عهد الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
عهد الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

عهد الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.

 
أرسل الملك عبد العزيز عدة سرايا إلى شمالي الحجاز وجنوبيه حين بدأ حصاره لمدينة جدة، فقد توجهت إحدى هذه السرايا بقيادة صالح بن عذل إلى الحناكية لحصار المدينة المنورة من الشمال والشرق، ثم أرسلت سرية أخرى بقيادة إبراهيم النشمي لترابط في ضاحية العيون الواقعة على بعد خمسة كيلومترات شمال المدينة، وقد كلفت هذه السرايا بالحصار ومنع الإمدادات، وبخاصة من الأردن والعقبة ومنعت من الحرب أو دخول المدينة  .  وكان للنشمي علاقات تجارية سابقة مع أهل المدينة، و كان بعضهم يتردد على معسكره للحصول على المؤن، وكان يأمل من ذلك في كسب أهل المدينة إلى جانبه ودخولها من دون حرب  .  وفي أواخر عام 1343هـ / 1925م، أرسل الملك عبد العزيز عدة سرايا بقيادة عمر بن ربيعان والأمير سعود بن عبد العزيز الملقب بالكبير وخالد بن لؤي إلى بدر وينبع النخل  .  وبعد موسـم حـج عام 1343هـ / 1925م وصلت إلى المدينة المنورة جماعات من الإخوان بقيادة عبد المحسن الفرم وأتباعه من حرب، وفيصل الدويش وأتباعه من مطير، وقد نـزل الفرم بأتباعه في العوالي في حين نـزل الدويش بأتباعه في قباء  .  وبذلك اشتد الحصار على المدينة المنورة.
 
في غياب أمير المدينة المنورة علي بن الحسين، اجتهد باقي المسؤولين في المدينة في الدفاع عنها، وعلى الرغم من وجود كميات كبيرة من السلاح والذخيرة في المدينة إلا أن عدد الجنود فيها لم يكن يتجاوز الأربعمئة، وقد وزع عبد المجيد باشا قائد عسكر المدينة جنوده النظاميين والمتطوعين على ستة مراكز على أطراف البلدة للدفاع عنها  .  وقد أحدث وصول الدويش وأتباعه من الإخوان مناوشات بينهم وبين المدافعين في الجهات الجنوبية والغربية للمدينة أطلقت خلالها نيران المدافع على المهاجمين، وانتقلت أخبار هذه المناوشات عن طريق وكالة رويتر إلى مصر وإيران والهند، وصُوِّرت المناوشات على أنها محاولة لإلحاق الأذى بالمسجد النبوي والأمكنة الأثرية، فتلقى الملك عبد العزيز الاستفسارات من حكومات تلك البلدان حول الموضوع، فأجاب الملك بأن كل ذلك دعاية كاذبة من أعدائه، وأنه حريص على حرم المدينة وعلى آثار السلف الصالح في البلدة، كما رتب زيارة السفير الإيراني في مصر للمدينة لكي يتأكد من ذلك  
 
أمر الملك عبد العزيز فيصل الدويش وأتباعه بالرحيل عن المدينة، وأرسل الشيخ عمر بن سليم ليكون إمامًا وواعظًا وقاضيًا لقواته المحاصرة للبلدة ولضمان تنفيذ سياسته الهادفة إلى الاكتفاء بالحصار وعدم اللجوء إلى القتال  .  وكان الحصار قد طال وبدأ يؤثر على سكان المدينة وحاميتها والمسؤولين فيها مع بداية عام 1344هـ صيف 1925م، فلم يجد أولئك المسؤولون ما ينفقونه على الموظفين والجنود، حتى اضطروا إلى بيع بعض الأسلحة المخزنة في القلعة التي وجد قسم منها طريقه إلى المحاصرين، كما قلت المؤن في البلدة وارتفعت أسعارها ما حدا بكثير من أهلها إلى مغادرتها، ولم يستطع الملك علي المحاصر في جدة إمداد وكيله وقائمقامه وعسكره في المدينة بما يحتاجونه من مال ومؤن وجنود 
ولما طال التسويف وتكررت الوعود غير المنجزة من الملك علي بإرسال الإمدادات إلى المدينة، وأدرك أهل المدينة أن أوضاع الملك علي في جدة لم تكن أفضل من أوضاعهم، وأن كفة الملك عبد العزيز هي الراجحة، اجتمعوا بالوكيل والقائمقام وتشاوروا في أمر التسليم، ولأنهم تخوفوا من عدم انضباط القوات المحاصرة عند دخولها المدينة، قرروا الاتصال مباشرة بالملك عبد العزيز، فأرسل القائمقام شحات بن علي أحد تجار المدينة المنورة ويدعى مصطفى عبد العال برسالة إلى الملك عبد العزيز يعرض فيها تسليم المدينة، ويشترط الأمان لموظفي وعساكر حكومة الملك علي وأن يكون أحد أبناء الملك عبد العزيز هو الذي يتسلم المدينة  
 
بعث الملك عبد العزيز ابنه محمدًا على رأس فرقة من الجند لتسلم المدينة المنورة، وقد تسلم الأمير محمد ورجاله المواقع الإدارية والعسكرية من الوكيل والقائمقام وقائد الحامية في 19 / 5 / 1344هـ الموافق 4 / 12 / 1925م بــغــايــة الهدوء والنظام، وخلال الأيام التالية جلس الأمير محمد لتقبل بيعة أهل المدينة نيابة عن أبيه، وأمر بتوزيع المؤن والطعام على المحتاجين، وفي اليوم الرابع عقد الأمير اجتماعًا حضره كبار الموظفين والأعيان في دار البلدية أعلن فيه العفو العام، وخير الموظفين والعسكريين من غير أهل المدينة بين البقاء على وظائفهم في المدينة أو مغادرتها إذا رغبوا في ذلك  .  وبذلك تحقق للملك عبد العزيز ما كان يأمله من ضم المدينة المنورة دون قتال  
 
عين الملك عبد العزيز ابنه الأمير محمدًا أميرًا للمدينة المنورة وإبراهيم السبهان من أهل حائل وكيلاً له، وقد أبقى الأمير محمد الموظفين الذين اختاروا البقاء في وظائفهم مثل: إسماعيل حفظي رئيسًا لديوان الإمارة، والشيخ إبراهيم البري قاضيًا، ومهدي بك قائدًا للشرطة، وذياب بن ناصر رئيسًا للبلدية والمالية، كما عين الشيخ أحمد كماخي مديرًا للمعارف، ومحمد بن إبراهيم القاضي مديرًا لشؤون الحرم والأوقاف. وفي بداية شهر رجب عاد الأمير محمد إلى جدة  .  وفيما بعد أدخلت هيئة التفتيش والإصلاح برئاسة الشيخ حافظ وهبة بعض التعديلات على النظم الإدارية والمالية والوظائف  .  وفي شهر رجب 1344هـ / 1926م استدعى الملك عبد العزيز شيوخ قبائل حرب وجهينة وبلي وأكرمهم ووعظهم وأبلغهم بضرورة الالتزام بالشريعة وتأدية الزكاة والمشاركة في الجهاد، كما حملهم مسؤولية استتباب الأمن في مناطقهم، وأن كل شيخ قبيلة مسؤول أمام الدولة عما يحدث في ديار قبيلته وأن من يقصر في ذلك يكون عرضة للعزل، كما أبلغهم بإلغاء الأدراك والمخافر التي كانت خلال حكم العثمانيين، وأنه ليس لهم شيء من الحقوق على الحجاج أو المسافرين إلا ما يبذله لهم الملك من أعطيات من بيت المال  
 
وبناءً على نظام (التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية) الذي أمر الملك عبد العزيز بوضعه بعد مبايعته ملكًا على الحجاز، تم تأسيس مجلسين في المدينة المنورة؛ أحدهما مجلس استشاري (المجلس الإداري) والآخر مجلس بلدي بطريق الانتخاب والتعيين، وقد تكوّن المجلس الإداري من ستة أعضاء من ضمنهم القاضي ومدير الأوقاف والمالية بالإضافة إلى الرئيس، ومهمة هذا المجلس مساعدة الأمير أو وكيله في إدارة أمور المنطقة واختيار ممثليها في مجلس الشورى العام للمملكة، أما المجلس البلدي فقد شكل من خمسة أو ثمانية أعضاء برئاسة رئيس البلدية، ومهمته النظر في الشؤون المحلية ووضع الأنظمة العمرانية والبلدية ومراقبة الأسواق في المدينة  
 
في أواخر شهر ربيع الآخر 1345هـ / 1926م زار الملك عبد العزيز المدينة المنورة قادمًا من جدة في موكب يتكون من تسع عشرة سيارة لتفقد أحوالها، وبعد زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه جلس الملك لاستقبال الأهالي الذين أقاموا له حفلاً فيما بعد في محطة السكة الحديد  .  وقد أقام الملك في المدينة نحو شهرين قضاهما في تنظيم الأوضاع الإدارية وتفقد أحوال أهل المنطقة، فقد عزل إبراهيم السبهان من وكالة الإمارة وعين مشاري بن جلوي آل سعود بدلاً منه، وأعاد تشكيل إدارة الحرم والأوقاف وخلصهما من الموظفين الذين لم يكن لهم عمل، وشكل مجلسًا جديدًا للقضاء، ونظم أمور أمكنة الزيارة في المدينة بحيث تم تخليصها من الممارسات المنافية للشريعة، كما ركب الملك القطار لتفقد أوضاع القبائل النازلة شمال المدينة  
في شهر ربيع الآخر عام 1346هـ / 1927م عين الملك عبد العزيز عبد العزيز بن إبراهيم وكيلاً لأمير المدينة وياسين الرواف معاونًا له، وكان ابن إبراهيم قد اشتهر بالشدة والحزم، فأراد الملك عبد العزيز من تعيينه هناك أن يضبط الأوضاع الأمنية في منطقة المدينة والطرق المؤدية إليها، وقد بعث الملك عبد العزيز إلى وكيل الأمير ومعاونه وسكان المدينة رسائل حدد فيها واجبات وصلاحيات الوكيل ومعاونه وضرورة تعاون سكان المدينة معهما  .  كذلك أمر الملك عبد العزيز بحل المجلس الإداري والمجلس البلدي ومجلس الأوقاف، وأرسل في الشهر نفسه لجنة التفتيش والإصلاح إلى المدينة للنظر في الأوضاع الإدارية هناك، وبناء على توصيات هذه اللجنة أُعيد تشكيل المجالس الثلاثة المشار إليها وصدر عدد من قرارات العزل والتعيين في الوظائف الحكومية في المدينة  .  وقد أمضى ابن إبراهيم في منصبه أكثر من تسع سنوات، شهدت المنطقة خلالها هدوءًا واستقرارًا ملحوظًا على الرغم من القحط والمجاعة التي ضربت القبائل المحيطة بالمدينة وما يمكن أن يترتب على ذلك من اضطراب  .  وقد أنشأت الدولة خلال هذه الفترة المدارس الابتدائية مثل: المدرسة الناصرية والمدرسة المنصورية التي أسهمت مع مجالس العلم في المسجد النبوي والمدارس الأهلية مثل: مدرسة العلوم الشرعية، ودار الأيتام والصنائع الوطنية، ودار الحديث وغيرها من المدارس الخيرية في تعليم الناشئة في المدينة  .  وأثمر كل ذلك في نمو حركة ثقافية في المدينة المنورة تمثلت في ظهور منتديات أدبية وإصدارات ثقافية مثل: مجلة المنهل  وجريدة المدينة المنورة  اللتين ظهرتا في عامي 1355 - 1356هـ / 1937م على التوالي  
 
في صفر 1355هـ / 1936م عين الملك عبد العزيز عبد الله بن سعد السديري وكيلاً لإمارة المدينة المنورة، وقد استمر السديري في منصبه مدة عشرين عامًا، تزامن النصف الأول منها مع فترة الحرب العالمية الثانية التي شهدت هدوءًا في جميع أنحاء المملكة، وخلال هذه الفترة سيّرت الحكومة الأمور الإدارية والتعليمية وغيرها في المدينة بالموارد المتاحة، وبعد نهاية الحــرب في عــام 1364هـ / 1945م استؤنف استخراج النفط بكميات تجارية، وبالتالي تزايدت موارد الدولة من عائداته، وانعكس ذلك على نفقاتها على الخدمات والمرافق العامة، وكان أهم حدث شهدته المدينة المنورة في أواخر عهد الملك عبد العزيز هو عمارة وتوسعة المسجد النبوي.
 
نقلت الصحف المصرية في عام 1367هـ / 1949م عن بعــض زوار المــدينة المنورة حدوث تشققات في بعض أعمدة المسجد النبوي، وتشكلت على إثر ذلك لجان لجمع التبرعات في مصر لترميم المسجد النبوي،  فلما علم الملك عبد العزيز بذلك طلب رد التبرعات إلى أصحابها وعزم على عمارة وتوسعة المسجد النبوي  ،  وبخاصة أن أعداد الحجاج والزوار قد تضاعفت عدة مرات بسبب استقرار الأوضاع في الحجاز وتطور المواصلات في العالم، وقد كلف الملك عبد العزيز محمد بن لادن الذي استعان بعدد من المهندسين المصريين والباكستانيين لدراسة المشروع، وأوصت الدراسة بهدم القسم الشمالي من المسجد بسبب تسرب الرطوبة إلى أساساته، والإبقاء على القسم الجنوبي الذي يحوي القبر النبوي، أصدر الملك عبد العزيز أوامره بتنفيذ التوصية ونـزع ملكية العقارات اللازمة لذلك وعمارة المسجد وتوسعته، وبدأ العمل في المشروع في عهد الملك عبد العزيز في شوال عام 1370هـ / 1951م وانتهى في عهد الملك سعود في ربيع الأول عام 1375هـ / 1955م  .  كان من أهم معالم هذه العمارة دخول الخرسانة المسلحة لأول مرة في عمارة المسجد النبوي الشريف، وبناء مئذنتين بارتفاع سبعين مترًا، وزيادة مساحة المسجد بمقدار 6024م  ، وقد بلغ ما أنفق على هذه العمارة بما في ذلك التعويضات عن العقارات المنـزوعة سبعين مليون ريال 
 
في 2 / 3 / 1373هـ الموافق 1953م توفي الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، موحد أغلب أقاليم الجزيرة العربية ومؤسس المملكة العربية السعودية، بعد أن أمضى أربعة وخمسين عامًا في الجهاد العسكري والسياسي والدبلوماسي والتنموي وبناء الروابط بين أقاليم فرقتها نوازع التفكك المختلفة لعدة قرون، وقد ضم الملك الموحد المدينة المنورة إلى دولته دون اللجوء إلى القتال، ونعمت المنطقة خلال عهده بالاستقرار والازدهار والسلامة من النـزاعات التي عانت منها خلال الفترات السابقة.
 
 
شارك المقالة:
213 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook