عندما يأمر الله بالصبر

الكاتب: المدير -
عندما يأمر الله بالصبر
"عندما يأمر الله بالصبر

 

الشَّرع والقدَر، الأمر والخَلْق مصدرهما واحد؛ فمَن شرَع الشرائعَ وأنزل الأوامر، هو الذي قدَّر الأقدار، وقسَّم البلاءَ، وأجرى الاختبارات على الخلق.

 

الإيمان بالشرع - تصديقًا وقبولًا - يوجِب العبادة والامتثال، والإيمان بالقدَر يوجِب التوكُّلَ، والعبادة والتوكُّل مأمور بهما؛ ? فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ? [هود: 123]، ? عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ? [الرعد: 30].

 

فعندما تتعرَّض لابتلاءات، فاعلم أنَّها ليست جزافًا؛ بل هناك رب يقدِّر ما يتعرض له قلبك، وهو تعالى صاحِب الشرائع الذي أمرك بالموقف الصَّواب، وبيَّن لك الطَّريقَ؛ ولهذا جاء الحديث: ((تُعرَض الفِتَن على القلوب كعرض الحَصير عودًا عودًا...))، فهناك من يعرضها عن قصد وبقدرٍ.

 

فإن وجدتَ منازعات أو صعوبات أو عوائق في قيامك بما أُمرتَ به، فاعلم أنَّها مقدَّرة؛ وما يقدَّر عليك مَعمولٌ حسابه فيما أمر الله تعالى به.

 

• عندما أمرك تعالى ببِرِّ الوالدين، فهو يعلم تعالى أنَّ بعض الآباء قد لا يكون عادلًا، وبعضهم مقصِّر، والآخر عصَبي، وغيرهم مفرط، وقد يرتكبون أخطاء، وقد يضجرون في المعاملة وقد يُخطئون في التربية - لكنَّه تعالى أمر بالبرِّ عمومًا وبلا محاشاة، أمَر وهو يعلم ما يقع من الصُّعوبات والحمل الذي تواجهه أحيانًا في سبيل تحقيق البِرِّ، إنه ليس بأمر مفاجئ للشَّريعة، حاش لله! بل هو معلوم ومعمول حسابه، فلن تفلح في البرِّ إلا إذا تدرَّعتَ بالصبر.

 

• وعندما أمرك تعالى بالعفَّة، يعلم تعالى نوازِع نفسك، وعمق رغبتك، وشدَّة شهوتك وخيالاتك وضعفك، ويعلم تعالى وقْعَ أسواط الشَّهوة وهي أشدُّ من أسواط الظهور، وقد أمرك تعالى بالعفَّة وهو يعلم هذا، وهو معمول حسابه في التكليف وفي الثَّواب؛ ولهذا أمرك بالصَّبر؛ لأنه لن تتمَّ لك عفَّة إلا بهذا.

 

• وعندما أمرك بعفَّة المال، يعلم تعالى احتياجك، وما يقدِّره عليك من ابتلاءات واحتياجات وأسباب مخلوقة تفضي إلى حوائج معيَّنة؛ وتقف أمامها مأمورًا بالعِفَّة والصبر على الحاجة.

 

• وعندما أمر الله تعالى بمراعاة وصِلَة الأخوَّة في النَّسَب والأخوَّة في الدين، فهو يعلم تعالى اختلاف الطِّباع، ومستفِزَّات الأخلاق، والتقصير في الحقوق، وعدم وفاء البعض بما تنتظره من حقوق، حقيقية أو مظنونة، ومع هذا يأمر تعالى بالأخوَّة وسلامة الصدور، والصِّلَة والبرِّ، وأداء الحقوق والدُّعاء؛ فيأمر تعالى بالأخوَّة وهو يعلم أنها لن تتمَّ إلا بالصبر على ما يطرأ على العلاقة.

 

• أمر تعالى الزَّوج بالإحسان إلى زوجته، أمر تعالى بهذا وهو يعلم تقصيرَ النِّساء في حق الرجل، وما تحتويه طِباعها مما يُغضِب الزوج أحيانًا؛ فأمر تعالى بالمعاشرة بالمعروف والصَّبر والتصرُّف الشرعي أمام ذلك، والصَّبر على ما يُحزن أو يُغضِب.

 

• وأمر تعالى الزوجةَ بالوفاء بحقِّ الزوج، وهو سيِّدها، وحقُّه عليها أعظم من حقِّ الوالدين، وهو يعلم تعالى اختلاف الطِّباع وتنوع الشخصيات، بل واختلاف العقول، وقد ترْجُحه أحيانًا.. ومع هذا جعل تعالى للرجل القِوامةَ، وجعل له حقَّ الطاعة، جعل هذا وهو يعلم تعالى طِباعَ الرجل واندفاعه وخشونته، لكنه تعالى يعلم ما خَلَق في الرجل من المقوِّمات، وأمر بالطاعة والصبر أيضًا.

 

• أمر تعالى بالصَّلاة، وهو يعلم تعالى اختلافَ المشاغل والانهماك في العمل، ويعلم شدَّة البرد ولذَّة النوم ودفءَ الفِراش؛ لكنَّه تعالى أمر بالصلاة وأمر بالصَّبر على ما يلاقيه، وهو يعلم ما تلاقي: ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ? [طه: 132].

 

• وكذلك الصيام فرَضَه تعالى وشرعه وهو يعلم ما يطرَأُ من جهد وحرٍّ، وطول اليوم حينًا، وشدة البرد حينًا.

• وكذلك الحجُّ وما يعترض الطَّريق من مخاطر، وقد يتلف المسافر قبل الوصول، أو يختنق في الزحام.

 

• وكذلك الجِهاد وما يترك العبد خلفه من أهلٍ ومال، وزوجة، وولد يترك معه فؤاده، ويذهب يحمل مالَه وروحه يشتري الآخرةَ ويطلب عتقَ رقبته، عاشقًا للجنة ومبادرًا إلى ربه، ومواجهًا للظلم في الحياة ليصلحها ويمنعها من الفساد.. أمر تعالى بالجِهاد ولم يغِب عنه ما يستلزمه من مشاقَّ، يعلم تعالى ما قد يصيبك من إصابة أو بَتْر أو وفاة؛ كلُّ هذا لم يغِب عن ربِّ العالمين وهو يشرع شرائعه، هنا لا تمام للعمل إلَّا بصبرٍ وتصبُّر، ومغالبة للعدو في الصبر؛ ? اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ? [آل عمران: 200].

 

• وكذلك الدَّعوة إلى الله، ونشر العلم وبيان الحقِّ، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والحركة بهذا الدِّين ومجابهة الباطل والظلم - يعلم تعالى ما تصطدم به دعوة الحقِّ التي تحملها مع أصحاب الانحرافات، وهم غالبًا أصحاب سلطة كذلك، ويعلم تعالى ما يستفزُّهم الحق ويمنعهم من مظالم ومحارم، فتحملهم نفوسهم وشياطينهم إلى إيذاءٍ وتآمر عليك وبغضاء لك، وما قد يؤذونك به؛ لا تمام لدعوتك حينها إلَّا بصبر وتصبُّر كذلك.

 

كل ما تلاقيه ليس مفاجأة في غيْب الله وليس طارئًا؛ بل معمول حسابه في قدَرِه وفي شرعه، ونزل الشرعُ ملائمًا لما أنزل الله من أقداره، واستوعب الشرعُ كلَّ الحالات، وقد وسعنا تكاليفه وهو في طاقتنا، والحمد لله.

 

تنبَّه إذًا لمعنى الصبر الواجب أن يلازمك في كلِّ خطوة، وتنبَّه لماذا اقترن الصَّبر بالحق، ولماذا قال تعالى: ? وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ? [العصر: 3]؛ فالحقُّ هنا هو العلم بالهُدى، والصَّبر هنا هو القوَّة اللازمة والمقارِنة للقيام بالهدى والعمل به.

 

وهنا تعلم لماذا جعل تعالى الصبر مناطًا لدخول الجنَّة في بعض المواضع؛ ? وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ? [الإنسان: 12].

 

ولماذا تهنِّئ الملائكة المؤمنين بعد دخولهم الجنة؛ ? وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ? [الرعد: 23]؛ أي: قائلين: ? سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ? [الرعد: 24].

 

وقال تعالى عن ساكني الغرف العالية: ? أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ? [الفرقان: 75]؛ ذلك أنَّها جاءت بعد صِفات عباد الرَّحمن التي لا تتم لعبد إلَّا بمقارنة الصَّبر لكل مأمور يُمتثَل، وكل منهي يُجتنَب.

 

والله تعالى أعلم وأحكم، وأرحم وأحلم، وبه الصَّبر وعليه التوكل، والحمد لله رب العالمين.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook