجعلها القاضية (2 – 2)
"سوء فهم القضية يجعلها القاضية (2 – 2)




تحدثنا في المقال السابق بفضل الله تعالى عن نقاط ثلاث، كان مجملها أنه يجب على صاحب الحق أن يَعِي جيدًا طبيعة الصراع، وأن يعلم أن الناس على دين ملوكهم، كما عليه أن يُدرك جيدًا أن صراعه الحقيقي مع أئمة الضلال الذين يصارعونه في مضمار الصراع، وليس مع من يهتفون للخَصْم، فهؤلاء عادة ما يحملون الفائز على الأعناق بغض النظر عن مُسمَّاه.

 

رابعًا: منزلة القيادة هي منزلة الرأس من الجسد، وهي هدف الباطل وجنودِه:

لقد أثبتَتْ حقائق التاريخ قديمًا وحديثًا أنه لا تعايش ولا اندماج ولا مودة بين الحق والباطل، وأن المعركة بينهما مُداولة وسِجال إلى قيام الساعة، وأن مَن يتولى الأمور ويقف موقف القيادة هو المُستهدَف الأول من أعداء الحق؛ اعتقادًا منهم أنه متى تمكَّنوا من القضاء على الرأس فالقضاء على ما بعدها أسهل، ولقد رَوَت لنا كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مُستهدَفًا من خصومه وأعداء دعوته، سواءً في مكة أو في المدينة.

 

أ) وَرَد أن أبا جهل عندما أعياه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى إقبال الناس على الإسلام، ما كان منه إلا أن فكَّر في التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبى إلا ما ترَون من عيبِ ديننا وشَتْم آبائنا، وإني أعاهد الله لَأجلسنَّ له غدًا بحجرٍ ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فَدَخْتُ به رأسه...؛ (فَدَخَ الشيءَ فَدْخًا: كَسَرَهُ، وأكثر ما يُستعمَلُ في المُجوَّف والرَّطْب).

 

ب) عن عُروة بن الزبير قال: سألت عبدالله بن عمرو عن أشدِّ ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيتُ عقبة بن أبي مُعيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!؛ [رواه البخاري].

 

وفي المدينة أيضًا كانت هناك محاولات عديدة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم!




ج) جاء في تفسير ابن كثير: ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? [المائدة: 11]: إنها نزلت في شأن بني النضير، حين أرادوا أن يُلقُوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّحى، لَمَّا جاءهم يستعينهم في دِيَة العامريين، ووكلوا (عمرو بن جحاش) بذلك، وأمروه إن جلس النبيُّ صلى الله عليه وسلم تحت الجدار أن يُلقِيَ تلك الرَّحى من فوقه، فأطْلَعَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على ما تمالؤوا عليه، فرجع إلى المدينة وتَبِعه أصحابه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.

 

د) وفي الرحيق المختوم: رجع الجيش الإسلامي من تبوك مُظفَّرين منصورين، لم ينالوا كيدًا، وكفي الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند عَقَبة حاول اثنا عشر رجلًا من المنافقين الفَتْك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمَّار يقود بزمام ناقته، وحُذيفة بن اليَمَان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة؛ فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه يسيران، إذ سمعوا وَكْزَة القوم من ورائهم، قد غَشُوه وهم ملتثمون، فبعث حُذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لَحِقُوا بالقوم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وبما هَمُّوا به، فلذلك كان حُذيفة يُسمي بصاحب سـر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الله تعالي: ? وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ?[التوبة: 74].

 

ولقد كانت هناك محاولات أخرى عديدة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو حال القيادة التي تَصْدَح بالحق، وتسير على درب النبي صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان، وطالما الأمر كذلك، فإن قادة الأمة الإسلامية ورموزها لا بد من إحاطتهم بالرعاية الخاصة، والاهتمام الكامل في كل شؤون حياتهم؛ حتى لا تنالهم سهام الغدر، ولا يَصِلهم بطش الباطشين، أليس كذلك؟

 

خامسًا: الطبيب الماهر لا يعالج جميع المرضى بدواء واحد أو جرعة واحدة:

إن الله تعالى عندما خَلَق الخَلْق، خَلَقَ بينهم تفاوتًا كبيرًا في معظم الأحوال والطباع؛ ولذلك نجد أن الفتاوى ربما تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، وطبيعة الأمور، واختلاف الأحوال، حتى ولربما تغيَّرت في نفس الزمان ونفس المكان، والفقيه البارع إنما هو كالطبيب الماهر؛ الذي يقوم بواجبه على أكمل وجه، مُراعيًا حالة المريض، وما يناسبه من علاج، واضعًا نُصب عينيه الأخذ بكل أسباب الشفاء الذي لا يغادر سقمًا، دون إفراط أو تفريط، ومُتجرِّدًا من حظ النفس، بعيدًا كل البعد عن المُحاباة أو التجمُّل؛ فما يشفي هذا ربما يُودِي بحياة ذاك، وما يشفي الآن ربما يترتب عليه مرض أشد فيما بعد.

 

هل أتاك نبأ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المُخلَّفين في غزوة تبوك؟ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يتعامل مع المُخَلَّفين مُعاملةً واحدةً، ولكنه صلى الله عليه وسلم تعامل مع كلِّ حالةٍ بما يناسبها، وما يتناسب وطبيعة مرتكبيها؛ ففي الوقت الذي قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم فيه عُذر بعض المخلفين عن الغزوة دون نقاش، لم يَقْبل من البعض الآخر عُذرَهم ولم يسامحهم، حتى أنزل الله تعالى قرآنًا يُتلى بالعفو عنهم ومسامحتهم.

