1- أخرج الإمام أحمد بسند صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لم يتبقَّ من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه، وكانت الشمس على رؤوس الجبال، أوشكت الشمسُ أن تَغرُب))؛ (صحَّحه أحمد شاكر رحمه الله).
2- أخرج ابن أبي الدنيا في قصر الأمل عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والشمس على أطراف السَّعَف، فقال: ((ما بقي من الدنيا إلا مِثلُ ما بقي من يومنا هذا إلى ما مضى منه))؛ (قال الحافظ العراقي - رحمه الله -: إسناده حسن).
3- وعند الإمام مسلم: ((لم يبقَ من الدنيا إلا كصُبابَةٍ)).
والصُّبابة: بقية الماء في نهاية الإناء، أو في الكوب، لم يبقَ إلا كصبابة يتصابُّها صاحبها؛ أي يَدلقها صاحبها.
4- ومرَّ -صلى الله عليه وسلم- على قوم يُصلِحون خُصًّا لهم قد وَهَى، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الأمر أعجل من ذلك)).
فاعلم أخي الحبيب، أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظُمت فهي حقيرة، والليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، والعمر مهما طال لا بد من دخول القبر، فكم ممن راح في طلَب الدنيا أو غدَا، أصبح من سكان القبور غدًا.
واعلم أخي الحبيب أن الدنيا دار مَمَر، والآخرة هي دار المَقَر، فخذوا من ممرِّكم لمقرِّكم، ولا تفضَحوا أستارَكم عند مَن يعلم أسراركم.
جاء في كتاب قصر الأمل؛ لابن أبي الدنيا أن النخعي قال: يا أيها الناس، إن الدنيا جُعلت قليلاً، وإنه لم يبقَ إلا قليلٌ من قليلٍ، كان هناك شيخ كبير بلغ من العمر 98 عامًا يتحدَّث عن نفسه فيقول: كأني دخلتُ من هذا الباب، وخرجتُ من الباب الآخر.
واعلم أخي الكريم أنك عندما تُولَد فإنه يُؤذَّن في أذنك اليمنى، وتُقام الصلاة في أذنك اليسرى، وعندما تموت يُصلَّى عليك، فكأن حياتك هي ما بين الأذان والإقامة؛ قال تعالى: ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ? [يونس: 45]، وقال تعالى: ? كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ? [النازعات: 46]، وقال تعالى: ? قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ? [المؤمنون: 112، 113].
فمهما طال عمر الإنسان في هذه الدنيا فهو قصير، ما دام الموت هو نهاية كل حي، وعند الموت تنكمِش الأعوام والعقود التي عاشها الإنسانُ؛ حتى لكأنها لحظات مرَّت كالبَرق الخاطف.
مرَّت سنون بالوِصال وبالهَنا فكأنها من قِصرها أيامُ ثم انثنتْ أيامُ هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوام ثم انقضتْ تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
ما مضى من الدنيا أحلام، كنائمٍ رأى مسيرة حياته في لمح البصر ثم استيقظ، ذهبت الأيام بآلامها وآمالها، بشدتها وقسوتها، لكن بقي الحساب.
• ومما يدل على قِصَر الأمل أيضًا المبادرة بكتابة الوصية، فإنه لا يدري لعل الموت يُفاجئه قبل أن يوصي، وكثير منا لم يكتب وصيته إلى الآن، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على طول الأمل.
أخرج البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيءٌ يُوصي فيه، يَبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)).
• وفي رواية أخرى في الصحيحين: ((ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يُوصي به، إلا ووصيَّته مكتوبة عند رأسه)).
قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: ((ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك، إلا وعندي وصيتي)).
وكان بكر بن عبدالله المزني يقول: إن استطاع أحدكم ألا يَبيتَ إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيتَ في أهل الدنيا، ويُصبِح في أهل الآخرة)).
وأخرج الطبراني من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((صَلِّ صلاة مودع))، وكان بكر بن عبدالله المزني يقول: إذا أردت أن تنفعكَ صلاتُك، فقل: لعلي لا أُصلِّي غيرها؛ (قِصَر الأمل: ص 82).
وأخرج الطبراني عن رجل من بني النخع قال: سمعتُ أبا الدرداء حين حضرته الوفاة قال: أُحدِّثكُم حديثًا سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: ((اعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واعدُد نفسك في الموت، وإيَّاك ودعوة المظلوم؛ فإنها تُسْتَجابُ)).
• وكان الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- دائمًا ما يُذكِّر بالموت حتى لا يُطيل الإنسان منا الأمل فيسيء العمل؛ فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ثلثا الليل، قام فقال: ((يا أيها الناس، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعُها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه))؛ (الصحيحة: 952).
ولقد حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على قِصَر الأمل:
وهذا ما نراه جليًّا في الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: ((أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكِبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وفي رواية: ((فإنك يا عبدالله لا تدري ما اسمك غدًا)).
وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: إذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، زاد أحمد والترمذي: وعُدَّ نفسك من أهل القبور؛ (صحيح الجامع: 4579).
وهذا الحديث أصلٌ في قصر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتَّخذَ الدنيا وطنًا وسكنًا يطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم؛ قال - سبحانه وتعالى - حاكيًا عن مؤمن آل فرعون: ? يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ? [غافر: 39]، وقال المسيح - عليه السلام - لأصحابه: اعبروها ولا تعمُروها.
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون فيها على حالين:
الأولى: أن يكون كأنه غريب يُقيم في بلد غْربة، هَمه التزود للرجوع إلى وطنه؛ قال أبو الدرداء لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -: يا عمر، أتذكُر حديثًا حدَّثَناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليكن زادُ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)).
الثانية: أن يكون كأنه مُسافِر غير مُقيم البتَّة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة؛ فلهذا وصَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ابنَ عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين؛ فهو غير متعلِّق القلب ببلد الغربة، بل قلبه مُتعلِّق بوطنه الذي يرجع إليه، فلا همَّ له إلا التزوُّد بما ينفعه للعودة إلى موطنه الأصلي وهو الجَنَّة.
فالله لما خلَق آدم وأسكنه هو وزوجه الجنَّة، ثم أُهْبِط منها، وعَده بالرجوع إليها وصالحي ذريتهما؛ لذا تجد أن المؤمنين في شوق إليها، فالمؤمن أبدًا يَحِنُّ إلى وطنه الأول، كما قال القائل:
كم منزل للمرء يألْفه الفتى وحنينه أبدًا لأوَّلِ مَنزِلِ
ويقول ابن القيم - رحمه الله -:
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها منازلنا الأُولى وفيها المُخيَّمُ ولكننا سَبْي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسلَّمُ
فعلى المؤمن أن يعي هذه الحقيقة: أنه في الدنيا كالغريب، وأنه راحل عنها، وقد مرَّ بنا قول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر - رضي الله عنهما -: ((كن في الدنيا كأنك غريب)).
وكان الحسن البصري - رحمه الله - يقول: المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يَجزَع من ذلِّها، ولا يُنَافِسُ في عزِّها، له شأن وللناس شأن.
وكان عطاء السلمي - رحمه الله - يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غُرْبتي، وارحم في القبر وَحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك؛ أخرج الترمذي والحاكم وابن ماجه عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما لي وللدنيا؟ إنما مَثَلي ومَثَل الدنيا كمَثل راكب قَالَ في ظل شجرة في يوم صائف، فراح وتركها))؛ قال: أي نام وقت القيلولة.
• وفي رواية: ((ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلَّ تحت شجرة، ثم راح وترَكها))؛ (الصحيحة: 438)، (صحيح الجامع: 5668).
• وفي رواية: ((ما لي وللدنيا؟ وما للدنيا وما لي! والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار، ثم راح وتركها))؛ (الصحيحة: 439)، (صحيح الجامع: 5669).
وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الهلاك والشقاء في طول الأمل:
فقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صلاحُ أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلِك آخرها بالبخل والأمل))؛ (صحيح الجامع: 3845)، وفي رواية أخرى عند ابن أبي الدنيا: ((نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلِك آخرها بالبخل والأمل))؛ (صحيح الجامع: 9746).
قال بعض الحكماء: احذر طولَ الأمل؛ فإنه سبب هلاك الأمم، وإياك من طول الأمل، فإنه يَمنع خير العمل.
وكان محمد بن واسع - رحمه الله - يقول: أربعة من الشقاء: طول الأمل، وقسوة القلب، وجمود العين، والبخل؛ (صفة الصفوة: 3/366)، (وقِصَر الأمل: ص76).
قال القرطبي - رحمه الله -: طول الأمل داء عُضال، ومرض مُزمِن فتَّاك، ومتى تمكَّن من القلب فسد، وصَعُب علاجه، ولم ينجح فيه دواء، وهو الداء الذي أعيا الأطباء، ويَئِس من شفائه الحكماء والعلماء؛ اهـ.
وقد روي عن الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أخسر الناس صفقة: رجل أخلَق يده في أمانيه، ولم تُساعِده الأيام على تحقيق أمنيَّته، فخرج من الدنيا بغير زاد، وقَدِم على الله بغير حُجَّة))؛ (أخرجه ابن النجار).
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.