عصور ما قبل الإسلام في منطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
عصور ما قبل الإسلام في منطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية

عصور ما قبل الإسلام في منطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية.

 
يلحظ من يتصدى لكتابة تاريخ الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام عمومًا وتاريخ منطقة الحدود الشمالية خصوصًا ندرة المصادر التي تتحدث عن هذه الفترة، وإن وجدت فهي شذرات متفرقة تُجمع من هنا وهناك. ومما يزيد صعوبة المهمة: أننا ننظر إلى حدود المنطقة حسب التقسيمات الإدارية الحديثة التي ربما تبعدنا عن فهم تاريخ المنطقة وصلاتها بما جاورها من مراكز حضارية كبرى قامت وازدهرت في العصور القديمة، خصوصًا أن المنطقة سهلية في تضاريسها وتخلو من المرتفعات والموانع الطبيعية التي تعوق حركة الناس والقوافل. لقد عاش الإنسان في تلك الحقب القديمة متنقلاً بين صحارى المنطقة الواسعة، لا تحده الحدود ولا توقفه الموانع، فإلى الشرق والشمال بلاد الرافدين وإلى الشمال والغرب بلاد الشام؛ حيث نشأ وتعاقب عدد من الحضارات الكبرى التي كان لها أثر بارز في تقدم البشرية، وإلى الجنوب منطقة الجوف وحاضرتها المهمة دومة الجندل التي كانت مركزًا حضاريًا مهمًا عُرف باسم (أدوماتو).
 
بدايات الاستيطان في المنطقة
 
إن تاريخ الاستيطان في المنطقة الشمالية يعود إلى أقدم فترات الاستيطان البشري في الجزيرة العربية، حيث تصنف بعض الدراسات الحديثة المنطقة على أنها من أقدم المناطق التي عرفت الاستيطان في آسيا. وترجح الدلائل أن الإنسان القديم قد ظهر في عصور مغرقة في القِدَم في قارةِ إفريقية، ثم انتقل منها إلى آسيا في وقت كان فيه السفر عبر البحر أمرًا صعبًا، ولعل الإنسان القديم قد سلك طريقه بمحاذاة نهر النيل وعَبَر الهضبة الإثيوبية باتجاه الشمال إلى مصر، ثم اتجه شرقًا عبر سيناء إلى غرب آسيا وبالتحديد الجزء الشمالي من جزيرة العرب  ،  وتدل الآثار التي خلَّفَها إنسان المنطقة   على أنه قد أقام بعض الوقت فيها، حيث كشفت فرق المسح الأثري في عام 1397هـ / 1977م بالقرب من قرية الشويحطية   وعلى مقربة من الوادي: أحد أقدم مواقع العصور الحجرية في المملكة، وقد جمع من الموقع عدد من الأدوات الحجرية التي صنفت على أنها تنتمي إلى العصر ما قبل الآشولي (Acheulean) وهي تسمية لفترة من فترات العصر الحجري القديم، نسبة إلى موقع سانت آشول (Saint Acheul) في فرنسا، وتحدد زمنيًا بالفترة التي بين 1.5 مليون سنة و 200.000 سنة مضت.
 
ولأهمية الموقع أعيدت دراسته دراسة مكثفة في عام 1405هـ / 1985م، وفي ضوء جمع المزيد من الأدوات الحجرية ومقارنتها بالأدوات المشابهة والمكتشفة في مواقع مختلفة من العالم القديم، ومنها: موقع أولدفاي جورج في إفريقية (Olduvai Gorge)، وموقع العبيدية في وادي الأردن، وعن طريق القياس الإشعاعي والانشطار الذري حُدّد عُمر تلك الأدوات بأكثر من مليون سنة، وقد خلصت الدراسة إلى أن موقع الشويحطية يعد من أقدم المواقع المكتشفة في المملكة العربية السعودية، ويقدم دليلاً قويًا على وجود الإنسان في منطقة غربي آسيا في فترة مبكرة جدًا، كما أن حجم الأدوات التي تركها يدل على أن استيطانه في المنطقة لم يكن لمجرد المكوث لفترة قصيرة، بل إنه أقام ردحًا من الزمن، كما أن الشواهد الأثرية تشير إلى أن الاستيطان قد استمر من قبل جماعات أخرى لفترات لاحقة وإن كان أقل كثافة 
 
إن دلائل الاستيطان في الجزيرة العربية على نطاق مكثف لم تظهر إلا في نحو 200.000 سنة مضت تقريبًا، وما أثبتته الدراسات الأثرية الميدانية بأن مستوطنات العصر الحجري في المملكة لم تظهر بشكل مكثف في الواحات والمناطق المطيرة، بل على العكس فقد انتشرت هذه المستوطنات على أطراف الصحارى الكبرى. أما في المنطقة الشمالية فتمتد هذه المستوطنات على حدود صحراء النفود الكبير بامتداد خط أنابيب النفط (التابلاين)   الذي يعبر منطقة الحدود الشمالية بحدودها الإدارية الحالية. وإذا تتبعنا دلائل الاستيطان في العصور الحجرية؛ فإننا نلحظ وجود فجوة في التسلسل الزمني لتاريخ المنطقة تمتد حتى بواكير ظهور العصر الحجري الحديث السابق لظهور الفخار، وحينها تبدأ الدلائل الأثرية في الظهور من جديد، حيث وجدت في المنطقة صناعات قديمة تعود إلى الألف السابع قبل الميلاد، أي خلال فترة العصر الحجري الحديث، فقد عثر على أدوات حجرية في مواقع: دوقرة،  وأم أوعال، ووادي عرعر، ووادي السرحان  .  وبالقرب من طريف عثر كذلك على أداة حجرية مميزة الصنع، وهي فأس ذات حدين من النوع الذي شاع استخدامه خلال فترة العصر الجليدي، بالإضافة إلى أدوات حجرية أخرى تنتمي إلى العصر نفسه وتنتشر على مشارف الوهاد المطلة على سبخة (بردويل)   شمال جبال أم وائل. 
 
ومع حلول فترة العصر الحجري الحديث في نحو الألف الخامس قبل الميلاد يلحظ المرء كثافة كبيرة في الدلائل على النشاط الاستيطاني للإنسان في منطقة الحدود الشمالية، فقد وجدت مواقع عدة تنتمي إلى هذه الفترة الزمنية في عرعر منها دائرة حجرية كبيرة على بُعد 66كم شمال شرق وادي عرعر وتشرف على الوادي من مرتفع جبلي، وقد وجد داخلها عدد من الأدوات الحجرية، بالإضافة إلى موقع آخر في الوادي نفسه وجد به عدد من الركامات، والأساسات والأدوات الحجرية.
 
كما عثر على مواقع تعود إلى فترة العصر الحجري الحديث نفسها في أمكنة أخرى من المنطقة، أحدها يقع على بعد 8.5كم شرق جديدة عرعر تنتشر به أساسات لمبانٍ وركامات وأدوات حجرية. وفي موقع بالقرب من اللويزية في شعيب عرعر وجدت مقابر بالقرب منها دوائر حجرية، وأدوات هي مكاشط ورقائق حجرية، بالإضافة إلى مواقع تنتمي إلى الفترة نفسها من وادي الشاظي، مشابهة للدوائر الحجرية السابق ذكرها، إلا أنها تختلف في مادة بنائها، فهي من الحجارة التي تميل إلى اللون الأسود، وقد وجد بجوار إحداها نقش ثمودي قصير. وفي الوادي نفسه وجدت دائرة حجرية أخرى تنتشر حولها الأدوات الحجرية بشكل كثيف مما يوحي بأن الموقع قد استخدم مكانًا لتصنيع الأدوات الحجرية آنذاك.
 
تستمر منشآت العصر الحجري الحديث التي تشير إلى استيطان الإنسان في مواقع منطقة الحدود الشمالية، مثل: وادي بدنة، وتتمثل في الدوائر الحجرية والأساسات والمقابر والأدوات الحجرية، وقد وجدت أحيانًا نقوش عربية قديمة بالقرب من تلك المنشآت  .  وعلى بعد 9كم جنوب (لينة) عُثر على منشآت حجرية هي أساسات جدران ودوائر وأدوات حجرية تنتمي إلى فترة الألف السابع قبل الميلاد تقريبًا، وتظهر منشآت مشابهة في بدينة، غير أن إحداها تختلف في لون حجارتها الذي يميل إلى الأبيض. وفي وادي الخشيبي عثر على موقعين ينتميان إلى فترة الألف السادس قبل الميلاد، أي فترة العصر الحجري الحديث، أحدهما شمال بركة الخشيبي، وقد وجدت به أساسات ودوائر حجرية، بالإضافة إلى كِسَر من الفخار، ومنشآت تنتمي إلى الفترة الإسلامية، نظرًا لأن بركة الخشيبي إحدى محطات درب زبيدة التاريخي الشهير الذي تقع كثير من أجزائه داخل حدود المنطقة الشمالية، وقد وجدت منشآت مشابهة لها تعود إلى الفترة الإسلامية في موقع آخر وعلى بعد نصف كيلومتر غرب الوادي، بالإضافة إلى الدوائر والمنشآت الحجرية التي تعود إلى العصر الحجري الحديث.
 
وقد وجد في موقع دوقرة عدد من الأدوات الحجرية المختلفة بعضها رؤوس سهام، ومكاشط ومثاقب مصنوعة من حجر الصوان  وتنتمي إلى فترة العصر الحجري الحديث  .  كما عثر في موقع أم الريلان بشعيب عرعر على منشآت حجرية تتكون من دائرتين حجريتين متداخلتين إحداهما أصغر من الأخرى، وجد داخلهما حجارة محلية منصوبة في المنطقة يحتمل أن تعود إلى العصر الحديدي. 
 
وعلى هدي المكتشفات الأثرية في المنطقة يتضح أن منطقة الحدود الشمالية شهدت استيطانًا بشريًا متفاوتًا، يزداد كثافة خلال العصر الحجري الحديث، ولعل الأبرز في تاريخ إنسان شمال المملكة عمومًا هو أنه سجل فيها أحد أقدم موقع استيطاني ليس في المملكة العربية السعودية فحسب بل في العالم القديم أيضًا.
 
لقد عاش الإنسان في العصور الحجرية متأثرًا إلى حد كبير بالظروف المناخية التي سادت في بيئته. ولقد كانت الظروف المناخية في بواكير تلك الحقبة الحجرية المبكرة رطبة مطيرة؛ مما أسهم في توفير مادة غذائية تعتمد على النبات. كما اعتمد الإنسان في تلك الفترة في توفير طعامه على ما يصطاده من حيوانات، ووجدت دلائل على ذلك في موقع الشويحطية في منطقة الجوف المحاذية لمنطقة الحدود الشمالية؛ حيث نشأت تجمعات للصيادين عثر فيها على أدوات حجرية بسيطة  .  ورويدًا رويدًا تمكن الإنسان من تطوير تقنية صناعة أدواته الحجرية بما يتلاءم مع احتياجاته المعيشية؛ حيث تمكن في الفترة الآشولية من صناعة الفأس الحجرية والمعاول والسواطير بالإضافة إلى أدوات أخرى مختلفة  .  كما تمكن من استكشاف بيئته بشكل أكبر واستفاد من ثرواتها.
 
استمر الإنسان في تطوير أدواته الحجرية، كما استطاع تنويع مصادر معيشته، واستقر سواء في الكهوف أو الأكواخ، وفي العصر الحجري الحديث حصل تحوّل كبير باتجاه قيام التجمعات السكنية والقرى التي تحولت فيما بعد إلى تجمعات كبيرة أصبحت نواة للمدن. وقد تمكن الإنسان في هذا العصر من استئناس الحيوان وصناعة الفخار، كما ظهرت الكتابة في نحو الألف الرابع قبل الميلاد  .  ومن الفنون التي سادت في العصور الحجرية وانتشرت في أنحاء متفرقة من المملكة العربية السعودية، فن الرسوم الصخرية. وتعد المملكة إحدى أغنى دول العالم في مجال الرسوم الصخرية، وتصور هذه الرسوم وقائع الحياة اليومية بجوانبها المختلفة: الاقتصادية والاجتماعية والدينية، حيث تتنوع موضوعاتها وعناصرها. لقد وجدت على واجهات الصخور الحجرية، وفي قمم الجبال وسفوحها، مناظر غاية في الدقة والإتقان، قوامها رسوم تحكي عن مناظر صيد تظهر فيها الحيوانات التي كانت سائدة في ذلك العصر، مثل: البقر والنعام والظباء، كما تظهر أدوات الصيد من سهام وحراب  .  وفي لوحات أخرى تظهر مجموعة من الناس في حفلات راقصة يمكن من خلالها التعرف إلى ملابسهم وحليهم وأدواتهم الموسيقية، وقد صور الفنان حركة الرقص بأسلوب فني بديع. إن الرسوم الصخرية المنتشرة بغزارة في مواقع مختلفة من أراضي شمالي المملكة لتشكل مادة خصبة لدراسة فنون الإنسان وأسلوب معيشته في فترة العصور الحجرية متى ما وجدت الدراسة المتعمقة.
 
المنطقة قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام
 
يمثل الموقع الجغرافي لمنطقة الحدود الشمالية   أهمية كبيرة في التاريخ القديم؛ وبخاصة علاقة مناطق شمالي الجزيرة العربية ببلاد الرافدين، والصراع السياسي للقوى العربية مع الآشوريين ثم البابليين الذين وصل نفوذهم إلى شمالي الجزيرة العربية مرورًا بمنطقة الحدود الشمالية المحاذية تمامًا لبلاد الرافدين، كما تبرز أهمية المنطقة في كونها ممرًا تجاريًا يربط بقية أرجاء الجزيرة العربية بمراكز الحضارات القديمة في الشام والعراق، حيث تؤكد الاكتشافات الأثرية - التي سجلت في شمالي المملكة بالقرب من كاف، وإثرة، والرسلانية، والعقيلاء، وتعود إلى الألف الأول قبل الميلاد - معاني كبيرة في دراسة تاريخ المنطقة المعاصر للدولة الآشورية في بلاد الرافدين التي تشير إلى الوجود العربي بوصفه قوة سياسية  .  حيث وردت لفظة (آريبي) عند وصف الحرب التي شنها ملوك آشور على العرب الذين كانوا على حدودهم، كما ورد ذكر العرب في سجلات الملك شلمنصر الآشوري عندما دخلوا في حلف حربي ضده، وذلك في عام 853 ق.م، وكان يتزعمهم ملك عربي اسمه (جندب)، بغرض التخلص من سطوة الآشوريين وظلمهم، ولكن الهزيمة لحقت بهم في معركة قرقر. وغنم شلمنصر ضمن ما غنم ألف جمل لجندب العربي  .  وعندما تذكر البلاد العربية في السجلات الآشورية أو لدى البابليين أو الفرس، فإنه يقصد بذلك الأراضي الممتدة من غرب الفرات وشمالي الجزيرة العربية ومنها منطقة الحدود الشمالية إلى بلاد الشام، كما أن لفظة العرب كانت تطلق آنذاك على أهل البادية ممن يعيشون حياة الحل والترحال  
 
شارك المقالة:
125 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook