أ - طريق الحج اليمني الأعلى:

 

يُعَدُّ الشاعر اليمني أحمد بن عيسى الرداعي المتوفى - تقريبًا - أواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي مِن أقدم مَنْ وصف طريق الحج اليمني الأعلى الواصل بين مدينتَي صنعاء ومكة المكرمة، وذلك عن طريق نظمه أبياتًا شعرية تكوِّن في مجملها أرجوزته المعروفة باسم (أرجوزة الحج) أو ما يُعرف بـ (الرداعية)، وذلك خلال رحلته لتأدية فريضة الحج من مدينته رداع في اليمن إلى مكة المكرمة مرورًا بصنعاء وصعدة  .  وتدليلاً على المكانة العلمية الكبيرة لهذه الأرجوزة عند الجغرافي الهمداني فقد أحال إليها القارئ في عدد من كتبه  ،  ووصف الرداعي محتوياتها بقولـه: " هذه الأرجوزة فريدة في فنها (...)، ولا نعلم أحدًا وصف من جزيرة العرب مسافة أربعة وعشرين يومًا بشعر ونثر بصفة الإبل والفلوات سوى أحمد بن عيسى الرداعي، رحمه الله "  

 

أما الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني المتوفى ما بين 350 و 360هـ/961 و 970م فيأتي في المرتبة الثانية في قيمة كتاباته العلمية المتصلة بهذا الطريق  

 

وتتصف المعلومات العلمية الواردة عند الإمام أبي إسحاق الحربي المتوفى عام 285هـ/898م بأنها معلومات مكمِّلة ومؤكِّدة لما ورد عند الرداعي في أرجوزته، بالإضافة إلى ما ذكر من معلومات فقد أورد إضافات قيمة، وبخاصة في تسميته للمناهل صغيرة الحجم الواقعة في المسافات الفاصلة بين محطات الطريق الرئيسة  

 

وأما ما يتعلق ببقية كتابات الجغرافيين المسلمين الأوائل، مثل: ابن خرداذبة المتوفى بعد عام 272هـ/885م، وقدامة بن جعفر المتوفى بعد عام 310هـ/908م، وابن حوقل المتوفى أواخر القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي؛ فهي تتسم بالإيجاز الوصفي لمراحل الطريق، ومحطاته، ومناهله  

 

لم يسبق في أي وقتٍ من الأوقات إخضاع هذا الطريق بأكمله للاستكشافات من قِبَل الرحالة العرب المسلمين الأوائل أو من قبل الغربيين؛ ويُستثنى من هذا التعميم نتائج رحلات عبدالله فيلبي التي قام بها عام 1351هـ/1932م، وبين عامي 1355 و 1356هـ/1936 و 1937م في مناطق الجنوب الغربي من المملكة العربية السعودية، وهذه الرحلات أمدت بمعلومات مختصرة ومتناثرة في كتاباته حول أجزاء محددة للقسم الواقع في الأراضي السعودية من مسار طريق الحج  

 

أما المهندس تويتشل فقد ألمح عام 1359هـ/1940م إلى قسم محدد من الطريق خلال قيامه بوضع مخطط لطريق أسفلتي كان يُزمَع إنشاؤه - آنذاك - بين مدينتَي أبها ونجران  

تنبثق الأهمية التاريخية لهذا الطريق من كونه من الدروب التجارية القديمة التي استُخدمت قبل ظهور الإسلام، وخصوصًا في فعاليات تجارة العرب القديمة، وكان يربط حواضر الجزيرة العربية الجنوبية بالأطراف الشمالية للجزيرة؛ ومن المحتمل أن هذا الطريق ليس إلا الدرب ذاته الذي كان يُعرف في الكتابات القديمة بـ (درب البخور) وذلك بناءً على آثاره المادية عامة.

 

وعندما أضحى الميزان التجاري في يد المجتمع المكي شهد هذا الطريق أنشطة تجارة قريش المشهورة تاريخيًا والمتمثلة في رحلتَي الشتاء والصيف. وبظهور الإسلام بدأت هذه التجارة بالاضمحلال، وطرأ تغير كبير في ماهية الدروب البرية قاطبةً ووظائفها العملية، إذ حلت قوافل الحج القادمة من جنوب الجزيرة العربية محل القوافل التجارية، وبذلك أصبح مسار طريق التجارة القديم من أبرز الطرق الموصلة إلى الأمكنة المقدسة.

 

وخلال العقود الأولى من توطيد دعائم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة؛ تشير الكتابات التاريخية إلى استخدام مسار هذا الطريق من قِبَل بعض الجيوش والسرايا الإسلامية المتجهة من منطقة الحجاز إلى المناطق الواقعة إلى الجنوب والجنوب الشرقي من مكة المكرمة، أو من قِبَل الجيوش والسرايا المتجهة نحو الأطراف الشمالية من بلاد اليمن  

 

وتشير المسوحات والدراسات الأثرية الأخيرة   إلى وقوع قسم كبير من مسار هذا الطريق ضمن أراضي الحدود الإدارية لمنطقة عسير؛ ويمتد هذا المسار لمسافة تصل إلى نحو 360كم، ويقع عليه نحو 75 موقعًا، ويشتمل الطريق على بقايا مادية أثرية قديمة وإسلامية، ومنها:

 

1 - مسار الطريق ذاته في الأراضي السهلة، مثل: صحراء ظهر في بلاد خثعم، والأراضي الجبلية الوعرة، مثل: عقبة محذا النعال، وأقاوية، والمنضج (المصلولة) في بلاد وادعة، وعقبات الشفشف في بلاد عبيدة قحطان إلى الجنوب الشرقي من خميس مشيط.

 

2 - رصف الطريق وتمهيده وتسويته وتعتيبه عند تخلخل مساره في المناطق الوعرة.

 

3 - مصادر المياه ومنشآتها.

 

4 - المساجد والمصليات (المساجد الصغيرة).

 

5 - المحطات الرئيسة والثانوية.

 

6 - مناهل الطريق ومنازله.

 

7 - النقوش والكتابات الصخرية العربية الإسلامية المبكرة.

 

8 - أعلام الطريق، مثل: الأميال الحجرية (أحجار المسافة)، وأبراج المراقبة، والرجوم.

 

9 - النقوش العربية القديمة، والرسومات الصخرية الآدمية والحيوانية.

 

ب - طريق الحج السروي (طريق السراة): 

 

يُعد طريق الحج اليمني السروي من الدروب الفرعية لمسار طريق الحج اليمني الأعلى، وذلك عند وصول الطريق الأخير إلى مدينة صعدة في اليمن. يصل هذا الدرب الفرعي مدينة صعدة بمكة المكرمة عن طريق مرور مساره بأعالي سلسلة جبال السراة، من ثَمَّ يصل إلى الطائف فمكة المكرمة.

 

ومن أبرز الجغرافيين والرحالة المسلمين المبكرين الذين أشاروا إلى هذا الدرب - ويبدو أنه الوحيد من بينهم - ابن المجاور في نهاية القرن السابع الهجري/الثالث عشر للميلاد  ،  في حين يُعد الرحالة السويسري بوركهارت الرحالة الغربي الوحيد الذي قام عام 1229هـ/1814م بوصف الطريق وتحديد محطاته ومنازله، معتمدًا على معلومات شخصية تَمكَّنَ من الحصول عليها من حجاج بلاد اليمن عند مقابلتهم في مكة المكرمة  .  أما السير كنهان كورنويلس فقد حدد تقريبًا في بداية القرن العشرين الميلادي أغلب مسارات الطرق ومحطاتها العاملة في زمنه جنوب المملكة وغربها  

وعلى الرغم من اختراق مسار الطريق أراضي جبلية وعرة التضاريس، إلا أن هذه الأراضي - وفقًا لابن المجاور - تشتهر بالخصوبة ووفرة المياه والكلأ والأطعمة المتوافرة في المخازن (المدافن) المليئة بالحبوب للاستهلاك الآدمي والحيواني؛ فمن مدينة صعدة باليمن يتجه الطريق شمالاً حتى يصل إلى جبال منطقة عسير، ومن ضمن محطات هذا الطريق الواقعة الآن في الحدود الإدارية لمنطقة عسير: راحة بني شريف، قرية البصرة، وذهبان، والعرين، فبلاد قحطان، وبلاد بلقرن  

 

ج - طريق الحج الحضرمي (محجة حضرموت السفلى): 

 

يصل هذا الطريق منطقة حضرموت في بلاد اليمن بمكة المكرمة عن طريق مروره بمدينة نجران فبلدة تبالة، حيث يلتقي مساره مع مسار طريق الحج اليمني الأعلى.

 

يقع جزء كبير من مسار هذا الطريق - وبخاصة ذلك القسم الذي يصل مدينة نجران بمدينة تبالة - ضمن أراضي منطقة عسير الحالية؛ ويقع على مساره عدد من المحطات أبرزها: تثليث، وجاش، ووادي الدواسر (عقيق عُقيل)، ووادي ترج  

 

كما كان يوجد عدد من دروب الحج التي تصل حواضر جنوب الجزيرة العربية بالأمكنة المقدسة مرورًا بأجزاء معينة من أراضي منطقة عسير، منها: طريق الحج القديم بين مدينتَي صنعاء ومكة المكرمة عبر حلي العليا، وطريق الحج التهامي (السلطاني)