 

فعلى من يتصدَّون للقيادة، أو من يتصدون للفتوى، أو من يتصدون لمعاملة الجمهور... أنْ يتعلَّموا فنَّ التعامل مع الناس، ومُعاملة كل واحد بما يناسب فِعله، وبما يناسب وضعه وطبيعته، ولا يترك الأمر على عَواهِنه، ويعامل الجميع مُعاملة واحدة؛ فيكون كالطبيب الذي يصف نفس العلاج لجميع المرضى وبنفس الجرعات، فلا يشفي مريضًا ولا يُعالِج مرضًا؛ فسوء فهم القضية يجعلها القاضية.

 

سادسًا: لا تستسلم لواقع يريد أن يفرضه الباطل عليك:

إن الباطل يريد دائمًا أن يفرض على أهل الحق واقعًا من صُنعِه هو، ويجعل الحق أسيرًا وحبيسًا لهذا الواقع، فيموت أصحاب الحق يأسًا وهمًّا وغمًّا ونكدًا.

 

لقد أرادت قريش أن تَفرِض هذا الواقع عندما حاصروا المسلمين في شِعْب أبي طالب وفرضوا عليهم شروطًا مُجحفة لا يطيقها بشر، وأراد المنافقون في المدينة أن يَفرِضوا هذا الواقع عندما قالوا: ? لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ? [المنافقون: 7].

 

فعلى أهل الحق ودعاة الهداية أن يَفطنوا لذلك جيدًا، فيُغيِّروا من عاداتهم ومألوفات أمورهم، حتى تخرج المِنحة من رحم المِحنة، وهذه ليست دعوةً للاستسلام أو الرضا بالأمر الواقع أكثرَ من كونها دعوةً لكَسْر الواقع وحسن مُعايشة الظروف، وحسن اغتنام الفرص فيما هو جديد وفيما هو مفيد؛ فربما اختار الله لك هذه الظروف لتكون مَحضنًا لإبداعات جديدة لا يمكن التوصل إليها إلا في مثل هذه الظروف، فربما تكون المحنة فرصةً لتنبيه الغافلين، وجمع شتات المتفرقين، والتزوُّد بالعلم النافع، واكتساب خُلُق جديد... فيزيد المُبتلى بذلك على عمره أعمارًا، ويبلغ من الخير مَبلَغًا لم يكن ببالغه دون هذه المِحنة إلا بشق الأنفس.

 

? انظر إلى من طُرِدوا من بلادهم فخرجوا إلى بلاد بعيدة نشروا فيها الإسلام وواجهوا التنصير هناك.

 

? انظر إلى من حُبسوا فجعلوا من محبسهم مِحرابًا يناجون الله تعالى فيه ويحفظون فيه كتاب الله عز وجل.

 

? انظر إلى من جعل من محبسه قلعةً للعِلم؛ فارتقى بنفسه وحصل على أعلى الدرجات العلمية.

 

? انظر إلى هذا الكَمِّ الهائل من أدبيات السجون، ومُصنفات الفقه، وكتب التفسير التي خرجت من أَقْبِية السجون وظلام الزنازين.

 

وبعد التأكيد على هذه النقاط الست أودُّ أن أكون قد أضفتُ جديدًا يُغيِّر مفهومَنا عن أبعاد قضية الصراع بين الحق والباطل؛ حتى نستطيع أن نواجه الباطل مهما علا وانتفش، وأن يكون صاحب الحق هادئَ النفس مُطمئنَّ البال، يعلم أنه طَوال مشوار حياته يعمل لله، ويأنس بالله، ويفر إلى الله؛ فلا يَهاب ظلم الظالمين، ولا يُوقفه بطشُ الباطشين، بل يَكيد هو لهؤلاء جميعًا بثباته، ورباطة جأشه، وشدة يقينه بأن للكون إلهًا يُدبِّر الأمر ويُقدِّره حيث يشاء، وأنه من علامات إيمان المرء رضاه بقدر الله تعالى؛ خيره وشره، وبدون هذا الفهم سيموت صاحب الحق موتًا؛ فسوء فهم القضية يجعلها القاضية.

 

? سيموت إذا لم يفهم طبيعة الصراع وأنه سُنة كونية.

 

? سيموت إذا أساء تصنيف الناس، وإذا فتح على نفسه كل الجبهات في وقت واحد.

 

? سيموت إذا ترك أئمة الباطل ورؤوس الفتنة، وتفرغ لأتباعهم، وفشل في تأليف قلوبهم للحق أو تحييدهم.

 

? سيموت إذا مكَّن الباطلُ من رقبة قادة الحق ورموزه؛ لأن الباطل لا عهد له ولا أمان.

 

? سيموت إذا أساء فنَّ التعامل مع الناس، ولم يعرف كيفية علاج فساد قلوبهم وأمراض نفوسهم.

 

? وأخيرًا، سيموت إذا استسلم للواقع الذي يَفرِضه عليه أهلُ الباطل والضلال.

 

أسأل الله تعالى أن يجعل لأوليائه أمرَ رشدٍ، يُعزُّ فيه أهلُ طاعته، ويُذلُّ فيه أهلُ معصيته، إنه سبحانه وتعالى وليُّ ذلك والقادر عليه.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook