بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ [أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758)]، فهل يليق بنا - يا إخوتي - النوم في وقت النزول الإلهي؟[1] إلى متى الغفلة؟ اللهم أيقظ قلوبنا بالإيمان، ولا تجعلنا من المحرومين.
معاشر الكرام:
إن التأمل في نصوص الكتاب والسنة، وتدبر ما جاء في فضل قيام الليل والحث عليه أكبر زاد، وأحسن إرشاد، وأعظم ذكرى ? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ? [سورة ق 37]؛ وسأذكر - إن شاء الله تعالى - فيما يلي آيات وأحاديث في فضل قيام الليل، والحث عليه رغبة في تنشيط النفوس، وبث الهمم، ودفع العزائم لدأب الصالحين، وعمل الأبرار المتقين.
وفيما يلي جملة من الأحاديث النبوية في فضل قيام الليل، والحث عليه:
• عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقومُ من اللَّيل حتى تَتفطَّر قدماه، فقالت عائشةُ: لِمَ تَصنعُ هذا يا رسولَ اللهِ، وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّمَ مِن ذنبِك وما تأخَّر؟! قال: أفلا أحبُّ أن أكونَ عبدًا شكُورًا؟! [أخرجه البخاري (4837)، ومسلم (2820)]، فصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك الشكور الكريم، إمام المتقين، وقدوة المخلصين، وسيد ولد آدم أجمعين [9].
• وعن أبي مالكٍ الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ في الجَنَّةِ غُرفًا يُرى ظاهرُها من باطنِها، وباطنُها من ظاهرِها، أعدَّها اللهُ تعالى لِمَن أَطعَمَ الطَّعام، وأَلانَ الكلام، وتابَع الصِّيام، وأفْشَى السَّلام، وصَلَّى باللَّيلِ والناسُ نِيام [أخرجه أحمد (22905)، وحسَّنه الألباني في صحيح الموارد (533)]، فيا ليت شعري من سيفوز بهذه الغرف الشفافة البديعة، والقصور الأنيقة البهية، والمنازل البهيجة السنية؟ ? فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ? [سورة القمر 54-55]؛ اللهم اجعلنا من المفلحين الفائزين، ولا تجعلنا من الخائبين الخاسرين يا رب العالمين.
• وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلْإِثْمِ [أخرجه الترمذي (3549)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4079)]، وهذا الحديث - رحمكم الله تعالى وغفر لكم - يوضح أن قيام الليل سُنَّةُ الصَّالِحينَ وعادَتُهم وشَأنُهم [11]، وهو لا يكفر السيئات الماضية فحسب، بل يبعد عن الآثام، ويقرب إلى الله رب الأنام.
• وعن أَبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الصلاةِ المكتوبةِ، الصلاةُ في جَوفِ الليلِ [أخرجه مسلم (1163)]، والمُرادُ بِجَوفِ الليلِ: الثُّلثُ الآخِرُ منه [12]، وهو وقت طيب مبارك، تجمل بالتَعَبُّد فيه النفس، ويزدان بالطاعة فيه العمل، ويرسخ بالقيام فيه اليقين.
• وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ [أخرجه البخاري (39)]، قال ابن الحاج المالكي رحمه الله تعالى: وما يستعان به لا يترك [13]، ومعنى الغَدوةُ: أوَّلُ النَّهارِ، والرَّوحةُ: آخِرُه، والدُّلجةُ: سَيرُ آخرِ اللَّيل، وسَيرُ آخرِ اللَّيل مَحمودٌ في سَيرِ الدُّنيا بالأبدانِ، وفي سَيرِ القُلوبِ إلى اللهِ بالأعمالِ؛ وصَدَرَ هذا الكلامُ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كأنَّه يُخاطِبُ مُسافرًا يَقطَعُ طَريقَه إلى مَقصدِه، فنَبَّهَه على أوقاتِ نَشاطِه التي يَزْكو فيها عَمَلُه، فشَبَّهَ الإنسانَ في الدُّنيا بالمسافرِ، وكذلك هو على الحَقيقةِ؛ لأنَّ الدُّنيا دارُ انتقالٍ وطَريقٌ إلى الآخرةِ [14].
• وعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: جَاءَ جِبْرِيلُ عَليهِ السَّلامُ إِلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: يا مُحمَّدُ، عِشْ ما شِئتَ فإنَّك مَيِّتٌ، وأحْبِبْ من شِئتَ فإنَّكَ مُفارِقُه، واعمَل ما شِئتَ فإنَّك مَجْزِيٌّ بهِ، واعلَم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُه باللَّيلِ، وعِزُّه استِغناؤُه عن النَّاسِ [أخرجه الحاكم في المستدرك (7991)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (73)]، فقيام الليل شرف، وأي شرف؛ وسمو، وأي سمو؛ ورِفْعَة، وأي رفعة؛ فاللهم زدنا إيماناً، وشرفنا بقيام الليل بين يديك يا حي يا قيوم.
• وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ [أخرجه أبو داود (1398) وصححه الألباني في صحيح أبي داود]، ومعنى المقنطرين: الذين يحصلون الأجور العظيمة الكبيرة الكثيرة [15]؛ نسأل الله تعالى من فضله، وأن يجعلنا من المقنطرين الخاشعين.
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، وَرَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الِانْهِزَامِ، وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، رَجَعَ رَجَاءً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ [أخرجه ابن حبان (2558)، وصححه شعيب الأرناؤوط]، وتَعَجُّبُه سُبحانَه هنا يَدُلُّ على الرِّضا عنِ العَمَلِ مع إعطاءِ الثَّوابِ عليه [16]، وإذا رضي الله تعالى عن عبد، وباهى به ملائكته أقبلت إليه وفود الخيرات، وصُرِفِتْ عنه الشرور والآفات، وأرضاه ربنا وأعطاه بلا عد ولا حساب، ومنحه من خزائنه التي لا تفنى ولا تنقص، ? وَ?للَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ ? [سورة البقرة 261].
وختامًا:فهذه أبيات لابن القيم رحمه الله تعالى، ذكرها في فصل في إقامة المأتم على المتخلفين عن رفقة السابقين من نونينته [17]:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولو التقوى مع الإيمان يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سلفة الحيوان يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكان يا سلعة الرحمن كيف تصبر ال خطاب عنك وهم ذوو إيمان يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلى بمشيئة الرحمن فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم المعاد الثاني
يا رب اجعلنا من أهل القيام والجهاد والقرآن [18]، وارزقنا لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ؛ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ [19]؛ اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وانصر عبادك المجاهدين؛ اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ، وَذِكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ [20].
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.