عندما تموت الغيرة

الكاتب: المدير -
عندما تموت الغيرة
"عندما تموت الغيرة




الحمد لله الحكيم الخبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والخير، أما بعد:

فلا تزال أمتنا في زمان الغربة تبحث عن شيءٍ من قوةِ الفاروق، وتتلمسُ بعضًا من شجاعة خالد، وتترقَّب جزءًا من سيرة صلاح الدين، ولكن عندما تموت الغَيرة في القلوب، فسيطول الانتظار!




الغَيرة كلمةٌ تحمل في طيَّاتها الكثيرَ من معاني الشهامة، والعدل، والرجولة، قال ابن حزم: الغيرة خُلقٌ فاضل، متركب من النجدة والعدل؛ لأن مَن عدل كرِه أن يتعدى إلى حرمة غيره، وإن تعدى غيره إلى حرمته، ومَن كانت النجدة طبعًا له، حدَثَت فيه عزة، ومن العزة تحدُثُ الأنفة من الاهتضام[1].




الغيرة هي أصل الدين، وبموتها يموت القلب؛ قال ابن القيم: وهذا يدلُّك على أن أصل الدين الغَيرة، ومَن لا غَيرة له لا دين له؛ فالغَيرة تحمي القلبَ فتحمَى له الجوارحُ، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغَيرة تُميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع ألبتة[2].




لكنك عندما تتجوَّل للحظة يسيرةٍ في عالَمِنا اليوم، قد تُتعِب نفسَك كثيرًا لترى الغَيرة، بل ربما يحتاج الأمر منك للاستعانة بآخِرِ ما توصَّلت إليه التقنيةُ الحديثة بعد (المايكروسكوب)، في زمانٍ أضحت فيه المرأةُ سِلْعةً تُباع وتشترى بأبخسِ الأثمان، والعجب من ضجَّةٍ يُحدِثها بعض أدعياء الغَيرة الذين يَصِيحون في وجه التغريب، مع أنهم يفتحون بيوتَهم - بلا مبالاة وبلا أدنى مقاومة - لأكابرِ مجرمي الحملات التغريبية، ومروِّجي الانفلات، ودعاة الحرية المزعومة والطرائق المشؤمة! وذلك بجلب القنوات الماجنة والشاشات الآثمة، ومشاهدة ما يُسمَّى بالأفلام والمسلسلات التي تصور مَن يُمارِس الرذائل ببطل الأبطال ونجم النجوم؛ فتَهُون المعاصي في أعين المجتمع، بل تكون مطلوبة لتحصيل الشهرة والنجومية والبطولات الوهمية، وهكذا تتنوَّع وسائل الإضلال في تزيين الانحلال، وتتبارى القنوات لتُرضي الأذواق، ولتكسب الأسواق، ولا يهم القائمين عليها سوى تحصيل الأموال والأوراق!




قالت غفيرة بنت غِفار:

فإنْ أنتمُ لم تَغْضَبوا بعد هذه
فكُونوا نساءً في المنازلِ والحجلِ
ودونَكمُ طيبَ النساءِ وإنَّما
خُلقتُم جميعًا للتزيُّنِ والكحلِ[3]

 

لا تتعجَّب مِن إقامة مسابقاتِ الجمال لتكونَ جميعُ أعضاء المرأة بين لجان التحكيم، ليختاروا صاحبة الجمال ويُقدِّموا صاحبة الدلال! ولا تغتمَّ حينما تسمع الضحكات تصدر مِن حوار بين الفتيان والفتيات في صرحٍ مِن صروح التعليم، أو مكان من أماكن الاختلاط والحفلات.




وعندما تموتُ الغيرة لا تَسَلْ عن ضياع الأخلاق، وتبدُّل القيم، وتغيُّر الثوابت! فيُسمُّونَ موتَ الغيرة بالتحضُّر والتقدُّم والحرية، ويُطلِقون على الغَيرة بأنها التخلف والتشدُّد والرجعية!




وحينما تموت الغيرة لا تبحَثْ عن الإبداع، وزيادة الإنتاج، واستقرار البيوت، وطهارة الأبضاع، وكيف يكون الاستقرار وربُّ البيت ليس له قرار؟! نعم، عندما تُشَيَّع الغَيرةُ لا تَسَلْ مِن أين تتابعت الهجمات، وتوالت الشائعات، على أهل الطهارة والعفة والنفوس الزاكيات، فيصبحون في نظر الناس هم أهل الانتكاس! ولا حول ولا قوة إلا بالله.




قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيتُ رجلًا مع امرأتي لضربتُه بالسيف غير مُصْفِحٍ عنه، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي، مِن أجل غيرةِ الله حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، ولا شخصَ أغيرُ مِن الله))[4].




رضي الله عنك يا سعد، ورضي عن الصدر الأول، الذين حُفِظ بهم الدين، ورُفِعت بهم الفضيلة، وقد قيل: كلُّ أمة وُضِعت الغَيرةُ في رجالها، وُضِعت الصيانة في نسائِها.




رحمك الله يا سعد؛ إذ أماتَك قبل أن ترى موتَ الغَيرة، وتشاهد ضياع الأخلاق، نعم عندما تُدفن الغيرة فلا تستعجب مِن تسيُّد الفساق وشُذَّاذ الآفاق.




عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا نائم رأيتُني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضَّأ إلى جانب قصر، فقلتُ: لمن هذا؟ قالوا: هذا لعمر، فذكرتُ غيرتَك، فولَّيتُ مدبرًا))، فبكى عمر وهو في المجلس، ثم قال: أَوَ عليكَ يا رسول الله أغار؟[5].

الله أكبر! عُرِفوا بالغيرة وهم واللهِ خيرةُ الناس، وبهذا سادوا العالم وحكموا الناس.




ومن أكبرِ أسباب موت الغَيرة الذنوبُ؛ قال ابن القيم: ومِن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نارَ الغَيرة، التي هي لَحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، فالغيرة حرارته وناره التي تُخرِج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة، كما يخرج الكير خبثَ الذهب والفضة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم همَّة أشدُّهم غَيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغيرَ الخلقِ على الأمة، والله سبحانه أشدُّ غيرةً منه[6].




وموت الغيرةِ وموت الحياء هما عنوان الشر وبريد الرذيلة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء خيرٌ كله))[7]، وقد ضرب أهل العفَّة والحياء أروعَ الأمثلة، فكانَتْ سِيَرهم تنضحُ بالصفاء، وسريرتهم تتزيَّن بالنقاء؛ فهذا محمد بن سيرين رحمه الله يقول: (ما غشيتُ امرأةً قط - لا في يقظة ولا في نوم - غيرَ أمِّ عبدالله، وإني لأرى المرأة في المنام، فأعلم أنها لا تحل لي، فأصرف بصري)، قال بعضهم: (ليت عقلي في اليقظة، كعقل ابن سيرين في المنام)[8].




وعن أم المؤمنين عائشةَ الحَصَانِ الرَّزانِ الصدِّيقةِ بنت الصدِّيق رضي الله عنها، قالت: (كنتُ أدخل بيتي الذي دُفِن فيه رسول الله وأبي واضعةً ثوبي؛ وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفِن عمر رضي الله عنه، فوالله ما دخلتُه إلا مشدودةً عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر رضي الله عنه)[9].




نعم أخي المبارك، هناك غيرةٌ يحبها الله، وهي المطلوبة، وأخرى يُبغِضها الله سبحانه؛ فعن جابر بن عَتِيكٍ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((مِن الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يُبغِض الله: فأما التي يحبها الله، فالغَيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله، فالغيرة في غير ريبة))[10].




الغَيرة في الريبة التي يحبها الله: جاء في شرح المصابيح لابن الملك: وهي التهمة والشك، وهنا الاختلاط مع الأجانب؛ يعني إذا علم أن بين زوجته أو أَمَته وبين الأجنبي ملاقاةً وانبساطًا ومراحًا، ينبغي للرجال ألَّا ترضى بهذا.




وأما التي يبغضها الله، فالغيرة في غير الريبة، بأن يقع في خاطره ظنُّ سوء من غير أمارة[11]، أو أن يكرَه نكاح قريباته، جاء في عون المعبود: نحو أن يغتارَ الرجل على أمِّه أن ينكحها زوجها، وكذلك سائر محارمه، فإن هذا مما يبغضه الله تعالى؛ لأن ما أحلَّه الله تعالى، فالواجب علينا الرضا به[12].




هذه دعوة للمراجعة، وتذكير للمحاسبة، وهي صحوة وصيحة لِأَنْ نُحاذر قبل أن نغادر ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ؛ فلن تُفلِح أمتنا إلا بما كانت عليه في الصدر الأول، اللهَ الله في أبنائكم، الله الله في زوجاتكم، الله الله في بيوتكم، الله الله في أخلاقكم.

نسأل الله أن يردنا إليه ردًّا جميلًا، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيمًا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.




وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.




[1] الأخلاق والسير، ص120.

[2] الداء والدواء ص68.

[3] انظر: المحاسن والأضداد؛ للجاحظ؛ ص255.

[4] متفق عليه، واللفظ لمسلم، برقم 1499.

[5] متفق عليه، واللفظ للبخاري، برقم 5227.

[6] الداء والدواء ص68.

[7] رواه مسلم برقم 37.

[8] تمشي على استحياء؛ لعبدالملك القاسم، ص10.

[9] رواه الحاكم في مستدركه برقم 4402.

[10] رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وحسنه الألباني في الإرواء برقم 1999.

[11] شرح المصابيح؛ لابن الملك 4 /51.

[12] عون المعبود 7 /230.


"
شارك المقالة:
15 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook