صفات الإمام الناجح

الكاتب: المدير -
صفات الإمام الناجح
"صفات الإمام الناجح

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فإن رسالة الإمامة من أشرف الرسالات والأعمال وأكثرها نبلاً، وكيف لا تكون كذلك، وهي مهنة الأنبياء والرسل، وأصحابها هم ورثة الأنبياء، فهم الذين يرفعون عن الناس الجهل بأمور دينهم، ويحلون الكثير من مشاكلهم، فينقلونهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن القلق والاضطراب إلى الأمن والسكينة.

 

إن مصطلح الإمام أيها الأحبة إذا أطلق في اللغة انصرف إلى كل من ائتُم به وقُلدَ واتبِعَ من طرف الناس، سواء كان هذا الإتباع على هدى وصراط مستقيم كإتباع الأنبياء والمرسلين، الذين وصفهم القرآن قائلا: ? وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ? [الأنبياء: 73] أم كان على ضلال وانحراف، كتقليد الطغاة الفاسقين، الذين قال فيهم القرآن: ? وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ? [القصص: 41].




لذا لزم اختيار الإمام من صفوة المجتمع، وإعطاء منصب الإمامة الرفعة والمكانة التي حظيت بهما عبر التاريخ، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم)) أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال: (إسناد هذا الحديث ضعيف) [السنن الكبرى: 3/ 90 ].

 

واقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، حيث كان لا يعين إماماً إلا أفضل القوم وأعلمهم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما تشهد بذلك الآثار النبوية.

 

إن منصب الإمامة تحتاج ابتداءً من صاحبها استشعار المسؤولية الملقاة على عاتقه، تجاه المنصب الذي أسند إليه، وما يتطلبه منه؛ لأنه سيسأل أمام الله عز وجل عن هؤلاء الناس الذين هم أمانة بين يديه فـ ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).

 

إن صاحب الهم الذي يحمل هم الأمانة التي استرعاه الله عز وجل عليها يتساءل دائماً كيف أقوم بأداء هذه الرسالة؟ وهذه الأمانة على الوجه الذي يرضي الله عز وجل عني؟ ويتساءل دائماً: كيف أكون إماماً ناجحاً في حمل أمانتي مؤدياً لها على الوجه الصحيح؟

 

وإيماناً مني بأهمية الإمامة وما يتعلق بها من أمور جد خطيرة ورغبة مني في تطوير أداء الإمام وعمله؛ فإنني أحببت كواحد من هؤلاء الأئمة والخطباء أن أقدم بين يديكم جملة من الأمور التي أظن أنها مما يجب أن يتحلى ويتصف بها الإمام؛ حتى ينجح في أداء رسالته العظيمة النبيلة على أكمل وجه.

 

على الإمام أن يعلم بأنه على ثغر من ثغور المسلمين يلتمس بعمله هذا الثواب من عند الله عز وجل، و أن عمله كإمام يمنحه فرصة عظيمة؛ لتحصيل الأجر الجزيل فهو من دعاة الله عز جل وعمله من عمل الأبرار الصالحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئاً)).

 

وعليه أن يستحضر هذا الحديث دائماً، وسيجد أثر لذة في نفسه بلا شك، تدفعه إلى مزيد من العمل بجد ونشاط.

 

إن صفات الإمام الناجح هي الصفات التي تجعل منه: مستقيماً، معتدلاً، حكيماً منضبطاً في كل أموره، ناجحاً في دعوته وإمامته، موفقاً مسدداً ملهماً بإذن الله تعالى.

 

ومن هذه الصفات: العلم والفقه، والحكمة، والحلم، والأناة، والتثبيت، و الرفق، واللين والصبر، والإخلاص، والصدق، والقدوة الحسنة، والخلق الحسن. الخ

 

إن العلم والفقه - أُذكر بأن مقصودي هنا بالعلم هو العلم الشرعي- من أهم صفات الإمام الناجح؛ بل هي من ضروريات عمله؛ ليؤم الناس على بصيرة، وليقوم بواجبه من نصح وتوجيه وإرشاد.

 

ولأهمية العلم نجد أن الله أمر به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: ? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ? [محمد: 19].

