فاقدو الطفولة

الكاتب: المدير -
فاقدو الطفولة
"فاقدو الطفولة

 

لماذا يكرهُ الناسُ بعضهم بعضًا؟

لماذا يبغضُ المبغضون؟

لماذا يحسُدُ الأخُ أخاه، والصاحبُ صاحبَه، والقرينُ قرينه، والجارُ جارَه، و..و..و... وكلٌّ في وادٍ يحسدون؟

لماذا؟

يُعييني السؤالُ ولا أجدُ الإجابة.. أراني أجلسُ في مسائي، بعد مرور يومٍ شاقٍّ من تدبير أمور المنزل، والاعتناء بالأولاد، متعبة لأقصى حدٍّ.. أريدُ أن أخرُج من تعبي إلى هواءٍ آخر لا أثقال فيه ولا تعب.. أريدُ أن أشتمَّ ليلًا رائحةَ الكلمات وهي تعبقُ في أفقٍ من السكينة والراحةِ والأمان... أريدُ نقاهة، فألجأ للكتابةِ والقراءة، وأتأبَّط وحدتي... تلكَ الوفيَّة التي ما خانتني مرَّة، ولا أظهرت لي يومًا عكس ما تُخفيه!

 

أتعجَّبُ لحال البشر... لا يتركونكَ بحالك... يلاحقونكَ أينما ذهبت، مهما هربت، وكيفما اختبأت... يقتحمون عزلتك، ويعبثون بهوائك!

يفتِّشون عن خيوط ليسحبوك منها ويعيدوك إلى عالم الكُره والحروب...

 

أنت لا تريدُ العودة، أنتَ لا تحبُّ ذاك العالم.. أنتَ لا تنتمي إليه! تحنُّ لعالمٍ آخر، روحكَ فيه، ذرَّاتُكَ منه، أنتَ تتوقُ للغياب والعيش هكذا بلا أصوات ولا ضوضاء.

لكنَّهم يأبَون إلَّا أن يعيدوك إلى عالمهم الصاخب، ويُسمعوك صوت ضجيجهم..

 

تتعجب:

لمَ يتبعونني؟!

 

تتساءل:

بماذا آذيتهم؟ ماذا فعلتُ لهم؟! لماذا يلتصقون بي إلى هذا الحدِّ الخانق؟ أريدُ أن أتحرَّر... تصيح: دعوني وشأني! أريدُ أن أسافرَ وأبتعد كي لا يمسَّ أحد نقائي... تسافر.. تبتعد.. تصيرُ ذكرى... ذكرى جميلة، ما خلفت خلفها إلَّا أجملَ الخطوط، وأروع الذكريات.. وصورة نقيَّة، لطيبةٍ مغروسةٍ فيك منذ جذورك.

 

كنتَ ألطفَ ممَّا يجب، أطيب ممَّا يحتملُ المكان، فآذَوك... حتَّى الصورة أزعجتهم... ضايقتْهم تلك الذكرى... ذكرى سعاداتكَ التي تركتها خلفكَ ومضيتَ سابحًا في عوالم الله الواسعة، حاملًا قلبكَ الصغيرَ على كفِّك نحو عالمٍ آخرَ وبلادٍ أكثر محبَّة.

لم تُؤذِكَ الغربة ولا أوجعتك، بقدرِ ما أوجعكَ غدرُ الأقربين.

 

قسوتهم العجيبة تلك، كُرههم الذي لا تدركُ لهُ تفسيرًا، كلماتهم الحادة القاسية تلك التي تنطلق فاقدةً صوابَها، عباراتهم التي لا يطلقونها في الأثير إلَّا لتقتلك، غير أنَّك رغم هذا لا تموت.. ومع ذلك كلِّه، تبقى نقيًّا، أبيضَ كالثلج، كبياضِ طفلٍ عاش طفولتَهُ حتى الرمق الأخير، وما زالت طفولاتُهُ تنبض وتتجدَّد.. يقهرهم ذلك؛ لأنَّهم ربَّما لم يعيشوا طفولتهم، ليس لنقصٍ في حنان المحيطين، على العكس، فالمحيطون قد قدَّموا لهم نورَ أعينهم، وسعةَ أيديهم، وعطفَ قلوبهم، فأنكَروها؛ لأنَّهم ناقمون أبدًا... ناقمون عليك؛ لأنَّك حزت أيضًا على قلوبِ المحيطين وتمتَّعت بعطفهم.. هم يريدون أن تكون الطفولة كلُّها لهم أو لا تكون... فإن كانت الطفولةُ لغيرهم أنكروها، وكرهوها، وتبرَّؤوا منها؛ لأنَّها تذكِّرهم بأنفسهم الناقمة الغاصبة الكارهة، التي تكرهُ أن ترى الفرحةَ في عيون الآخرين.

 

كنت مميَّزًا من أقرانك، ذاك ذنبك.. كنت تتلقَّى دعم الأب وتشجيعه وافتخاره، وسماع الأمِّ العطوف الحنون...

وحين كبِرت، زاد عطفُ العطوفين، وزاد فخر المفتخرين.

تسعد؛ لأنَّك أسعدتَ من كانوا السبب فيما أنت فيه.. تسعد؛ لأنَّك رفعت رأس من جعلك ترفع رأسك يومًا ما.. لكنَّهم - أولئكَ الناقمين - يغضبون، ويزيدون غيظًا وغلًّا.

أمَا آنَ للطفولةِ المستعصيةِ فيك أن تموت؟ ذاك حديث حالهم.

 

يخنقونها بأيديهم.. يحاصرونها من شتَّى الأطراف... لا بدَّ من أنَّكَ أنتَ يوسف، وهم الذين سيُلقُون بكَ في البئر... تقع.. مرَّاتٍ ومرَّات... ثمَّ تخرج، مبلَّلًا، باردًا، ينخر الصقيع عباب قلبك... يحاصركَ اليأس، والأحزانُ تموجُ بك، إلا أنَّك لم تمُت بعد.. فأنت الطفولة، وهل للطفولةِ أن تموت؟!

 

ناصعٌ كالبياض، تظلُّ سائرًا بعكس الريح... تبتعد أكثر... لا تقترب منهم أبدًا، إلا في المناسبات؛ لتزفَّهم بوردة حب، أو لتهمس لهم: كونوا بخير... تحبُّهم من كلِّ قلبك... تتمنَّى لهم كلَّ السعادة، تدعو لهم في كلِّ صلاة... في السجود... تتحرَّى مواضع الاستجابة.... لكنَّهم يتحرَّون مواضع قتلك الحسَّاسة.

لا يجدون لكَ عيبًا... يحارون كيف يدمِّرونك.. يصفونك بأبشع الصفات، ويتَّهمونك بأشنع التهم التي لا تخطر لك على بال! كيف هذا، وأنت البعيد عنهم كل هذا البعد، كل هذه المسافة؟!

 

تحزن.. يضيق صدرك، والآلامُ تعتريك.. لكنَّك تتذكَّر آيات الصبر على الأذى، فتحمد الله على البلاء، ثم تتنفس الصعداء؛ لأنك كنت أنت الضحيَّة لا الجلَّاد، ولأنَّك ما ارتكبتَ أيَّ جناية، ولا اجترحتَ أيَّ أذًى... أنت لم تمسَّ منهم طرفًا، ولا مسستَ خيطًا من خيطان أحلامهم وأمانيهم، ولا دنوتَ من ممتلكاتهم، ولا اقتربتَ من الحدود... أنتَ ما تذلَّلْتَ لهم يومًا لحاجة، ولا طلبتَ يد العون! جلُّ ما كنت تريده أن يَدَعُوك بسلام؛ ليعيشوا السلام بكلِّ معانيه.. أردت لهم أن يعيشوا معك السعادة، أن يشاركوك فرحتك وأصدقاءك والضحك، أن يشاركوك حتى الكلمات التي أحببتها، وهبتَهم ثقتك وما بخِلت عليهم ببوح أسرارك والأحلام التي تطلُّ عليها من شرفة المستقبل.. أردت لهم أن يكونوا معك قُربَها، وأرادوا لك أن تهجرها كلَّها ليتملَّكوها وحدهم، وتكون وحدك بلا رفيق أو طريق أو حلم... كيف لهم أن يشوِّهوا صورتك النقيَّةَ الجميلة تلك أمام أحبابك؟ كيف لهم أن يخفِّفوا من كثرة القلوب التي تنبض بالحبِّ حولك؟ كيف لهم أن يُطفئوا ذاك البريق؟! يجرِّبون بشتى الطرق، وقد تنجح محاولاتهم عدَّة مرَّات، فيقلِبون أصدقاءك أعداءً، ويستميلون قلوبهم نحوهم، فتصير أنت بلا رفاق، غير أنَّك لا تموت... بل تعيش طفولةً أخرى جديدة، وتفرح؛ لأنك أردت صداقةً أكثر صدقًا.

 

تخمدُ ريحك... تصمت... تعتزل الناس والأصحاب، مَن خذلوك، والكلمات التي في جوفك يغلق بابها وتهجر... يصمتون... يصيبهم الخرس... فهذا ما أرادوه دومًا.. أن تموت، أن تكون كما التمثال بلا حَراكٍ ولا حسٍّ.. أن تدفن كلماتك الطفولية تلك في أرض لا يزورها محبٌّ، ولا يحنُّ لها مشتاق.

 

هم لا يريدون لمواهبك أن تظهر، ولا لإبداعك أن يتجلَّى.

هم يريدون لزهرةِ أحلامك أن تذبل، ولنجمةِ أحلامك أن تنطفئ.

لكنَّك تزيد ألقًا وبهاءً وطفولة.

 

يغمرك الأملُ بعد حين.. تتضاعف في قلبك الطفولة، وتتفتَّح زهرة الروح؛ لتجد الصداقة من جديد... تسعى لها.. القلوبُ الطيِّبةُ حولك تولد وتتوهَّج... يضيء نجمك من جديد... يلمع مكرهم في الأفق.. فأنت ما زلت حيًّا.. كيف حصل هذا؟! لا بد من أنهم نسوا أن يسلبوك آخِرَ الأنفاس.... يُصرَعون، يُجَنُّ جنونهم، يأبَون إلا أن يُجهِزوا عليك... وأنت صامد أبدًا.

ستراهم يتملَّقونك حينًا، ويهجرونك حينًا آخر، ويُراؤونك مراتٍ ومراتٍ... وهم أبدًا ملتفُّون حولك، يحيطون بك كالسور؛ لينبشوا كلَّ ما فيك، ويحرسوا من حولكَ وما في أعماقك بمكرٍ وتطفُّلٍ وفضول.

 

تبقى تحبُّهم.. تدعو لهم بالشفاء وحسن العاقبة والطوايا.. تدعو لهم بأن يتغمَّدهم الله برحمته، ويَكْلَأَهم برعايته، ويلهيَهم بمن يحبهم ويحبُّونه.

هم المرْضى، فلا تحزن، أشفق عليهم وتمنَّ لهم أن يجدوا طفولتهم الضالَّة.. تمنَّ لهم أن يجدوها لا إراديًّا بعد أن فقدوها بملء إرادتهم... تمنَّ لهم الراحةَ والسكينةَ والسلام، الذي تعبوا من كثرةِ الكلام عنه وما عاشوه مرَّةً واحدة! تمنَّ لهم الخير، وادعُ لهم بأن يتمنَّوُا الخيرَ للغير؛ لكي يأتيهم الخير من حيث لم يحتسبوا.

? ? ?

 

هذه ليست مجرَّد كلمات.. هذهِ أحزانٌ خطَّتها يدُ الألم على سطحِ دفتر.

هذه جراحٌ تخضَّبت بالدماء، وأُغلقت على صمتها المطبقِ؛ علَّها تتكسَّر.

هذه عَبراتُ طفلة غادرت يومًا أرضَ الحلم.. لكنَّ الحلمَ ما زال أبدًا في خافقِها يتدثَّرُ.


"
شارك المقالة:
29 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook