لغة:
قال ابن فارس في معجمه:
شق: الشين والقاف أصل واحد صحيح، يدلُّ على انصداع في الشيء، ثم يحمل عليه، ويشتق منه على معنى الاستعارة،تقول: شققت الشيء أشقه شقًّا، إذا صدعته،وبيده شقوق، وبالدابَّة شقاق، والأصل واحد.
اصطلاحًا:
عرَّف الجرجاني الاشتقاق: "بأنه نزع لفظٍ مِن آخرَ، بشرط مناسبتهما معنًى وتركيبًا، ومغايرتهما في الصيغة.
وعرَّفه الشوكاني بقوله: "أن تجد بين اللفظين تناسبًا في المعنى والتركيب، فترد أحدهما إلى الآخر".
وأما في البحر المحيط فهو افتعال من الشق، بمعنى الاقتطاع، من انشقت العصا إذا تفرَّقت أجزاؤها؛فإن معنى المادةَ الواحدة تتوزع على ألفاظٍ كثيرة مقتطعة منها،أو من شققت الثوب والخشبة،فيكون كل جزء منها مناسبًا لصاحبه في المادة والصورة، وهو يقع باعتبار حالين:
أحدهما: أن ترى لفظين اشتركَا في الحروف الأصلية والمعنى، وتريد أن تعلم أيهما أصل أو فرع.
والثانية: أن ترى لفظًا قضَتِ القواعد بأن مثله أصل، وتريد أن تبني منه لفظًا آخر.
والذي يظهر من هذه التعاريف ويجمع بينها أكثر هو شرط المناسبة في المادة والصورة.
ونقل السيوطي عن ابن دحية في التنوير، قوله: "الاشتقاق من أغربِ كلام العرب، وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أوتي جوامعَ الكلم، وهي جمعُ المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛فمِن ذلك قوله فيما صح عنه: ((يقول الله: أنا الرحمن؛ خلقتُ الرَّحِم - مصدر كالرحمة - وشققتُ لها من اسمي))،وغير ذلك من الأحاديث.
وقال في شرح التسهيل: الاشتقاق: أخذُ صيغة من أخرى، مع اتفاقهما معنًى، ومادة أصلية، وهيئة تركيب لها؛ ليدل بالثانية على معنى الأصل، بزيادة مفيدة، لأجلها اختلفا حروفًا أو هيئة؛ كضاربٍ مِن ضرب، وحَذِر مِن حذر".
جاء في كتاب (الصاحبي): أن أهل اللغة أجمعوا - إلا من شذ عنهم - أن للغة العرب قياسًا، وأن العربَ تشتقُّ بعضَ الكلام من بعض.
وأن اسمَ الجِن مشتق من اسم الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان أبدًا على الستر، تقول العرب للدرع: جُنَّة، وأجنه الليل، وهذا جنين؛ أي: هو في بطن أمِّه، أو مقبور، وأن الإنسَ مِن الظهور، يقولون: آنست الشيء: أبصرته.
وعلى هذا سائرُ كلام العرب، علِم ذلك مَن علم، وجهِله من جهل،قلنا: وهذا أيضًا مبنيٌّ على ما تقدم مِن قولنا في التوفيق؛ فإن الذي وقفنا على أن الاجتنانَ التستُّرُ هو الذي وقفنا على أن الجن مشتق منه،وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فسادَ اللغة، وبطلانَ حقائقها،ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نَقِيسه الآن نحن".
وكلام ابن فارس كان في باب القول على لغة العرب هل لها قياس؟ وهل يُشتَقُّ بعضُ الكلام مِن بعض؟
فإذًا قضية الاشتقاق مرتبطة بقضية أصل اللغة، وقضية أصل اللغة هي بدورها ستجرُّنا إلى تساؤلٍ عن مرجعية اللغة؛ هل عن رواية تواترية أم آحادية أم قياس؟
لقد اختُلِف في نشأة اللغة بين اتجاهات متباينة، وهي:
اتجاه التناسب الطبيعي، الذي يربط ظهورَ اللغة بالطبيعة، وهو ما ذكره ابن جني في كتابه الخصائص؛ حيث قال: "وذهَب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو مِن الأصوات المسموعة؛ كدويِّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد".
إلا أن هذا الطرح رُفِض من طرف العلماء لأسباب كثيرة، وأهمها أنه لو كانت هذه العلاقة طبيعية لَمَا وجدنا الاختلاف بين اللغات، ولكانت لغة واحدة تعُمُّ الأرض.
أما الاتجاه الثاني، فيقول: إن اللغة توقيف من الله تعالى؛ إذ "إن الواضعَ هو الله تعالى، ووضعه متلقًّى لنا من جهة التوقيف الإلهي؛ إما بالوحيِ، أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف، ويسمعها الواحد أو الجماعة، ويخلق له أو لهم العلم الضروريَّ بأنها قُصِدَت للدلالة على المعاني".
والاتجاه الثالث هو اعتبار اللغة كلها اصطلاحًا، وهو الذي ذهبت إليه جماعةٌ مِن فقهاء الكلام.
إن هذا الاختلاف في أصل اللغة هو الذي أدى بهم إلى الاختلاف في القول بالاشتقاق؛فالذين قالوا باصطلاحية اللغة قالوا بالقياس وبالاشتقاق،وأما الذين قالوا بالتوقيف، فقد رفَضوا إثبات اللغة بالقياس والاشتقاق.
فعلى العموم، الاشتقاقُ هو توليد الألفاظ بعضها من بعض، ولا يتسنَّى ذلك إلا من الألفاظ التي بينها أصل واحد ترجع وتتولد منه؛ فهو في الألفاظ أشبهُ ما يكون بالرابطة النسبية بين الناس.
وهو أيضًا عملية استخراج لفظ من لفظ، أو صيغة من أخرى، بحيث تظلُّ الفروعُ المولدة متصلة بالأصل.
معنى هذا: أن نأخذ كلمةً من أخرى مع تناسب بينهما في المعنى، وتغيير في اللفظ، يقدم لنا زيادة على المعنى الأصلي، وهذه الزيادة هي سبب الاشتقاق.
ويقول عبدالقادر المغربي: "هو نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنًى وتركيبًا، وتغايرهما في الصيغة،أو يقال: هو تحويل الأصل الواحد إلى صِيَغ مختلفة؛ لتفيدَ ما لم يستفد بذلك الأصل: فمصدر (ضرب) يتحول إلى (ضرب)، فيُفيد حصول الحدَث في الزمن الماضي، وإلى (يضرب) فيُفيد حصوله في المستقبل، وهكذا".