 

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذه الآية بقوله: (باب: العلم قبل القول والعمل).

 

وقال الإمام أحمد رحمه الله: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، قالوا: وكيف تصح نيته يا أبا عبد الله؟ فقال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره .

 

وهذا هو عمل الإمام يرفع الجهل عن نفسه وعن جماعة مسجده.

 

والعلم هو ما قام عليه الدليل و جاء به الوحي - الكتاب والسنة -.

 

لقد مدح الله عز وجل أهل العلم وبين فضلهم، وأثنى عليهم في كثير من آياته من ذلك قوله سبحانه: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( وقوله) ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28]

 

وقال صلى الله عليه وسلم: (( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)).

 

والعلم الصحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل علم يتلقى من غيرهما يجب أن يعرض عليهما، فإن وافق ما فيهما قبل، وإن كان مخالفاً وجب رده على قائله كائناً من كان.

وهذا معنى كلام الشافعي رحمه الله:

كل العلوم سوى القرآن مشغلة
إلا الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين

 

وينبه هنا على ضرورة أن يقترن علم الإمام بالعمل، فيعمل بما يعلم وهذا هو منهج سلفنا الصالح، فقد ربطوا العلم بالعمل دائماً وهذا ملحوظ لمن قرأ سيرهم وأخبارهم.

 

لقد حذر الله المؤمنين من أن يقولوا مالا يفعلون وعد ذلك من المقت فقال تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ? [الصف: 2، 3].

 

ذكر وثيمةُ في كتاب (الردة) عن ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه عمرو بن العاص يدعوه إلى الإسلام، فقال: (لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له).

 

قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: (لا تكون تقيًّا حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً).

 

وقال سفيان ين عيينة - في العمل بالعلم والحرص عليه -: (أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله).

 

ولهذا قال الشاعر:

إذا العلم لم تعمل به كان حجةً
عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما
يصدق قولَ المرء ما هو فاعله

 

وصدق من قال:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ??? عار عليك إذا فعلت عظيم

 

كما على الإمام أن يطابق قوله فعله، لأن المصلين المواظبين على حضور مسجده المستمعين لأقواله، سيرقبون أعماله وأفعاله، فإن طابقت أفعاله أقواله اتبعوه وقلدوه، وإن وجدوه مخالفاً أو مقصراً فيما يقول شَهَّروا به وأعرضوا عنه.

 

ولابد أن يستحضر الإمام وهو يمارس عمله أنه في عبادة وجهاد عظيمين فالإمامة من أجل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله تبارك وتعالى، إذا حسنت النية واستقامت.

 

وإذا استحضر الإمام أثناء عمله أنه يمارس عبادة وجهاداً فإن ذلك ولاشك سيدفعه إلى مزيد من الجد والاجتهاد وإلى مزيد من البذل والتضحية، وسيدفعه ذلك إلى تغليب جانب المصلحة العامة على جانب المصالح الشخصية والمطامع الدنيوية، فهو سيعمل بجد دون انتظار لشكر الشاكرين، أو ثناء المثنين، أو التفات لقدح القادحين.

 

إن الإمام الناجح كالمعلم الناجح؛ لأنه صنوه فكلاهما مربي ومرشد وموجه، بل الإمام أعلى مرتبة وأجل، لذا كان ما يتحلى به المعلم الناجح من صفات لابد أن تكون فيه.

 

يقول الإمام النووي - رحمه الله - عن صفات المعلم: (ويجب على المعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله، وألا يجعله وسيلة لغرض دنيوي، فيستحضر المعلم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات؛ ليكون ذلك حاثاً له على تصحيح النية، ومحرضاً له على صيانته من مكدراته ومن مكروهاته، مخافة فوات هذا الفضل العظيم والخير الجسيم).

 

إن الإمام قدوة في أمور الخير، منارة هدى، ودليل إرشاد وتوعية، فهو صادق اللسان عفيف المنطق، حازم في غير عنف، ولين في غير ضعف، قدوة في الأقوال والأفعال، طاهر العرض، نقي السريرة، صبور على الناس، بعيد كل البعد عن رديء القول وفاحش العبارات، طيب المخبر، حسن المظهر، إذا قال فعل، لا يعرف السباب ولا الشتم ولا اللعن ولا الاستهزاء طريقاً إلى قاموس مفرداته، فهو حافظ لمنطقه فلا يسمع منه إلا خيراً، وحين يعاتب أو يحاسب فلا يليق به وهو المربي والموجه أن يتجاوز أو يرمي بالكلمات التي لا تليق بمثل رسالته ولا بمثل مهمته.

 

الإمام الناجح هو من يستخدم عبارات مفهومة سهلة التناول والفهم، فيبتعد عن التعقيد والغموض الذي يوقع في اللبس والخطأ والبلبلة، فيقدم المعلومة على قدر فهم المتلقي (( حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)).

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم (( إياك وما يعتذر منه)) رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

 

في هذا الحديث دلالة على وصف لازم لكل إمام، بل كل مسلم تقي، وهذا الوصف هو: حفظ المروءة وهي: مراعاة الأحوال بأن تكون على أفضلها؛ حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق، وهي استعمال كل خلق حسن، واجتناب كل خلق قبيح.

 

والمروءة سجية جبلت عليها النفوس الزكية، وشيمة طبعت عليها الهمم العلية، وقد قيل لسفيان بن عيينة: قد استنبطت من القرآن كل شيء، فأين المروءة فيه؟ فقال: في قوله تعالى: ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? [الأعراف: 199] ففيه المروءة وحسن الأدب، ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله تعالى: ? خُذِ الْعَفْوَ ? [الأعراف: 199] صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل في قوله تعالى: ? وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ? [الأعراف: 199] صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار، ودخل في قوله تعالى: ? وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? [الأعراف: 199] الحض على التخلق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم والتنزه عن منازعة السفهاء.

 

وقال رجل للأحنف بن قيس: دلني على المروءة، فقال: عليك بالخلق الفسيح والكف عن القبيح.

 

وقد اشترط علماء الحديث فيمن يتلقون عنه الحديث أن يكون عدلاً والتي من لوازمها أن يكون سليماً من خوارم المروءة.

 

فكيف بمن يؤم بالناس؟! كيف بمن يتلقى عنه النصح والتوجيه والإرشاد؟! إنه بلا شك حري بأن يكون كامل المروءة، عظيم الخلق، إن الإمام هو مثال القدوة التي تتوجه الأنظار إليه بفضل مكانته، لذا كان على الإمام وهو بلا شك موضع النظر من الكبير والصغير أن ينظر إلى نفسه وخلقه فيهذبها ويلزمها بأفضل الأخلاق والأعمال.

 

على أن المروءة وخوارمها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فإن العادات والأعراف تختلف، وكذا الثقافات، ولذلك كان مرَدّ المروءة إلى العرف.

 

إلا ما ورد فيه نص، فإن ورد فهو الحَكَم، أو قل إلا ما قام عليه الدليل، وإلا فلا ينبغي التضييق على الناس في كل حركة وسكون، لأن استصحاب الحال واجب إن لم تكن هناك بينة من الشرع يرجع إليها.

 

إن على الإمام الناجح أن يكون ملماً بأحوال أهل زمانه، ومعضلاتهم، ومشاكلهم حتى يتمكن من تناول القضايا والمشاكل ذات الصلة بأهل زمانه ومكانه، أثناء نصحه وتوجيهه للجمهور المنصت له، والمقتدي به.

 

إن الإمام الناجح هو المدرك لطبيعة عمله ونشاطه الذي من ضمنه النصح والتوجيه خاصة لأهل مسجده، انطلاقاً من كونه مسؤول وكل راعٍ مسؤول عن رعيته.

 

إن النصيحة منوطة بكل مسلم فكيف بالإمام، وهي ثابتة مرغب بها، بل كانت مما بايع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جرير بن عبد الله قال:( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) رواه البخاري.

 

بل وصفت بأنها هي الدين، فعن تميم الداري أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (( الدين النصيحة)) قلنا: لمن؟ قال: (( لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم.

 

إن النصح لا ريب أنه مطلب ضروري في كل وقت وكل زمان، فالنصح عماد استقرار كل مجتمع؛ فهو الميزان الذي تستقر به الأمور وتعالج به المشاكل قبل استفحالها وتفاقمها، والتي عندها يصعب العلاج، ليمتد المرض إلى جميع أجزاء جسد المجتمع، لتعم الكارثة وتشمل أفراد المجتمع ككل.

 

إن النصح في أيامنا هذه خاصة يعتبر مطلباً ضرورياً هاماً خاصة مع توفر الدواعي والأسباب الداعية إلى ذلك والتي أذكر منها:

أولاً: شيوع المخالفات بشقيها الخلقي والفكري، فالمشاهد لأوضاع الناس يرى ذلك فالانحرافات الخلقية بل العقدية والفكرية أصبحت ظاهرة في أغلب المجتمعات وهنا يأتي دور المسجد والإمام في تفعيل عملية النصح والتوجيه.

 

ثانياً: كثرة وغلبة الجهل الذي عمّ كثيراً من بلاد المسلمين، فلا يكادون يعرفون أحكاماً كثيرة من دينهم، ولا يكادون يقيمون أركاناً وفرائض من شعائر الإسلام، فيحتاجون إلى النصح والتوجيه والتعليم ولاشك بأن لإمام دور في ذلك.

 

ثالثاً: ضعف الوازع الديني، وعدم الاهتمام بأمر الدين، وهذا الأمر ملحوظ في سلوكيات كثير من المسلمين، فتراهم يسألون أهل الخبرة ويكثرون من السؤال في القضايا الدنيوية لكنهم قل ما يسألون عن أمر من أمور دينهم، بل البعض بعد أن ينتهي من أمره الدنيوي قد يسأل عن حكم الشرع فيه.

 

وقل ذلك في فريضة الحج التي هي ركن من أركان الإسلام، فيقطع المسلم المسافات الكبيرة وينفق الأموال والأوقات الكثيرة ولا يشغل وقته بتعلم واجبات الحج بل أركانه.

 

رابعاً: هذا الزخم الواسع من الغزو المتنوع في انحراف الفكر وانحلال السلوك عبر كل الوسائل المختلفة من هذه الفضائيات، أو الإذاعات أو الشاشات أو الشبكات أو غير ذلك مما أصبح معه الناس دائماً في تأثرٍ يحتاج إلى مقابلة بهذا النصح والتذكير بإذن الله عز وجل.

 

ومن ذلك أيضاً: الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة بما تيسر من أسباب الحياة وترفها مما يحتاج دائماً إلى نصيحة، تقرع ناقوس الخطر وتنبه إلى حقيقة الحياة الدنيا وإلى نهايتها وزوالها وإلى ما بعدها.

 

ثم أمرٌ آخر هناك نصائح معكوسة ومقلوبة من يسمعها ويصغي إليها لا يصل إلى الخير بل ضده. وللأسف أن صور منها تشيع في واقعنا، ولها كذلك حضور وذكر في التاريخ وفيما سجلته آيات القرآن أدلة وأمثلة، فمن ذلك:

فرعون أطغى أهل الأرض وأكفرهم، ماذا يقول عن موسى عليه الصلاة والسلام) إني أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ( فرعون ينصح الناس ويحذرهم من موسى عليه الصلاة والسلام، ويقول: أخشى أن يغير ويحرف ويبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد والفتن والظلم!! ويقول عن نفسه:) ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (فرعون يقول: أنا الذي أنصحكم وأبين لكم طريق الرشد والحق والهدى.

 

وهكذا نجد صوراً كثيرة في حياة الناس وفي واقعنا اليوم من هذا الأمر، حتى إنك إذا نصحت وبأسلوبٍ حسنٍ وعلم عنك ذلك يأتيك من يقول: ما لك ولناس دع الخلق للخالق ، لا تدخل بين البصلة وقشرتها ، لماذا تكلف نفسك ما تطيق وهل كلفت بأمر الناس.

