فارق اللحظات

الكاتب: المدير -
فارق اللحظات
"فارق اللحظات

 

في السَّنة الثامنة من الهجرة أَرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى الروم، قوامُه ثلاثة آلاف مُقاتل، وعقَد الرايةَ لثلاثة منهم، وجعل إمرتَهم بالتناوب، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنْ أُصيبَ زَيدُ بن حارثة، فجَعفر بن أبي طالب، فإنْ أُصيب جعفر، فعبدالله بن رَواحة)).

 

فتجهَّز الناسُ وخرَجوا والتقوا مع جُموع هرقل من الروم والعرب، الذين كان عددهم مائتي ألف مقاتل، فدنا العدوُّ وانحاز المسلمون إلى قَريةٍ يقال لها: مُؤْتة، وتسمَّى اليوم بالكرك، فالتقى الناسُ عندها، وتجهَّز المسلمون، والْتَحم الجيشان، وحَمي الوطيس، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وقُتل أول قادة المسلمين زيدُ بن حارثة رضي الله عنه، مقبلًا غير مدبِر، فأخذ الرايةَ جعفر بن أبي طالب بيمينه، وأخذ ينشد:

يا حبَّذا الجنةُ واقتِرابُها
طيِّبةً وباردًا شرابُها
والرُّومُ رومٌ قد دنا عذابُها
كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها
عليَّ إنْ لاقَيْتُها ضِرابُها

 

فقُطعتْ يمينُه رضي الله عنه، فأخذ الرايةَ بشِماله فقُطعتْ، فاحتضنها بعَضُدَيْه حتى قُتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه اللهُ بذلك جناحينِ في الجنَّة يطير بهما حيث شاء، فأخذ الرايةَ عبدُالله بن رواحة رضي الله عنه، ثمَّ تقدَّم بها على فرسه، فجعل يَستنزل نفسَه، ويقول:

أقسمتُ يا نفسُ لتنزلنَّهْ
لتنزلنَّ أو لتُكرَهِنَّهْ
إن أَجلَب الناسُ وشدُّوا الرنَّهْ
ما لي أراكِ تَكرهِين الجنَّهْ
قد طال ما قد كنتِ مطمئنَّهْ
هل أنتِ إلَّا نُطفةٌ في شنَّهْ

ثمَّ تقدَّم رضي الله عنه فقاتَل حتى قُتل.

 

قال ابنُ إسحاق: ولما أُصيب القومُ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما بلَغني: ((أخذ الرَّايةَ زيدُ بن حارثة فقاتَل بها حتى قُتل شهيدًا، ثمَّ أخذها جعفر فقاتَل بها حتى قُتل شهيدًا))، قال: ثمَّ صَمَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيَّرتْ وجوهُ الأنصار وظنُّوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يَكرهون، ثمَّ قال: ((ثمَّ أخذها عبدُالله بن رواحة فقاتَل بها حتى قُتل شهيدًا))، ثم قال: ((لقد رُفِعوا إلى الجنَّة فيما يرى النَّائم على سُررٍ من ذهَب، فرأيتُ في سرير عبدِالله بن رواحةَ ازوِرارًا عن سريرَي صاحبَيه، فقلتُ: عمَّ هذا؟ فقيل لي: مَضَيا وتردَّدَ عبدُالله بعضَ التردُّد ثمَّ مضى)).

 

ويخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا على أصحابه، ويحدِّثُهم عن أتباع الأنبياء الذين يأتون معهم يوم القيامة، ومنهم أتباعه الذين يأتون يسدُّون الأُفق ومعهم سبعون ألفًا قُدَّامهم يدخلون الجنَّةَ بغير حِساب، ويذكر أنَّهم ((هم الذين لا يَتطيَّرون، ولا يَستَرْقون، ولا يَكتوون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون))، فيقوم عُكَّاشةُ بن مِحصن فيقول: ادعُ الله أن يجعلني منهم! قال: ((اللهم اجعله منهم))، فيقوم مباشرةً رجلٌ آخر فيقول: ادع الله أن يجعلني منهم! فقال: ((سبَقك بها عكَّاشة))؛ والحديث في الصحيحين.

 

ويحدِّث أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: وإنِّي شهدتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا وهو يتكلَّم، فقال: ((مَن يَبسط رداءَه حتى أقضي مَقالتي، ثمَّ يقبضه إليه، فلا ينسى شيئًا سمِعه منِّي))، فبسطتُ بردةً كانت عليَّ حتى إذا قضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم مقالتَه قبضتُها إليَّ، فوالَّذي بعثه بالحقِّ، ما نسيت شيئًا بعدُ سمعتُه منه، قال سفيان: قال المسعودي: وقام آخَر فبسط رداءَه، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((سبَقك بها الغلامُ الدَّوسي)).

 

جاء رجل إلى زيد بن ثابتٍ يسأله عن شيءٍ، فقال له زيدٌ: عليك بأبي هُريرة؛ فإنِّي بينا أنا وأبو هريرة وفلانٌ ذات يومٍ في المسجد ندعو ونَذكر ربَّنا عز وجل، إذْ خرج علينا رسولُ الله حتى جلس إلينا، فسكَتْنا، فقال: ((عودوا للذي كنتم فيه))، قال زيدٌ: فدعوتُ أنا وصاحبي قبلَ أبي هُريرة، وجعل النبيُّ يؤمِّن على دعائنا، ثمَّ دعا أبو هريرة فقال: اللهمَّ إنِّي أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك عِلمًا لا يُنسى، فقال النَّبي: ((آمين))، فقلنا: يا رسولَ الله، نحن نسأل اللهَ علمًا لا يُنسى! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((سبقكما بها الغلامُ الدَّوسي)).

 

في هذه القصص الثلاث أمرٌ في غاية الدقَّة والعجب:

• فبين تأخُّرِ سرير عبدالله بن رَواحة رضي الله عنه في الجنَّة وتقدُّمِ سريرَي صاحبيه - تردُّدُ لحَظات فقط أنزلَتْه منزلةً دون منزلتي صاحبيه.

 

• وبين دخول عُكَّاشة بن محصن رضي الله عنه الجنَّةَ بغير حِساب وبين التعرُّض للحساب لحظة واحدة - لحظة مُبادرة عكَّاشة بالسؤال وتأخُّر صاحبه لحظة.

 

• وبين أن ينال أبو هريرة شرَف نيل وِسامِ حافظِ ومحدِّث الأمَّة بما نقله من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بدقَّة ودون نسيان، وبين ألَّا ينال ذلك الشَّرف مَن تأخَّر ممَّن كان معه في نفس المجلس - لحظة بسط أبي هريرة رداءه.

 

إنَّها موازين الله، تفرق فيها اللَّحظةُ والثانية، والنَّفس والخطرة، إنَّه ميزانُ الله الدَّقيق الذي لا يفوت لحظةً، ولا يضيَّع ثانية، ولا يُخفي مثقالَ ذرَّة؛ ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ? [الأنبياء: 47].




• فارِق اللَّحظات دقيقٌ عند الله بما لا ينتبه له إلَّا العارفون الذين اصطفاهم الله، تؤثِّر فيه السَّجدةُ والدَّمعةُ والخاطرة، تعظِّمه النيَّة وتنقصه الغفلة، ويؤخِّره التردُّد والتَّواني، وتُضعفه الهمَّة، ويُفسده سوءُ النيَّة.

 

• فارِق اللَّحظات تسبق فيه أرواحٌ إلى الجنَّة بآلاف السنين، بينما عاشت في الدنيا في زمن واحد مع أُخرى تؤخَّر آلاف السنين.

 

• فارِق اللَّحظات يرفع أناسًا في الجنَّة في الغرفات، ويجعل آخرين دونهم يرَونهم كما يرَون الكوكبَ الغابِر؛ ((إنَّ أهل الجنَّة يتراءون أهلَ الغرف مِن فوقهم كما يتراءون الكوكبَ الدُّري الغابر في الأُفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضُل ما بينهم))، قالوا: يا رسولَ الله، تلك مَنازل الأنبياء لا يبلُغُها غيرُهم؟! قال: ((بلى والَّذي نفسي بيده، رجالٌ آمَنوا بالله وصدَّقوا المرسلين))؛ رواه البخاري (3083) ومسلم (2831).

 

• فارق اللَّحظات ربَّما يدخلك الجنَّة أو يَهوي بك في النار، أو ينقذك من النَّار ويرفعك في أعالي الجنان...

يخرج الأصيرم عمرو بن ثابت الخزرجي مِن المدينة يوم غَزوة أُحد ولم يكن قد أَسلم، فيُسلم ثمَّ يدخل المعركةَ مع المسلمين، فما يلبث أن يَقتله المشركون فيموت شهيدًا، ويشهد له النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجنَّة، ولم يسجد لله سجدةً! والفارق بين دخوله في الإسلام وبين مَوته واستشهاده وقتٌ يسير، وربَّما لحظات، هذه اللَّحظات أنقذَتْه من الخلود في النَّار إلى حياة الخلود في أعالي الجنان.

 

• فارق اللَّحظات تؤثِّر فيه أعمالُ القلوب أشد ما يكون؛ فربَّما تتفاوت الأجور في كلِّ عمل حسب محتوى القلوب، ففي الصلاة: قد يصلِّي الرجلان في صفٍّ واحد وبين ثوابهما كما بين السماء والأرض، وقد ينفِق اثنان مبلغًا واحدًا فينال أحدُهما أجرًا واحدًا بينما الآخر ينال سبعمائة أجر أو أكثر، وقد يدرِك قلبانِ ليلةَ القَدْر فيتضاعف أجرُ أحدهما عن الآخر أضعافًا مضاعفة.

 

• فارق اللَّحظات تبني فيه قُصورًا في الجنَّة، أو تُكتب فيه من الذَّاكرين، أو تُمحى من زُمرة الغافلين، أو تُكتب في سجِلِّ المتقدِّمين.

 

• تدخل المسجد فتدرِك الصفَّ الأول فتُكتب من المبكِّرين، وتنال خيريَّة وأفضلية أصحاب الصفِّ الأول، ومن الذين تصلِّي عليهم الملائكة، ويدخل آخَر بعدك بلحظاتٍ فلا يدرك الصفَّ الأول فيُحرم من تلك الميزات.

 

• تأتي يوم الجمعة قبلَ دخول الإمام، فتَكتبك الملائكة في سجلِّ المبكِّرين، وربَّما يدخل آخر بعدك بلَحظات، ولكن بعد دخول الإمام فلا يُكتب اسمه، وتُطوى عنه السجلَّات، والفارق بينكما لحظات!

 

• تقوم اللَّيلَ بعشر آيات، فلا تُكتب من الغافلين، وينام آخر دون صلاة فيُكتب من الغافلين، والفارق لحظات.

• تصلِّي ركعتين من الضُّحى، فتُكتب من الأوَّابين، وتؤدِّي صدقةَ مفاصِلك، ويُحرَمها آخرون، والفارِق لحظات.

• تمرُّ في الطريق ويمرُّ غيرك فتجد ما يؤذي الناسَ في الطَّريق فتزيله أو تنحِّيه، فتُكتب لك أجور لا تعلمها، ويُحرَمها غيرك.

• تَلقى الناسَ فتبتسم في وجوههم، تُكتب لك صَدقة في لحظات.

• ((مَن قرَأ آيةَ الكرسي دُبرَ كلِّ صلاةٍ مَكتوبةٍ، لم يمنعه مِن دخول الجنة إلا الموت))، وقراءتها لا تأخذ إلَّا لحظات.

 

• قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبِّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذَّهب والوَرِق، وخير لكم مِن أن تَلقَوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ ذِكر اللهِ)).

 

• والجنَّة غِراسها ذِكرٌ لا يتعدَّى لحظات.

 

• وفي الحديث: ((مَن هاله اللَّيل أن يكابِده، أو بخل بالمال أن ينفِقه، أو جبن عن العدوِّ أن يقاتلَه، فليكثِرْ من سبحان الله وبحمده؛ فإنَّها أحبُّ إلى الله مِن جبَل ذهَب ينفقه في سبيل الله عز وجل))، ولا تأخذ من الوَقت إلَّا لحظات.

 

• وبين أن يَذكرك الله أو لا يَذكرك هو أن تحرِّك لسانك بذِكره فقط.

وهكذا الحياة فُرَص، وأيسرها الفرص مع الله التي تَفرق فيها اللَّحظة، ويؤثِّر فيها مجرَّد تحريك اللِّسان بتسبيحة أو تحميدة، أو تَهليلة أو تكبيرة، وتعظِّمها المبادرةُ والمسارعة وإخلاص النية.

والفرَص مع الله مَضمونةُ النتائج، عظيمة الربح، ليس فيها مُخاطرة ولا مجازفة؛ فوعدُه لا يُخلف، وفضلُه لا يوصف.

 

الدَّرجات عند الله متفاوِتة، بين الدرجة والدرجة كما بين السَّماء والأرض بمسيرة خمسمائة عام، تفرق بين الدَّرجة والدرجة قراءةُ آية، أو دمعة مِن خشية الله، أو دعوةٌ من قلب خاشع ونفسٍ خاضعة منكسِرة، أو تفكُّرٌ مِن عقلٍ موقِن، أو كلمة طيِّبة، أو معروف مبذول للخلق.

 

والميزان عند الله دَقيقٌ، لا يخضع للمحاباة، ولا يقبل المجاملة، ولا تنفع معه الواسطة، ولا يُشفع عنده إلَّا بإذنه، ولِمن ارتضى، ولِمن أذِن له.

وكلُّ الناس سائرٌ إلى الله، ويتمنَّى على الله الأمانيَّ، ولكنَّ المغتنمين لفَضل الله قلَّة، وهم درجات عند الله.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook