تحتل الجزيرة العربية موقعًا مهمًا وسط الحضارات المتقدمة في العالم القديم؛ ففي شمالها وشمالها الغربي والشرقي نجد حضارات بلاد الشام ومصر وبلاد الرافدين، وما يتصل بها من حضارات إيران واليونان والرومان، وفي جنوبها الغربي تمتد إفريقية وفي جنوبها الشرقي الهند ومن ورائها الصين  .  هذا الموقع الإستراتيجي للجزيرة العربية جعلها حلقة الوصل التجاري بين الحضارات المختلفة، إضافة إلى أنها تحتل موقعًا تجاريًا مهمًا على طرق التجارة الدولية  .  وقد يسر ذلك لسكانها القيام بدور الوسيط في نقل تجارة الهند من التوابل وأصناف المواد العطرية المختلفة والأقمشة والسيوف والأخشاب والمعادن وما يرد إلى أسواقها من تجارة الصين. كما كانوا وسطاء في نقل تجارة شرق إفريقية من الذهب والعاج وريش النعام وجلود النمور وغيرها  .  ولم يقتصر دور الجزيرة العربية على المتاجرة بسلع المناطق الأخرى، بل تعاظم دورها التجاري من خلال سيطرتها على تجارة المواد العطرية  .  هذا بالإضافة إلى أن الأجزاء الجنوبية من الجزيرة العربية كانت مركزًا لإنتاج معظم هذه المواد التي كانت ذات أهمية في العصور القديمة  

 

وقد شهدت الجزيرة العربية منذ النصف الآخر من الألف الثاني قبل الميلاد نشاطًا حضاريًا متزايدًا  .  وأسهمت عوامل كثيرة في الرخاء الاقتصادي والتطور الحضاري لسكان الجزيرة العربية في عصورها القديمة  ،  تأتي في مقدمتها التجارة والزراعة حيث ساعدت هذه الموارد المالية على بناء حضارات متقدمة في جنوب الجزيرة العربية، مثل: معين، وسبأ، وحضرموت، وقتبان، وأوسان. وفي وسط الجزيرة العربية قامت مملكة كندة في قرية الفاو، وفي شرق الجزيرة ظهرت حضارة دلمون، والجرهاء، وفي شمالها وشمالها الغربي قامت إمارات ودول في كل من ديدان (العلا)، والحجر (مدائن صالح)  ،  وتيماء، والجوف، وأرض مدين. كما ازدهر عدد من المدن الأخرى، مثل: مكة المكرمة، ويثرب، ونجران، وجرش، والطائف، وخيبر، ودومة الجندل  .  وازدهر أيضًا عدد من الموانئ، مثل: القرية البيضاء أو لويكي كوما (أملج) وميناء أجرا (الجار؛ قرب ينبع) على ساحل البحر الأحمر في شمال الجزيرة العربية، وميناء أوكليس، وموزع (مخا) على البحر الأحمر في جنوب الجزيرة، إلى جانب الموانئ الكبيرة، مثل: عدن، وقنا (بئر علي) على خليج عدن والبحر العربي. وفي المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية نجد الجرهاء، ومسقط، وقلهات، عمانا (صحار)، وكذلك جزيرة تاروت، وجزيرة البحرين، وميناء خاراكس   (وهو ميناء بناه الإسكندر المقدوني شمال شرق الخليج قرب شط العرب). كما أن الأوضاع السياسية والأمنية في المنطقة قد أدت دورًا بارزًا فيما بلغه العرب من تقدم حضاري في كل المجالات، ففي الوقت الذي شهدت فيه الممالك العربية نوعًا من الاستقرار السياسي والأمن النسبي، ازدهرت الزراعة وراجت التجارة ونشطت حركة الصناعة والفنون، وصاحبت ذلك كله حركة دينية وثقافية واسعة، وقد انعكس ذلك كله على المجتمعات العربية فأدى إلى زيادة الصلة والترابط بين دول الجزيرة العربية وبينها وبين الأمم والشعوب الأخرى المجاورة لها، وأصبح للعرب نوع من العلاقات خارج نطاق جزيرتهم، وهي علاقات أسهمت في انتشار العرب في أمكنة مختلفة من البلاد الواقعة خارج الجزيرة العربية، مثل: العراق، وبلاد الشام، ومصر، وجزر البحر المتوسط وغيرها، كما نـزح إلى الجزيرة العربية عدد من الجاليات من مختلف الأجناس. وعلى العكس من ذلك فحين تضطرب الأحوال السياسية وينعدم الأمن يلقي كل ذلك بظلاله على الأنشطة والمجالات كلها  

 

وتحتل منطقة عسير موقعًا إستراتيجيًا مهمًا بالنسبة إلى شبه الجزيرة العربية، إذ إنها تمثل حلقة وصل مهمة تربط جنوب الجزيرة بوسطها وشمالها؛ مما جعلها تؤدي دورًا بارزًا في النشاط الحضاري الذي شهدته الجزيرة العربية عبر عصورها التاريخية القديمة، حيث كانت ممرًا لأهم الطرق التجارية البرية التي كانت تصل جنوب الجزيرة بشمالها الشرقي والغربي، ومن المرجح أيضًا أنها كانت معبرًا لكثير من الهجرات البشرية التي خرجت من جنوب الجزيرة باتجاه الشمال، فضلاً عن كونها مسرحًا لعدد من الأحداث السياسية والأنشطة الحضارية المتعددة  

 

وتشير المدونات التاريخية والمخلفات الأثرية التي عُثر عليها حتى الآن إلى أن سكان منطقة عسير قد أسهموا بقدر وافر في الدور الحضاري الذي شهدته الجزيرة العربية. وهناك ما يشير إلى بعض التنظيمات في المجال السياسي، وإلى نشاط زراعي وتجاري متقدم في مجال الفنون والمعمار، ومعرفة بالكتابة والخط المتطور. كما تشير تلك المدونات إلى تعدد المعبودات والعقائد الدينية، وتدل كذلك على بلوغ سكان المنطقة مستوى معينًا من التنظيم الاجتماعي.