 

يريدك أن تكون وحدك، لا تنطق لسانك بالحق، ولا تنكر بالقلب، ولا تغير باليد، ولا تصنع شيئاً، ولا يتمعرن وجهك لمنكرٍ، ولا يتغير قلبك لمفسدةٍ.. ونحو ذلك! كأنما ينصحك بأن تترك أمر الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم!في أحوالنا الاجتماعية بما تنصح الزوجة أحياناً؟ احذري لا يتسلطن عليكي. انتبهي لا يأخذن من مالكِ. كوني له بالمرصاد. ترقبيه في كل لحظة، والزوج يقولون له: انتبه من البداية، لا بد أن تضرب بيدٍ من حديد.

 

هذه نصائح شائعة ويقدمها أصحابها على أنها نصائح، وهي من المخاطر والمزالق العظيمة والأمر في هذا كثير.

 

أخيراً: نصيحتنا فيما بيننا نحن عامة المسلمين الداخلون في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) كيف ننصح لبعضنا؟

أولاً: التعليم والإرشاد علّم أخاك بما ترى أنه لا يعلمه، وأنت تعلمه أرشده إلى مواطن الحق والخير، ومحّض له النصح فيما تشير به عليه.

 

ثانياً: الرعاية والإعانة والإسناد إن كانت له حاجة فبادر إلى سدها وإن كان في كربٍ فبادر إلى التنفيس عنه؛ فإن ذلك من ألوان النصح له كذلك.

 

ثالثاً: الأمر والنهي والنصرة الحقيقية.فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قال انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: ((تمنعه من الظلم)) أخرجه البخاري واللفظ للبيهقي في السنن الكبرى.

 

رابعاً: الإحسان والستر.أحسن إليه واستر عليه، وكن معه على ذلك الشأن الذي يحب أو تحب أن يكون لك من الآخرين.

 

خامساً: التعظيم والتوقير ونعني بذلك تعظيم حقوق المسلمين، وتوقير قدرهم؛ فإن للمسلم عن المسلم حقٌ لا بد أن يؤدى، وإن له حرمة لا بد أن تراعى: فله حرمة في عرضه، وفي دمه، وفي ماله، فكيف تغتابه؟ وكيف تستهزئ به؟ وكيف تسخر منه؟ وكيف لا تعطيه قدره؟ وكيف تشعره بالإهانة أو الاحتقار أو الازدراء وآيات النهي عن ذلك كثيرة ومعروفة؟

 

سادساً: كف الأذى عنه وكم من الأذى يأتي منا إلينا وفيما بيننا، ولعلنا أيضاً نحتاج إلى التعاون على البر والتقوى، فهو من أعظم صور النصح بين المسلمين وميادين ذلك كثيرة نحن نرى في مساجدنا قصوراً وخللاً ومخالفات، لكننا نكاد لا نسمع ما يكاد ينطق بنصح بالأسلوب المناسبة و بالطريقة الملائمة.

 

نحن نرى من يظلم يشتم ويسب ويلعن، فلا نقول له: انتبه؛ فإن ذلك سيعود عليك فاقلع عما أنت فيه؛ فإن تعودت ذلك صار لك ديدناً وصار سمة سيئةً ونحو ذلك.

 

كثيرة هي الصور التي في واقعنا تحتاج أن نشيع النصح والتوجيه فيها، ولكننا كثيراً ما نتأخر أو نتخلف لأسباب متنوعة، فلعلنا أن نتعاون تعاوناً حقيقياً، وأن نستفيد في مثل هذه الكلمات استفادة عملية، فلنشع هذا النصح فيما بيننا في أحوال مساجدنا فيما يقع فيها من مخالفات. كم نرى من ناسٍ يدخلون إلى المساجد بثيابٍ قذرة، ورائحة منفرة، ولا يذكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينهى ويمتنع عن أكل بعض الطعام - الثوم والبصل - حتى لا يتأذى جليسه ولا تظهر منه رائحة منفرة، تؤذي الناس من المصلين، وتؤذي الملائكة من الذين يحفون من المصلين.

 

وكم من صور المفاسد والقلاقل نراها في مجتمعنا تحتاج إلى نصح وتوجيه وإرشاد، إن المسجد لابد أن يقوم بدوره في هذا عن طريق تفاعل إمامه مع مشاكل حيه ومجتمعه، فيقوم بواجب النصح والتوجيه منطلقاً من مسؤولياته وحرصه على مجتمعه فيشيع من خلال مسجده النصح والوعظ، سواء كان ذلك في العبادات، أوكان ذلك في الأحوال الاجتماعية أو التعليمية وغيرها؛ لأن المسجد هو قلب المجتمع المسلم النابض، وهو الرئة التي يتنفس بها.

 

وحتى تؤتي النصيحة ثمارها وأكلها وتحقق مقصدها لا بد لها من أسباب توصل إلى حصول مقصود النصح، والتي من أهمها العلم بما ينصح، فلا ينبغي النصح في أمر لا يعرف فيه حكم الشرع؛ لأن النصيحة أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، وهي دعوة إلى الله، فلا بد فيها من علم وفهم قال تعالى: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? [يوسف: 108] أي على علمٍ وبينةٍ ومعرفةٍ تامة وواضحة.

 

وقال تعالى: ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? [النحل: 125] والحكمة كما هو معلوم: وضع الشيء في موضعه، ولا يمكن ذلك إلا بالعلم والفهم.

 

وعلى هذا سار سلفنا الصالح، فمما أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: (العامل بغير علمٍ، ما يفسد أكثر مما يصلح).

 

وكذلك على الإمام أن يعمل بما ينصح به؛ فإنه قدوة حسنة ينظر لها، فإن وافق فعله قوله كان ذلك أبلغ في النصح، وفي قبولها، وإلا كان العكس.

 

وفي سياق ما ذكر من صفات مذمومة التي كان عليها بعض أهل الكتاب قوله تعالى: ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ? [البقرة: 44]

 

وفي حديث أسامة بن زيد ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن عقاب رجلٍ في يوم القيامة، كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه وفيه (( فيؤتى به يوم القيامة فتندلق أقتابه - أي أمعائه - من بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر، وآتيه)) إن في هذا الحديث وأمثاله تذكيراً وموعظةً وتحذيراً وترهيباً من هذا السلوك.

 

ولتأكيد هذا المعنى - عدم مخالفة القول العمل - جاء الخطاب القرآني على لساني نبيه شعيب عليه الصلاة والسلام (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) أي أنه (إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه، وأن فعله لا يخالف قوله) [الشنقيطي: أضواء البيان:2 /197].

 

كما على الإمام عند نصحه لغيره إظهار الحرص والاهتمام، فيظهر الشفقة والرحمة للمنصوح، وأنه يريد له السلامة وحب الخير، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تغزو بها النصيحة القلوب والعقول.

 

وليستحضر الإمام هنا قول الله تعالى في خلق النبي- صلى الله عليه وسلم - وصفته:) فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ( كيف يريد الإمام أن تسمع نصائحه وتوجيهاته، والمنصوح لا يرى منه إلا الشدة والغلظة والتعنيف.

 

كما عليه عند النصح أن يظهر التجرد التام، فهو ناصح لوجه الله تعالى فقط وهذه الصفة هي حال الرسل والأنبياء مع أقوامهم قال تعالى: ? قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ? [سبأ: 47]  وقال تعالى: ? إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ? [هود: 88]

 

وعلى الإمام أن يتلطف في النصح قولاً وعملاً، وليستحضر قصة مصعب بن عمير - رضي الله عنه- عندما كان يدعو الناس إلى الإسلام في المدينة فجاءه أسيد بن حضير مرسولٌ من سعد بن معاذ قائلاً: أخرج عنا ولا تفرق بيننا! قال: أو غير ذلك؟ قال: ما عندك؟ قال: تجلس فتسمع؛ فإن أعجبك الذي قلنا وإلا أعطيناك الذي أردت! قال: لقد أعطيت النصف - كلام منطقي عاقل - فسمع، فشرح الله صدره، ونوّر قلبه، ونطق بالتوحيد لسانه، ورجع إلى سعد داعياً، فأسلم سعد وأسلم من بعد سعد قومه كلهم.

 

وإبراهيم الخليل - عليه السلام - أبو الأنبياء يخاطب أباه، وهو كان زعيم الكفر في وقته بقوله: ? يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ? [مريم: 42]

 

فقوله: ? يَاأَبَتِ ? [مريم: 42] لم ينقصه حقه، ولم ينسى قدره، ولم يخفى عليه أن مثل هذا المدخل قد يكون له أثره.

 

وقصة موسى وفرعون معروفة، قال تعالى: ? اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? [طه: 43، 44].

 

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما راسل ملوك عصره خاطبهم بمناصبهم؛ لأنهم بها يخاطبون وإن كانوا ليسوا معظمين في الميزان الإيماني والإسلامي فكتب إلى الملوك قائلاً: إلى هرقل عظيم الروم و إلى كسرى عظيم الفرس .

 

على الإمام الناجح أن يختار الظرف والوقت المناسب للنصيحة والتوجيه، فلكل مقام مقال، ولكل ظرف حديث.

 

فكم من نصيحة تذهب أدراج الريح أو قد تنقلب إلى عكس المرجو منها حين تلقى في غير وقتها.

 

فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه حكيم بن حزام فسأله مالاً فأعطاه، ثم جاء ثالثةً من بعد فسأله فأعطاه، ثم قال له: (( يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيبة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفسٍ لم يبارك له فيه)).

 

سأله في أول مرة وهو محتاج فأعطاه، لو قال له في ذلك الوقت: السؤال ليس مناسباً والتسول ليس مطلوباً لقال: إنما يريد أن يصرفني، ولا يريد أن يعطيني! ولكنه أعطاه في المرة الأولى، والثانية، وأعطاه في المرة الثالثة، ثم نصحه ووجهه فوقعت النصيحة والموعظة في موقعها؛ لأنه علم أنه ما قال له ذلك بخلاً - حاشاه عليه الصلاة والسلام - أو لأنه لا يريد أن يعطيه! وإنما قاله له لمصلحته، فعرف ذلك،بعد أن اختار الوقت المناسب، وبعد أن سد له حاجته في مرة واثنتين، حتى لا تذهب به الظنون بعيداً فأي شيء أثر ذلك في حكيم؟ قال: فما سألت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.وفي عهد أبي بكر أرسل له عطاءه المستحق له من بيت المال فرده وقال: والله لا أرزء أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عمر كذلك رد عطاءه.

 

انظروا كيف تغلغل أثر النصيحة في نفسه، حتى إنه لم يعد يأخذ شيئاً ولو كان له فيه حق؛ لأن نفسه سمت وارتفعت، بعد أن فقه هذه النصيحة، ووقعت في قلبه موقعها الحسن فلتزم بها.

 

كما يجدر بالإمام أن يتخول الناس بالموعظة بين الحين والحين، حتى لا يدخل الملل والضجر على قلوب المستمعين فهذا من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - أنه كان يعظ الناس ويذكرهم كل خميس، فقالوا: وددنا يا أبا عبد الرحمن لو أنك ذكرتنا كل يوم! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا .

 

وكذلك من ضمن ما يراد في الوقت المناسب، المراوحة والمزاولة بين الإسرار والإعلام فنصيحة الفرد غالباً ما يكون الأفضل فيها والأتم أن تكون في السر بينه وبين الإمام، وأما نصيحة العموم إذا فشا أمر ما بين الناس، واحتيج إلى بيان وتوضيح وإرشاد فعلى الإمام أن يستخدم أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا وهو استخدام صيغة العموم (ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا).

 

فمن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان لا يواجه أحداً في وجهه بشيء يكرهه .

 

و من حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول ولكن يقول ما بال أقوام يقولون .

 

يقول النووي - رحمه الله - في ذلك: (المعروف من خطبه صلى الله عليه وسلم في مثل هذا أنه إذا كره شيئا فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله، وهذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم، فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ) [شرح النووي على صحيح مسلم ج9/ ص176].

 

فليس الإمام بحاجة إلى استخدام وصف يعلم الناس كلهم أن المقصود به فلان بن فلان فذلك لم يعد نصيحة بل فضيحة.

 

إن الكلام في هذا الموضوع ذو شجون، لا يكاد ينتهي حتى يبدأ، نسأل الله تعالى لنا ولكم الثبات على الأمر وأن نكون خير دعاة إلى دينه، وأن نحرص كل الحرص على تلمس رضاه في القول و العمل.

 

وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى من اتبع سنته واقتدى بهداه.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook