فتح مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
 فتح مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

 فتح مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 
أخلَّت زعامة مكة المكرمة بشروط صلح الحديبية عندما أعانت بني الديل البكريين الكنانيين على خزاعة حلفاء المسلمين، لهذا جاء وفد منهم إلى المدينة المنورة يطلب النصرة  .  عدَّت الدولة الإسلامية تلك الخطوة القرشية نقضًا للمعاهدة المذكورة، فشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعداد حملة عسكرية بهدف فتح مكة المكرمة وإنهاء دور الزعامة والوجود الوثني على الأرض المكية. وسوف نتجاوز تلك التفصيلات الواسعة عن الحملة ومكوناتها ومسيرها وما مرَّت به من مواقف وأحداث مما هو مفصل في مصادر السيرة النبوية ومراجعها إلى النتائج التي حققتها تلك الحملة الإسلامية السائرة نحو مكة المكرمة التي أحيطت بالسرية والكتمان
 
أسلم أبو سفيان والجيش الإسلامي يطرق أبواب مكة المكرمة في رمضان من العام الثامن، ورجع ذلك الزعيم إلى أهل مكة المكرمة ليخاطبهم علانية داعيًا إياهم إلى عدم المقاومة وإلى إلقاء السلاح، وانهارت بعض فلول المشركين التي حاولت مقاومة بعض كتائب الجيش الإسلامي في الخندمة، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحًا منصورًا مستهلاً عهدًا مكيًا جديدًا له معالمه وسماته، وقد نتج من هذا الفتح متغيرات جذرية في الحياة الدينية والسياسية في مكة المكرمة ومحيطها القبلي، وعند القبائل العربية التي فتحت أعينها لترى سقوط الأصنام ولترى مكة المكرمة تلتحق بالمدينة النبوية، ما هز مسلماتها وحفزها على الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهية بذلك موقف الانتظار والتربص. وفي داخل مكة المكرمة انتهى عهد الوثنية وزال سلطانها العسكري والسياسي، وسط جو حوفظ فيه على كرامة قريش وُعظِّمت فيه الكعبة المشرفة، وأبرز تكريم لها تحطيم ما حولها من الأصنام التي قدسها المشركون  ،  إذ كانت مجاورتها للكعبة وعبادتها هناك تدنيسًا للمكان وإساءة للكعبة ذاتها باعتبارها رمزًا للتوحيد ومثابة لعبادة الله ومَعْلَمًا يرتبط تاريخه بإبراهيم عليه السلام الداعي إلى التوحيد الخالص
 
لقد انتهج النبي صلى الله عليه وسلم العفو والتسامح مع أعداء الأمس إلا مع أناس بالغوا في الإيذاء وهم قلة، بل إنه صلى الله عليه وسلم منح بعض القادة السابقين ممن أسلم عام الفتح أموالاً من غنائم حنين لتأليف قلوبهم  ،  ثم عمل صلى الله عليه وسلم على استقطاب الكفاءات القرشية التي أسلمت حديثًا وأسند إليها بعض المهام  .  وكل هذه الإجراءات تتساوق مع ما يُعَدّ لقريش من دور محوري في قيادة الأمة المسلمة. وأبقى النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة المشرفة وسدانتها في بني عبدالدار، إذ دفــع المفتاح   لعثمان بن طلحة لتظل سدانة البيت في هذا البطن القرشي على مدى الأزمنة والعصور. وثمة إجراءات وخطوات جاءت بعد الفتح استهدفت ضبط الأوضاع داخل مكة المكرمة ورعاية المجتمع المكي في مرحلة التحول والاندماج بأمة الإسلام، ومن ذلك بيعة الناس على الإسلام فقد جاءه الصغير والكبير والرجال والنساء فبايعوه تلك البيعة، وهناك الخُطب التي ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم والأحكام التي قضى بها، فقد أعلن إلغاء رسوم الجاهلية ونظمها إلا سدانة البيت وسقاية الحجيج  .  ولضبط المجتمع المكي ورعايته أمنيًا وثقافيًا، عين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً من صحابته في بعض المهام والأعمال فاستعمل على سوق مكة المكرمة حين افتتحها سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية  ،  واستخلف صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن سعد - هبيرة بن شبل بن العجلان الثقفي على مكة المكرمة لما خرج إلى الطائف، ولما رجع وأراد الخروج إلى المدينة المنورة استعمل عَتّاب بن أسيد على مكة المكرمة والحج  .  ويفهم مما يذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عتابًا على مكة المكرمة حين خرج إلى حنين أميرًا وكذلك حين انصرف راجعًا إلى المدينة المنورة
 
ويظهر أن هبيرة بن شبل تولى مسؤولية الصلاة بمكة المكرمة لفترة، ثم تولاها بعد ذلك الأمير العام وهو عتاب بن أسيد  .  كذلك أوكل النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل مهمة نشر الفقه بين أهل مكة المكرمة وتعليم القرآن الكريم  .  ولم يكن في خطة المسلمين أن يبقى جزء من المهاجرين - من أولي السبق إلى الإسلام - في مكة المكرمة بعد الفتح، فقد حاز المهاجرون شرف الهجرة التي انقطعت بفتح مكة المكرمة، وأصبح بقاء هؤلاء المهاجرين بقصد الإقامة والاستيطان مما لا يحل. وقد جاء في الحديث تحديد ثلاثة أيام مدة لسكن مكة المكرمة ممن قصدها بحج أو عمرة كما في حديث العلاء بن الحضرمي: (ثلاث للمهاجر بعد الصدور)  .  وقد ورد في بعض المصادر أنه لم يرجع أحد من أهل مكة المكرمة من السابقين للإسلام وأهل بدر إلى مكة المكرمة بقصد الإقامة إلا أبا سبرة بن أبي رهم وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
 

نشر الإسلام ومواجهة هوازن

 
بعث النبي صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة المكرمة تدعو إلى الله، وقد كان من أبرز القبائل المجاورة لمكة المكرمة في تلك الفترة خزاعة ومن مراكزها ماء الوتير ومَرّ الظهران  ،  وهذيل، وكان لها صنم (سواع)   في رهاط، وهناك القبائل الكنانية المنتشرة حول مكة المكرمة وتمتد ديارها من وادي الصفراء وينبع شمالاً حتى جنوب مكة المكرمة وبلدة حلي  .  وأرسل صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى نخلة وبها العزى فهدم البيت الذي كان عندها، وقطع الأشجار المعظمة عند العرب، كما أرسل عمرو بن العاص إلى سواع صنم هذيل فهدمه، وأرسل سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة بالمُشَلَّل في وادي قديد فهدمها  .  هذه الإجراءات بالإضافة إلى فتح مكة المكرمة، عرّت الوثنية أمام تلك القبائل التي كانت تمارس تقديس الأصنام والأوثان بسذاجة بالغة، وتبين لها الحق الذي حاولت زعامة مكة المكرمة بدعامتها وأباطيلها حجبه عن أولئك القوم البداة
 
وبعد فتح مكة المكرمة أخذت قبيلتا هوازن وثقيف المستقرتان في الطائف في الاستعداد لمحاربة المسلمين، فقد عزمتا على مواجهتهم قبل أن يهاجموهما، إذ كانوا يخشون أن يتجه المسلمون إلى الطائف بعد مكة المكرمة  .  قاد هوازن مالك بن عوف النصري حيث نـزل بأوطاس واقتضت خطته أن تحمل هوازن معها الأموال والأبناء والنساء ليكون ذلك أدعى للثبات وعدم الفرار على الرغم من معارضة دريد بن الصمة لذلك باعتبار أنه لا يرد المنهزمَ شيء  .  خرج المسلمون من مكة المكرمة للقاء أولئك المحتشدين، وفي حنين على بعد 36كم شرق المسجد الحرام - ويعرف اليوم بوادي الشرائع   - تواجه الجيشان، إذ سبقت هوازن إلى حنين وكمَّنوا فيه، وأمام هول المفاجأة انهزم جزء من الجيش الإسلامي في حين ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فئة قليلة من أصحابه حتى تجمع المسلمون حوله، وقاتلوا هوازن ببسالة حتى حلت الهزيمة بها   وتعقب المنهزمين في نخلة وأوطاس، ووقعت خسائر ثقيلة في صفوف هوازن. وبعد أن أبقيت الغنائم في الجعرانة اتجه جيش المسلمين إلى الطائف، إذ تحصنت ثقيف بها وأغلقت أبواب المدينة، واستعدت للدفاع عنها
 
يحدد ابن إسحاق طريق النبي صلى الله عليه وسلم نحو الطائف، فيذكر أنه صلى الله عليه وسلم سلك نخلة اليمانية ثم قرن ثم المليح ثم بحرة الرغاء من لية، ثم سلك طريق الضيقة ثم عسكر عند المسجد (مسجد عبدالله بن عباس)، وهذا الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم   هو الطريق القديم الذي يدخل إلى الطائف من ناحية الجنوب
 
صمدت ثقيف في حصونها، ولم يتمكن المسلمون من دخول الطائف. قال ابن كثير: كانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذٍ لئلا يستأصلوا قتلاً  .  وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا من الطائف بعد حصار دام بضع عشرة ليلة وقيل خمس عشرة  ،  وقيل غير ذلك  .  وقد سأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أثناء حصار الطائف أن يدعو الله على ثقيف فدعا صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم اهد ثقيفًا وآت بهم"
 
وبعد الرجوع من الطائف قسمت غنائم حنين في الجعرانة، ووزعت على المهاجرين ومسلمي الفتح وبعض رؤساء القبائل بشكل خفيت فيه الحكمة وراء هذا التوزيع عن الأنصار رضي الله عنهم، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يعطي هؤلاء ليتألفهم وأنه يكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء
 
بعد ذلك قدم وفد هوازن يعلن إسلامه فرد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الأبناء والذرية وسائر السبي. وما لبث أن جاءه مالك بن عوف قائد هوازن معلنًا إسلامه، فاستعمله على من أسلم من قومه وأعطاه مئة من الإبل
 
وبعد هذه الأنشطة والأعمال في مكة المكرمة والطائف وآخرها عمرة النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في ذي القعدة سنة 8هـ / 630م، عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة في نهاية ذي القعدة من السنة نفسها
 
أخذ الإسلام ينتشر بين القبائل المحيطة بالطائف ذاتها، بل اعتنق الإسلام أحد زعماء الطائف وهو عروة بن مسعود الثقفي، وأخذ يدعو قومه للإسلام، فرُمي بسهم فقتل ودفن مع شهداء المسلمين في حصار الطائف  .  وفي رمضان من العام التاسع قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وقد سألوه أن يترك لهم اللات بعد إسلامهم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعها، وكانوا قد سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبقيها ثلاث سنوات فأبى، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم ذلك، حتى سألوا شهرًا واحدًا فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يكرهون أن يُرَوِّعوا قومهم بهدمها. وأرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ليهدما اللات، وأمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن الكريم 
وبهدم اللات زال رمز وثني معظّم عند العرب ظل يعبد من دون الله زمنًا طويلاً، وكان كثير من الأهالي يعتقد قدسيته حتى وهو يهدم
لكن رؤية هذا الصنم يتهاوى أزال ما ترسخ في الذهنيات البسيطة من عظم هذا الصنم واعتقاد نفعه. وتبع إسلام الوفد الثقفي وتأمير عثمان بن أبي العاص الثقفي على الطائف انتشار الإسلام والتفقه في الدين في ديار ثقيف وهوازن لتصبح تلك القبائل جزءًا من كيان أمة الإسلام يتفاعل مع رسالتها ويستجيب عن قناعة ويقين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
 

 الحج بعد الفتح

 
بعد فتح مكة المكرمة زالت الأصنام والأوثان من محيط الكعبة المشرفة وما حولها، لكن استمر توافد المشركين العرب على مكة المكرمة للحج والتجارة. وقد حج عَتّاب بن أسيد بالناس في سنة 8هـ / 630م وحج المشركون على ما كانوا عليه  .  وفي العام التاسع حج أبوبكر رضي الله عنه بالناس ونـزلت سورة التوبة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليعلن على الناس يوم النحر في الموسم ما ورد في صدرها من البراءة من المشركين، ويعلن منع أولئك المشركين من الحج بعد هذا العام، ومنع طقوس الحج التي كان يمارسها بعض العرب ومنها طوافهم عراة  .  وبعد ذلك أصبحت مكة المكرمة حرمًا إسلاميًا خالصًا مبرًا من طقوس المشركين وعاداتهم. وفي العام العاشر حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع بعد خلوص موسم الحج من المشركين. ويفهم من بعض الروايات في التفسير أن ما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحج في العام التاسع هو حج المشركين وطوافهم عراة وما يصحب ذلك من طقوس شركية لم ينـزل الله بها من سلطان
 
كذلك عادت مواقيت الحج الزمانية إلى وضعها الطبيعي في سنة حجة الوداع بعد أن مرت بدورة من التأخير والإنساء، ففي هذه السنة استدار الزمان كهيئة يوم خَلَقَ الله السماوات والأرض، فأصبحت تلك المواقيت الزمانية (ومنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق) جارية في زمانها الحقيقي  ،  وكان من أسباب تأجيل حج الرسول صلى الله عليه وسلم حتى حجته 10هـ / 632م إخراج الكفار الحج عن وقته
 
حج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة (العام العاشر) مبينًا لأمته مناسك الحج، وأوصى الأمة بوصايا عظيمة حملت المبادئ الأساسية للإسلام، وقد استمع لهذا البيان وتلك الوصايا أعداد كبيرة من المسلمين كانوا قد حَجّوا هذه الحجة العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  .  جاء في صحيح مسلم أنه لما أُذِّنَ في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الحج، قدم المدينة المنورة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم  ،  فرسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الحج وشعائره الصحيحة ليمضي قطار هذه العبادة الفريدة في كل موسم على هذه الكيفية وهذه السنن. كما بين صلى الله عليه وسلم كثيرًا من معالم الدين وأحكامه في خطبته التي ألقاها في أثناء أداء مناسك الحج في يوم عرفة، وأبلغ الأمة من خلالها كثيرًا من الأحكام والتشريعات التي تمثل بلوغ الخطاب التشريعي الإسلامي ذروة الاكتمال، التي نـزلت في حجة الوداع عند كثير من المفسرين. قال ابن كثير: الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها نـزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة  .  وهكذا كما شهدت أرض مكة المكرمة بدء نـزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهدت الأرض نفسها خلال حجة الوداع أو البلاغ   وصول الوظيفة النبوية الإبلاغية إلى دائرة الاكتمال
 
شارك المقالة:
40 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook