تعدّ سورة نوح من السور المكيّة، في القرآن الكريم، وتتكوّن من ثمانٍ وعشرين آيةً، وقد سمّيت بسورة نوح؛ لذكرها قصّة قوم نبيّ الله نوح -عليه السلام-، وأنّ الله -عزّ وجلّ- أغرقهم بالطُّوفان، بعد أن دعاهم نوح -عليه السلام- لعبادة الله -تعالى- وحده، وعدم الإشراك به، فلم يمتثلوا أمره.
تكشف سورة نوح تجليّات التجربة الدعويّة التي اهتمّ بها نبيّ الله نوح -عليه السلام-، وصبره، وتحمّله في سبيل تلك الدعوة، وتَصِفُ بشكلٍ مباشرٍ أبرز التحدّيات التي واجهته في تحقيق دعوته؛ فقد مثّل قومه الفئة الضالّة الجاحدة لأيّ هدايةٍ ونورٍ، والمنغمسة في الضلال والشرور، ولم يدع نبيّ الله نوح -عليه السلام- باباً إلّا وجاهد لفتحه؛ راجياً لقومه الهداية، فدعاهم ليلاً ونهاراً، سرّاً وجهراً، فلم يزدادوا إلّا نفوراً وفِراراً؛ فكان ثبات الحقّ وجأشه واضحاً يتجلّى في قلبِ نوح -عليه السلام-، فلم يتوانَ في النُّصح والإرشاد، إلّا أنّه كُلّما حاول أن يفتح لهم بصيص أملٍ، صدّوه وأغلقوه؛ بعنادهم وطغيانهم.
تعلّقت سورة نوح بالسورة التي قبلها؛ وهي سورة المعارج، من جهتَين، بيانهما فيما يأتي:
ترتبط سورة نوح بالسورة الواقعة بعدها؛ وهي سورة الجنّ، من وجهَين، هما:
تفرّدت سورة نوح بالحديث عن دعوةِ نوح -عليه السلام- لقومِه؛ فقد دعاهم إلى عبادة الله -تعالى-، وطاعته مِراراً وتكراراً، وبثّ توحيد الله بينهم، ولَبِثَ بينهم مدّةً طويلةً في سبيل دعوتهم؛ استجابةً لأمر ربّه، ورحمةً بالقوم، وتخويفاً لهم من عذاب الله إن لم يستجيبوا، وكان قوم نوح -عليه السلام- عاكفين على عبادة أصنامٍ صنعوها بأيديهم قبل أن يُرسله الله إليهم، وكانت على هيئة رجالٍ صالحين محبوبين من قومهم، فلمّا ماتوا، وتمّ دفنهم، بقي القوم يعكفون على زيارتهم، والتبرّك بقبورهم حتى أغواهم الشيطان، وزيّن لهم صُنع تماثيل لهم، فأخذوا يعبدونها من دون الله -تعالى-، وظنّوا أنّ بيدها نفعهم وضرّهم، وتناقلوها جيلاً عن جيلٍ، فأرسل الله -عزّ وجلّ- نبيّه نوحاً -عليه السلام-؛ ليُخرجهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الله، وقد لَبِثَ في دعوتهم ألف سنةٍ إلّا خمسين عاماً، إلّا أنّهم استمرّوا في غيّهم وجحودهم.
رغّب نوح -عليه السلام- في الطاعات، وحضّ عليها، وذكّر بها؛ لِما فيها من خيرَي الدنيا والآخرة، وأعظمها الاستغفار ممّا اقترفوه في حقّ أنفسهم من عصيانٍ وتمرّدٍ على شرائع الله -عزّ وجلّ-، وأوامره ونواهيه، وكان من وعظه اللطيف لهم رغم شركهم أن أعلمهم عاقبة الاستغفار من الذنوب ومن الشرك، وخيرات الله الكثيرة عليهم، وعلى نسلهم، وأرضهم، وحياتهم بشكلٍ عامٍّ، ودلّل على ذلك قوله -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)، وذلك من عظيم رحمة الله -تعالى- بهم، فالله يقبل توبة عباده مهما بلغت ذنوبهم إن أقبلوا عليه، وأنابوا إليه بصدقٍ وإخلاصٍ.
تجلّت عظمة الله -عزّ وجلّ- في خَلْقه، فهو خالق الإنسان من طينٍ، والذي أنشأه في أحسن تقويمٍ، وأنزل الأمطار، وأخرج الثمار، وهو القادر على إمداد خَلْقه بكُلّ ما يحتاجونه، من راحةٍ، وسعادةٍ، ومالٍ، وبنين، وزورعٍ وافرةٍ، وذلك ما بيّنه النبيّ نوح -عليه السلام- لقومه؛ إذ أقام الحُجّة على وجود الله -تعالى-، وقدرته، وعظمته؛ فقد ذكر الله -جلّ وعلا- في سورة نوح أنّه خَلَق الإنسان من ترابٍ في عدّة أطوارٍ ومراحلَ، واعتنى به في كلّ مرحلةٍ من تلك المراحل، ثمّ أنّه القادر على أن يُميته، ثمّ يُحييه مرّة أخرى، ومن مظاهر قدرة الله أيضاً المذكورة في السورة ذاتها: خلق السماوات بعضها فوق بعضٍ، وجعل الشمس، والقمر.
كان قوم نوح -عليه السلام- كُلّما دعاهم نبيّهم إلى عبادة الله -تعالى-، وإلى توحيده أدّت بهم عزّة أنفسهم إلى الوقوع بالإثم؛ فيضعون أصابعهم في آذانهم، رافضين ومُعرضين عن سماع نُصْح ووعظ نبيّهم لهم لعبادة الله -تعالى-، كما كانوا يغطّون رؤوسهم وأعينهم؛ لئلّا ينظروا إليه، وكان ذلك من أشدّ صور التعنُّت، وأكثرها شناعةً، ويُصرّون مُستكبرين على كفرهم، ظاهراً وباطناً؛ فأمّا ظاهرهم فيتمثّل بسدّ أسماعهم؛ لئلّا يسمعوا كلام نوح -عليه السلام-، ودعوته، ويُخفون وجوههم عنه؛ لئلّا يرَوه، وقِيل زيادةً في سَدّ الأذنين، وقِيل زيادةً في العداوة، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- حتى لا يعرفهم نوح -عليه السلام-، ولا يرونه لهم داعياً، أمّا باطنهم؛ فمن خلال إصرارهم على الأفعال السيّئة في حقّ نبيّهم، وعُلّوهم واستكبارهم في عدم الاستجابة له، ولدعوته، وزاد ذكر المصدر (استكباراً) في قوله -تعالى-: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)؛ تأكيداً على إفراط قوم نوح، وقُبحهم في الاستكبار والجحود، وقال ابن عباس لأنّهم تركوا التوبة.
كان عصيان قوم نوح واضحاً فيما دعاهم إليه نبيّهم -عليه السلام- من المغفرة، والخيرات من الله -تعالى-، فعصوه واتّبعوا أصحاب الأموال، والرؤساء من القوم، وزاد طغيانهم بمكرهم وكيدهم لنوح -عليه السلام-، وتحدّيه، وإشعال نار الفتنة بكلامهم، وحضّ الناس على أذيّته والميل عن دعواه، وعدم ترك آلهتهم التي صنعوها بأيديهم؛ فكان لهم صنمٌ يُسمّى ودّ؛ وهو صنم على صورة رجل، وسُواعٌ على صورة امرأةٍ، ويغوثَ على صورة أسدٍ، ويعوقَ على صورة فرسٍ، ونسر على صورة نسرٍ.
كان دعاء نوح -عليه السلام- على قومه بعد استكبارهم، وإعراضهم عن دعوته بألّا يَدعَ الله منهم أحداً على وجه الأرض، في الحاضر، ولا في المستقبل؛ فقد أخبر الله -سبحانه- نبيّه أنّه لن يؤمن من قومه إلّا القليل، رغم أنّه عايشهم ألف سنةٍ إلّا خمسين عاماً، فدلّت الآيات على أنّ نوحاً -عليه السلام- بذل كُلّ الجهد، ولجأ إلى كُلّ الأساليب في دعوة قومه، ومع ذلك لم يؤمن منهم إلّا مَن آمن كما أخبره الله -تعالى-، فدعا عليهم نوح، وسبب دعائه -عليه السلام- مُعتبرٌ شرعاً وعقلاً، فكما هو مُبيّنٌ في الآيات أنّ قومه إن ولدوا، فإنّهم لن يلدوا إلّا فاجراً مثلهم، حيث سبق إعلامه بأنّه لن يؤمن إلّا مَن آمن، فدعا عليهم، فاستجاب الله -تعالى- له، وهذا الأمر مُبيَّن في سورة الأنبياء، حيث قال -تعالى-: (وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)
برزت عدّة سماتٍ لدعوة نوح -عليه السلام- في السورة المُسمّاة باسمه، يُذكَر منها:
تُستفاد من سورة نوح وقصّته -عليه السلام-، الواردة في ذات السورة العديد من الدروس، والعِبر، والعِظات، بيان البعض منها آتياً:
موسوعة موضوع