عزف الوحدة الصباحي

الكاتب: المدير -
عزف الوحدة الصباحي
"عَزْفُ الوحدةِ الصَّباحي




في صباحٍ تُعانق فيه الغيوم رسالةَ الشمس الصباحية على البشرية، وأنت في غرفة وحيدًا تسترجع ذكريات ماضيك وتستعرض على شاشة دماغك أصواتَ أحبةٍ تفصل بينك وبينهم مسافات وقفار، وتستحضر أذًى مر كأنه لم يكن، وشخوصًا في متتالية الأيام التي مرت تَترى، ويرافق استرجاعك لهذه الأحداث تعجبٌ من قدرة دماغك على تجميع هذا الكم الهائل من الذكريات والأحداث المتداخلة، وتجد أصواتًا غريبة لا تدري أهي آثار لكيمياء الدماغ، أم هي نتيجةُ اختلاطات الأمزجة الأربعة المتعارف عليها في كتب الفلسفة التراثية.

 

فكلُّ إنسانٍ في صباحه له حديثٌ مع ذاته، لكنَّ حديث الوحدة له عزفُه المنفرد؛ لأنّ حديثَ النَّفس بمعيَّة الوحدة يكون أصفى، وتأملات تفاصيل الكون تكون أدق. فمع غيومِ الصباح وقطراتِ النّدى وشعاع شمسٍ يبرق في الكون معلنًا بداية يوم جديد، يفتح الإنسانُ صفحةَ حياته ليدوِّن فيها ما جرى وما يجري وما يتوقعه، يعيش الماضي بآلامه وأفراحه، ويتأمل اللَّحظةَ الرّاهنة وهدوءَ نفسه العجيب المتماهي مع إبداع خلق الخالق، ويستلهم مستقبلاً يبدأ بنسج خيوطِ ملامحه فيرى أنّه أعجز من أن يرى صورة ذلك الغيب بوضوح.

 

وبعد هذه الاختلاطات العجيبة يعود إلى اللّحظة الراهنة مُوقِنًا أنه سيُغبن غبَن العاجز إن لم يمِّتع نفسه بها، وفوَّت على نفسه صورةَ تلاقح أجزاء الكون المكوِّنة للوحةٍ مدهشة يمثِّلها تعانقُ نتفٍ من غيوم مع شعاعٍ أبيض من شمس الضحى مع خَضارٍ لامعٍ من أشجار وأزهارٍ، فهي لوحةٌ بهيجةٌ مبتسمة تحثُّ النفس على استنشاق عرفَها الشذي إنّها اللّوحة الرّبانية المتحرِّكة والنابضة بالحياة، فكيف يغفل عازف الوحدة عن تتبع تفاصيل ذرّات جمالها بعد أن أدرك أن ماضيه استطاع استعراضه بدقائق زمنية لا تستحق حجز النفس فيها، ومستقبله ما استطاع إدراك ملامحه الدقيقة، فلِمَ لا يمتِّع نفسه بلحظته الراهنة؟ يعيش جمالها ويتماهى معه ويعزف مع وحدتِهِ ألحانًا تُعطي النَّفسَ هدوءَ اللوحة التي تُدركها عيناه، والتي تحكيها أشعةُ الشمس البيضاءُ، ونتف الغيوم المتداخلة والمتحركة باطمئنان، وقطراتُ ندىً تتراقصُ على ورقات خضراء تدعوه إلى تأمل تجدد الحياة وحيويتها.

 

فاعزف في هذه الوحدة الصباحية ألحانًا تتفق مع هذا الجمال، وكن جزءًا منه، ولا تدع لماضٍ مرّ مجالاً ليسدل غشاوة على بصرك وبصيرتك، ولا لمستقبلٍ لا تدري إن كنت ستصله أن يصرفك عن تأمل لحظتك التي أنت فيها، فعش جمال الخَلق، واشكرِ الخالق وانتظر روعة جمال لقائه؛ لأنَّ من خلق هذا الجمال الصباحي، يرسل إليك رسالة مفادها: ? وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [البقرة: 25].


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook