صلاتي ملاذي

الكاتب: المدير -
صلاتي ملاذي
"صلاتي ملاذي

 

خاطبَها الذَّنْبُ مُتبجِّحًا: خُذيني؛ فلي من البريق اللامع ما يُدهشكِ.

تردَّدتْ قليلًا، ثم أجابتْه: أنت رائعٌ!

فتجرَّأ، وقال: تعالَي، عانقي فضائي الرَّحْب.

ردَّتْ عليه الفتاة بقولها: إنَّ قلبي يهواك بشدَّة، لكن...




قال: لكن ماذا؟

قالت: فيك شيءٌ يَثنيني عن الإقدام عليك.

أجابها مُتباهًيا: تعالَي تعالَي، فعندي الحريةُ الكاملة، والمتعة الماجنة، والعشق المتيَّم.

نظرت إليه بإعجابٍ، فاسترسل قائلًا: أنا كلُّ ما تهوينه، أنا كلُّ ما ترغبين فيه، وبين أحضاني ستعيشين أحلامَكِ بقوَّةٍ عارمةٍ.

خطتْ خطوةً نحوه، فاستيقظ ضميرُها: ويحك، إنه سراب!




أجابته على الفور: عن أيِّ سراب تتحدَّث؟! إنه الحياة بكُلِّ معانيها، ثم أردفت قائلةً: لا تُقيِّدني بربِّك، لقد سئمت قيودَك، أريد أن أغامر إلى حيث اللاقيود، إلى حيث حريَّتي.

ضحك الذنب وقال: أحبُّ منطق تفكيركِ.

ردَّت عليه الفتاةُ بضحكةٍ مماثلةٍ: وأنا أحبُّ جاذبيتكَ، وهوسكَ.

 

خطتْ خطوةً أخرى إليه، فناداها منادٍ:

ألَا فلتتذكَّري أن للَّحظة نهايةً،وللشهوة شُؤمًا، وللحرية ثمنًا، ولمنطق تفكيركِ غشاوةً، أزيليها لتنظري بعين الحقِّ.

ارتجفتْ وقالت: مَنْ أنت بالله عليك؟ لكأنِّي بصوتكَ يُدوِّي في كياني كلِّه.

فأجاب:أنا صدى صلاتكِ التي أفرغتِها من روحها، ولو صلَّيتِها باطمئنانٍ وخشوعٍ، لما وقفْتِ هذا الموقفَ المريب.

تسمَّرتْ في مكانها ونادَتْ: أيُّها الذنب، قل لي كلامًا أحلى، فقلبي متعلِّقٌ بكَ، لكن الحاجز أقوى.

 

صمتَ الذنبُ برهةً يجلِّي النظر فيها ويُقلِّب؛ عساه يظفر ببُغيته، ثمَّ همس إليها: عانقي اللامبالاة، وارتمي في أحضان الجهل، ودعي الصلاح؛ فهو كذبةٌ بيضاءُ تصلح للوعظ، لكنَّ عالمي لا يحتاجه، فمجيئك لا يحتاج كبيرَ عناءٍ، ولي في هذا العصر صورٌ شتَّى، ووسائلُ متقنةٌ تُوصلك إليَّ في الحين.




ناداها المنادي مرةً أخرى: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح.

فكَّرت قليلًا، وقالت: انتظرْ سأعودُ.

فأجابها الذنب: لا، لا، لا تفعلي؛ إنك بذلك تُضيِّعين على نفسك الكثير؛ فالحاضرُ الجميلُ خيرٌ من المستقبل البعيد.

التفتتْ إليه، وقالت: صدقْتَ.

ثم سمعتْ صوتًا مجدَّدًا: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح.

فهتف بها هاتفٌ: ألَا تخافين من رب العالمين؟ فَرِّي إليه سبحانه، واستعيذي بالله من الشيطان الرجيم.




خاف الذنبُ وارتعدتْ فرائصُه، فغنَّى بموسيقا صاخبةٍ، وألحانٍ ساحرةٍ، يُريد أن يشلَّ عقل الفتاة، ويُشتِّت انتباهها، ثم قال: لا بأس بالتجرِبة، فتجربةٌ واحدةٌ لن تُغيِّر شيئًا.

نظرت إلى الساعة عند الجدار، وقالت في نفسها: لا زال عندي مُتَّسعٌ من الوقت لأصلِّي، فلا بأس بقليل لهوٍ.




تهيَّأ الذنب وتزيَّن، وفتح ذراعيه ليُعانقها، فارتمتْ حتَّى ارتوت، ثم أحسَّت بتخمةٍ، فعافت ومرضتْ ثمَّ ندمت، عادتْ لنفسها، وقالت: حسبتُ أني سأكون سعيدةً، فإذا بي شقيةٌ تعيسةٌ، حسبتُ أني سأتلذذُ، فإذا بي أتألَّمُ وأتعذَّبُ، خاب ظنِّي، وضلَّ مسعاي، كيف وقعت؟! ومن أين أوتيت؟! فأنا طيبةٌ، ولم أُرِد الأذيةَ لغيري، فكيف بنفسي؟!




سألت قلبها: كيف وقعت الواقعة؟

أشار إليها: حين غيَّبتِ الرَّقيب، وأبعدتِ الجليس الصالح، وقرَّبتِ جليس السوء، وأضعفْتِ الصِّلة بينكِ وبين خالقكِ ومُربِّيكِ...

 

صرختْ فيه مقاطعةً: أرجوك كفى، لا تُذكِّرني! فلقد غرَّني طولُ الأمل، فلم أخف سوء العاقبة، والحمد لله أن ربِّي كان بي رحيمًا؛ إذ أفقتُ وأنا بين الأحياء.




ربِّ قد أتيتُكَ نادمةً، فاقْبل توبتي، واغسل حوبتي، ربِّ اغفرْ لي، واعفُ عني، وأعنِّي على توبة نصوح، وارزقني الثبات حتى الممات.




طاف بها الذنب ثانيةً وثالثةً ورابعةً - لم تعد تتذكَّر - يُغريها؛ فالتجارب المتجددة تعقب لذَّةً تلو الأخرى، كانت تلك ذريعته، نظرت إليه وقالت: غُرَّ غيري، لقد ذُقتُ منكَ حتى الشبع، ولي نفسٌ تتوقُ إلى الكمال، وليس لي في لذَّة تعقبها الحسرةُ والندم، ولا أظنني سأتَّبعك.

 

قالتها بلهجة الواثق، فخيَّم سكونٌ غريبٌ، وفاحت في المكان رائحةٌ عجيبةٌ، ليأتي صوتٌ قويٌّ مع نورٍ ساطعٍ يقول:

حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة.




هُرعت دون توانٍ إلى الصلاة؛ لترتوي منها ريًّا يُحيي عروقها الميتة، وتلتئم منه جراحاتُ فؤادها الممزَّق، ويُحصِّنها من طارق يطرقها ويُريد بها شرًّا، فقد وعت أن الصلاة بتمامها تَنهى عن الفحشاء والمنكر.


"
شارك المقالة:
44 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook