عزاء المحسنات حسنات

الكاتب: المدير -
عزاء المحسنات حسنات
"عزاء المحسنات حسنات




في يومٍ من أيام الشِّتاء المشمِسة جلسَت الخياطةُ أمل - أرملة في بداية العَقد السادس من عمرها، توفِّي زوجُها قبل عقدين من الزمن تاركًا لها ولدين هما ثمرةُ زواجٍ استمرَّ عقدًا من الزمن - جلسَت في فناء منزلها الصَّغير في ظِلال أشجار الزيتون طلبًا للدِّفءِ، وكانت حفيدتُها تلعبُ أمام ناظريها، أعدَّت زوجةُ خالد الشاي وأحضرَته.

 

قدِم يوسف من عملِه، قبَّل يدَ والدته ورأسَها واستفسرَ عن حالِها اليوم؛ فطمأنَته أنَّها بخيرٍ، كان خفيفَ الظلِّ مثل والدِه فأخذ يمازحها، ثم فاجأها بهديَّته؛ وهي عبارةٌ عن تذكرة سفرٍ لأداء العمرة برفقتِه، فتلقَّتْها بفرحٍ، ودعَت له بالتوفيق، وارتسمَت على وجهها ابتسامةٌ شاحبة لم تستطع أن تُخفي بها آلامَها وأمراضَها التي غَزَت جسمَها قبل عقدٍ من الزمن.

 

ثمَّ بدَت وكأنَّها تحدِّث نفسَها، فسألها ولدُها إن كان هناك ما يضايقها، فطمأنَته بأنَّها عادَت بها الذاكرةُ إلى أول رحلةٍ لها مع والدِه في بدايةِ زواجهما؛ فقد فاجأَها والدُه بالحجز دون علمِها، وفي تلك الرحلة سألَت اللهَ عزَّ وجلَّ أن يرزقها الشهادةَ وفي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

في الطائرة كانت تُحدِّث ولدَها عن أبيه وعن أخلاقِه وكرمِه، كانت الكلماتُ تخرج كأنَّها من بين أنقاض صدرٍ متحطِّم، حدَّثته عن عمِّ زوجها الذي طمأَنها بأنَّه سيتكفَّل برعايتنا جميعًا كما اعتنى بأبيكم وعمَّاتكم مِن قبل بسبب مرض جدِّك رحمه الله تعالى.

 

شكرتُه على كرمه وقلتُ له: إنني صاحبةُ حرفةٍ، وأنا متعوِّدة على العمل ولي معارفي، فما كان منه إلا أن تكفَّل بدفع أجرةِ البيت حتى تَكبرا (أنت وأخوك)، وحافظ على إرثكم وإرثي من أبيكم في المصنعِ واستثمرَه لنا، وساعدنا ذلك في شراء منزلنا، وهأنتم قد كبرتُم؛ خالد الآن مدير مصنع البلاستيك الذي لكم فيه نصيبٌ وقد تزوَّج من ابنة عمَّته، وأنت مدرِّس، والحمد لله، ووَفَّيتُ أنا بوعدي الذي قطعتُه لوالدكم وهو يلفظُ أنفاسَه الأخيرة؛ بأن أُحافظ عليكم وأربِّيكم كما كان يتمنى.

 

ابتسم الولد قائلاً: أطال الله عزَّ وجل في عمرك يا والدتِي، وقال لها ممازحًا: كأنَّ الحديث عن والدي أُغْنيتك المفضلة! وكأنَّك توصيني بما ربيتنا عليه، فنِعم الأمُّ أنتِ؛ أحسنتِ تربيتنا، وعلمتِنا البِرَّ بالأقارب، وعلمتنا الاعتمادَ على النفس.

 

اختلطَت الأحاسيسُ مع وصول الحملةِ إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبعدَت كلَّ الوساوسِ عن نفسها معلِّلة بأنَّ ما تشعر به مجرَّد إرهاقٍ بسبب السَّفَر، فهي في شوقٍ شديد إلى الصلاة في الروضة؛ لما تعرفُه من فضل الصَّلاة فيها؛ فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بَيتي ومنبَرِي رَوْضَةٌ من رِياضِ الجنَّةِ))؛ رواه البخاري ومسلم، كما أنَّها في شوقٍ إلى التسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

تَحقَّق لها ما اشتاقَت إليه منذ سنواتٍ وزيادة، وبعد العشاء لم تَعد تحتمل ثقلَ جسدها وضيق صدرها، فنقلها ولدُها إلى المشفى، وما لبثَت أن فارقَت الحياةَ، وكان آخر عهدٍ لها بالحياة الصَّلاة بالمسجد النبويِّ، ودُفنَت بالبقيع، رَوى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن استطاع أن يموت بالمدينةِ فليفعل؛ فإني أشــفعُ لمن مات بهـا))، العزاءُ الذي أُقيم لها كان له من شخصها نصيبٌ؛ فقد كان هادئًا كهدوئها، وكان حافلاً بالحِكم والمواعظ كالدرس الديني الذي كانت تعقده كلَّ يوم خميسٍ في بيتها، وتستضيف فيه إحدى الواعظات وهنَّ المتحدثات الآن.

 

جرَت العادةُ أن يتحدث المعزُّون عن الميت وأعماله، فيُظهر اللهُ عزَّ وجل ما كان مخبوءًا من أعماله الصَّالحة، فأعمالُ أمِّ خالد الطيبة التي أظهرها الله عزَّ وجل كانَت كالمفاجآت السَّارَّة لأهلها، ودروسًا لمن قَدم لتقديم واجب العَزاء.

 

تَروي إحدى السيدات قصَّتها قائلة: عندما سكنتُ في هذا الحيِّ قبلَ عشرة أعوامٍ زارتني أمُّ خالد، وفهمَت مِن وضع البيت حالَنا، فاقترحَت عليَّ تعليم ابنتي الكبرى الخِياطة في الإجازة الصيفية، كانت ابنتي في السادسة عشرة من عمرها، سرعان ما تعلَّمت ابنتي، ولما اطمأنَّت لإتقانها المِهنة أهدَتها ماكينة، وقد أسهم ذلك في تحسين وضع أسرتي، ابنتي تزوَّجَت وسافرَت، وأحد أبنائي تخرَّج في الجامعة، أمَّا أنا فقد تعلَّمتُ أساسيات المهنة مِن ابنتي؛ وأقومُ الآن بخياطة الشراشفِ وأغطية المخدَّات ومستلزمات المطبخ، وبيعِها للأقارب والمعارف وزبائن أمِّ خالد.

 

جارةٌ أُخرى تذكر أن ولدَها الوحيد بين خمس بنات أهدَته مبلغًا من المال تهنئةً له على نَجاحه في الثانوية العامَّة، وعندما علمَت من ولدِها يوسف أنَّه بحاجة إلى بعض المال لشراء عدَّة للعمل لمساعدةِ والده في تأمين نفقات البيت، أعطَتني ما يكفي لشراء عدَّة العمل.

 

شقيقتان غير متزوجتين ويسكنان مع شقيقهنَّ يصنعن الزعترَ واللبن والجبن للراغبين في الشِّراء من أهل الحيِّ، ويتعاملن مع إِحدى المحلات التجارية لبيع إنتاجهنَّ، علمًا أنَّهنَّ لَسنَ فقيرات، كان ذلك بتشجيعٍ من أمِّ خالد التي كانت ضدَّ تضييع الوقتِ بلا فائدة، وكانت تعشق العملَ وتقدِّر قيمتَه في الحياة ومردودَه على الفرد.

 

في اليوم الأخير قدِمَت فتاةٌ شابة إلى بيت العزاء، أثناء الحديث تبيَّن أنَّها يتيمة كفلَتها الخياطةُ أمل، واستمرَّت تنفق عليها حتى أكملَت دراسَتها الثانوية هذا العام، وقبل شهرٍ تزوَّجَت مِن طبيب أسنانٍ وهو ابنُ صديق زوجِها، وهي مَن رشَّحَتنِي له، ثم أردفَت قائلةً: ثوبُ فَرَحي كان مِن تصميمها وخياطتها، وشهدَت حفلَ زفافي وكانت تقول: الحمد لله رب العالمين، الآن اكتمل مشروعي.

 

شقيقات زوجها أَثْنين على صبرها، وقلنَ: لمَّا علمَت بوفاة زوجها استرجعَت واحتسبَته عند الله عزَّ وجل؛ فهي تعلم أنَّ الصبر عند الصَّدمة الأولى، وتحفظ الحديثَ الذي ترويه أمُّ سلمةَ رضي الله عنها: أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله فقال: لقد سمعتُ من رسول الله قولاً سُرِرْتُ به، قال: ((لا يصيبُ أحدًا من المسلمين مصيبةٌ فيسترجعَ عند مصيبته، ثم يقول: اللهم أجُرنِي في مصيبتي، واخْلُف لي خيرًا منها، إلاَّ فعل ذلك بِه)).

 

قالت أمُّ سلمة: فحفظتُ ذلك منه...

وقلنَ بأنَّها كانت تحبُّ المطالعةَ، ولديها مكتبةٌ صغيرةٌ، كلَّما اشترَت كتابًا أعارَته لشخصٍ ما فأفادت الكثيرين، حتى القصص التي قرأَها أولادُها في صغرهم أهدَتها لأولادِ الجيران، فكانت مكتبتُها كالمكتبةِ الدوَّارة، حتى ثمار أشجارِ الزيتون الموجودة في بيتِها كانَت تُهدي منها إلى أرحامِها وأقاربِها وبعضِ الجيران، ثم أردفن قائلات بأنَّ والدتهن كانت تُحبُّها مثلنا تمامًا، وماتَت وهي مسرورة جدًّا منها.

 

أمَّا زوجة أخيها فتقول: تعلمتُ منها النظامَ؛ فقد كانت منظَّمة في عملها قَبل زواجها وبعده، خصَّصت أيامًا للقصِّ، وأُخرى للخياطة، وأيَّامًا لاستقبالِ الزبائن مِن أجل القياس، وكانت حريصةً على دعوةِ الجارات لدرسٍ ديني في بيتها عصرَ كلِّ خميس.

 

وكعادةِ أغلب الأُسَر يكون يوم الجمعة لاجتماعِ العائلة وزيارةِ الأقارب والأرحام، خاصَّة والدتها التي ماتَت قبل سنتين وهي راضية عنها، أتقنَت عملَها وأبدعَت في تصامِيمها، وأسعارها كانت في متناول الجميعِ، رحمها الله وأسكنها فسيحَ جناته.


"
شارك المقالة:
29 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook