فترة حكم محمد علي باشا في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
فترة حكم محمد علي باشا في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية

فترة حكم محمد علي باشا في منطقة الباحة في المملكة العربية السعودية.

 
كان الأشراف في الحجاز يمثلون السلطان العثماني في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إلا أن هذا الوضع لم يعد قائمًا بعد أن استولى السعوديون عليها ودخل الأشراف تحت طاعتهم، فامتعض العثمانيون من هذا الوضع، وتأكد لديهم أن الدعوة السلفية لم تعد حركة دينية فحسب، وإنما أصبحت دولة قوية تهدد مركز السلطان الديني والسياسي في العالم الإسلامي، ورأى الباب العالي الاستعانة في بادئ الأمر بوالي العراق ثم بوالي الشام لمحاربة هذه الدولة والقضاء عليها، لكن ولاتها هؤلاء فشلوا في القيام بأي عمل من شأنه القضاء على خطر هذه الدولة فلم يكن أمامها سوى الاعتماد على واليها القوي في مصر (محمد علي باشا) لإنجاز هذه المهمة وصدر التكليف الرسمي له بذلك في شوال 1222هـ / 1807م  
وبعد تسويف ومماطلة من محمد علي بدعوى حاجته إلى تزويده بالمال والسلاح من الدولة بدأ حملته الأولى التي غادرت السويس في طريقها إلى ينبع في رجب 1226هـ / 1811م بقيادة ابنه أحمد طوسون بن محمد علي باشا، وعلى الرّغم من الهزيمة النكراء التي تلقاها طوسون باشا على يد السعوديين في وادي الصفراء وتراجعه على أثرها إلى ينبع إلا أنه نتيجة للإمدادات الكبيرة والمتتالية التي تلقاها من والده تمكن بعد ذلك من احتلال المدينة المنورة ثم جدة ثمّ مكة المكرمة في عام 1228هـ / 1813م بعد أن انسحبت القوات السعودية إلى الطائف ومنها إلى داخل الأراضي النجدية، ونتيجة للمقاومة الكبيرة التي أبداها أنصار الدولة في جنوب الطائف ضد حملات طوسون، جاء محمد علي إلى الحجاز للإشراف بنفسه على تلك الحملات، وبوصوله إلى هناك يبدأ الدور الثاني في مسيرة حروبه في شبه الجزيرة العربية، ولعلنا نلاحظ أنه في عهد حملات طوسون السابقة لم يحدث أيُّ احتكاك عسكري بينه وبين المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة، بعكس الفترة اللاحقة حيث تظهر جليًا طموحات والي مصر وتطلعاته إليها  
 
ومنذ وصوله قام محمد علي في أول إجراء يتخذه هناك بالقبض على الشريف غالب بن مساعد حيث رأى أن بقاءه في الإمارة يحول دون ترسيخ نفوذه ونفوذ الدولة العثمانية في المنطقة، الدائم في الولاء بين الجانبين السعودي والعثماني وقام بإرساله وأبنائه إلى مصر ومنها إلى تركيا، ونصب مكانه الشريف يحيى بن سرور  ،  وقد رأى محمد علي بثاقب نظره خطورة المنطقة الجنوبية على وضع جيشه المعسكر بالحجاز، وأن من أهم أسباب خسائره المتتالية في حروبه ضد السعوديين هو الدعم غير المحدود الذي يقدمه أنصار الدولة السعودية من أهالي تلك المناطق، لذلك قام الباشا بتوزيع قواته الموجودة في الحجاز على عدد من الجبهات لتطويق أتباع الدولة السعودية من الشمال والجنوب وإشغال الباقين عن المساعدة والدعم لها. 
 
أ - اتجاه حملات محمد علي باشا نحو بلاد غامد وزهران:
 
أدرك محمد علي باشا أن كل محاولاته للعبور إلى جنوب الحجاز وعسير من طريق ساحل تهامة والقنفذة لن تُجدي نفعًا، لذلك قام بتعديل خطته التي اقتضت الاتجاه إلى الطريق الآخر وهو طريق السراة، فأرسل قوة كبيرة بقيادة عابدين بك تتحرك نحو بلاد زهران لمواجهة القوات السعودية التي تتحصن هناك تحت قيادة طامي بن شعيب العسيري وبخروش بن علاس الزهراني، وفي بداية المعركة استطاع عابدين بك تطويق السعوديين من أهالي تلك المناطق في حصن أميرهم (بخروش بن علاس الزهراني) إلا أن القوات السعودية تمكنت من فك هذا الحصار وبادرته بالهجوم المضاد الذي اضطرت معه قوات محمد علي إلى الانسحاب بسرعة إلى مواقعها، فتعقبها السعوديون حتى الطائف التي حاصروها فترة من الوقت، وعند ذلك أسرع محمد علي عند سماعه الخبر إلى نجدة قواته المحاصرة وتمكن بقواته الكبيرة وبحيلة ماكرة من فك هذا الحصار المضروب حولها، وبذلك أبعد السعوديين عن الطائف  
 
وفي أعقاب هذه الحملة الخاسرة ركز محمد علي خططه الحربية على أن يقود بنفسه المعركة المقبلة ضد السعوديين، فزحف بقواته نحو منطقة (بسل) جنوب الطائف حيث جرت الوقعة المشهورة بينه وبين القوات السعودية بقيادة الأمير فيصل بن سعود، ذلك أن فيصل - كما يقول ابن بشر - سار من نجد إلى الحجاز، ونـزل تربة، واستنفر رعاياه الحجازيين والتهاميين. فقدم طامي بن شعيب في عسير وألمع ومن دونه من زهران وغامد في نحو عشرين ألف مقاتل واجتمعت الجموع كلها وساروا إلى الترك في بسل المذكور  ،  فجرت بين الطرفين في المحرم 1230هـ / يناير 1815م معركة حاسمة عدّها بعضهم - فيما بعد - من أهم المعارك الفاصلة في تاريخ حملات محمد علي باشا على شبه الجزيرة العربية، وقد استطاع محمد علي فيها تحقيق نصر كبير على القوات السعودية التي تفرقت بمن بقي من جموعها لا تلوي على شيء، واكتفت بعد هذه المعركة باتخاذ موقف الدفاع عن نجد موطن الدولة الأصلي، على عكس قوات محمد علي التي توالت انتصاراتها في تربة التي أصبحت فيما بعد معسكرًا عامًا لقوات محمد علي بدلاً من الطائف  
 
بعد ذلك أراد الباشا إراحة قواته بعض الوقت ولجمع المزيد من الجيوش للمرحلة المقبلة من حروبه للزحف نحو نجد، لكن في تلك الأثناء وصلته أوامر السلطان العثماني تحثه على معاودة قتال قبائل جنوب الحجاز الموالية للدولة السعودية للتخلص منهم أولاً، وأن ذلك يأتي في المقام الأول لإنجاح مهمته نحو الدرعية. وبعدئذٍ توجه محمد علي بجيشه نحو الجنوب فانطلق من تربة إلى بيشة وما جاورها، ومن هناك أرسل قوة باتجاه بلاد زهران لمحاصرة بخروش وقومه، وعندما وصلت قوات الباشا إلى قصر بخروش حاصرته أسبوعًا ولم تظفر بشيء ودارت المعركة في وادي قريش بالأطاولة ببلاد زهران، وكان النصر فيها بداية لجيش بخروش، إلا أن محمد علي أمر جنوده بتفجير الألغام في القلعة المذكورة من كل ناحية ما اضطر معه رجال زهران إلى الخروج منها طالبين الأمان لهم ولأميرهم بخروش الذي خرج من القلعة وحبس، إلا أنه تمكن ليلاً من الهرب من سجنه وقتل عددًا من الجنود، فهجم عليه جنود الباشا من كل ناحية وتكاثروا عليه وأسروه، ثم قتلوه قرب القنفذة وأرسل رأسه مقطوعًا إلى مصر، ثم إلى إستانبول في العام نفسه مع القائد العسيري طامي بن شعيب الذي أسر هو أيضًا فيما بعد، وبذلك تم لمحمد علي باشا الاستيلاء على زهران بالقوة، وأمر بتدمير قلعتها الحصينة  .  ثم تابع محمد علي سيره من هناك قاصدًا بيشة، وفي أثناء الطريق اعترضه أميرها ابن شكبان بجموع من القبائل وبعد قتال عنيف تمكن جنود الباشا من إلحاق الهزيمة بهم ودخلوا بيشة وقاموا بتخريب القلاع الموجودة بها، ثم عرج الباشا على مناطق بلقرن وشمران حيث لم تستطع قواتهم مقاومة جنود محمد علي والتحمت معهم في عدد من المعارك انتهت بسقوط شيخهم ابن شعلان في المعركة مع عدد من رجاله  
 
وقد واصل محمد علي زحفه على بلاد عسير، وهناك تقابل مع أميرها طامي بن شعيب الذي جمع معه عددًا من رجال القبائل فحصلت بين الطرفين معارك عدة كانت الغلبة فيها أخيرًا لجيوش الباشا، وفرَّ طامي بن شعيب ونـزل من السراة منحدرًا نحو تهامة، ولكنه سرعان ما تم القبض عليه وتسليمه للباشا، وأرسل مقيدًا إلى ميناء القنفذة مع رأس بخروش - كما ذكرنا - ومن هناك أبحر به رجال محمد علي إلى مصر ومنها إلى الأستانة حيث ضرب عنقه، وكان ذلك عام 1232هـ / 1816م  .  وبذلك يكون محمد علي باشا قد تخلص من أعظم أركان المقاومة السعودية في منطقة الجنوب، وانتهى تقريبًا من السيطرة على الجناح الجنوبي القوي للدولة ليتفرغ للميدان الشمالي والشرقي باتجاه الدرعية عاصمة الدولة السعودية، وهو الجزء الذي تكفل بإتمامه ابنه إبراهيم باشا الذي أسقط الدولة السعودية الأولى ودمر الدرعية عام 1233هـ / 1818م. وبهذا تم للدولة العثمانية القضاء على هذه الدولة بوساطة واليها على مصر محمد علي باشا.
 
ب - الوضع في المنطقة في عهد محمد علي:
 
بعد النجاح الذي حققه إبراهيم باشا في الاستيلاء على الدرعية عاصمة الدولة السعودية في نجد وفي طريقه للعودة إلى مصر توقف بعض الوقت في الحجاز للاطمئنان على الوضع هناك، وهنا وصلته الأوامر من مصر بأن يعمل على الانتقام من قبائل المنطقة الجنوبية للحجاز لما قاموا به من حركات تمرد وعصيان لمؤازرة السعوديين رغم حملات الباشا المتكررة عليهم، لذلك قام إبراهيم باشا بالتجهيز الكامل للحملة وتعيين الشريف محمد بن عون قائدًا عامًا لها، فتوجه الأخير بحملته جنوبًا عن طريق السراة فدخل بلاد غامد وزهران، ثم اتجه إلى عسير وهناك انضم إليه في أثناء زحفه في تلك المناطق الجبلية بعض قبائل غامد وزهران ومعظم قبائل رجال الحجر، وقد تمكنت الحملة من الوصول إلى منطقة شعار عام 1234هـ / 1819م  ،  وعندما سمع أهل عسير بسير هذه الحملة الضخمة كونوا ثلاث جبهات دفاعية بقيادة كلٍ من محمد بن أحمد المتحمي أمير عسير وسعيد بن مسلط ومعه حسن بن خالد الحازمي وزير الشريف حمود أبي مسمار أمير أبي عريش ثم وزير ابنه الشريف أحمد بن حمود أبي مسمار، وكان أهل عسير كافة قد بايعوه بعد وفاة الشريف أبي مسمار وصار القائد العام للمقاومة. واشتبكت تلك القوات في حرب طاحنة استغرقت عددًا من الأيام أسفرت عن انتصار قوات الشريف التي تمكنت من هزيمة الأمير محمد المتحمي وإلقاء القبض عليه مع بعض أفراد أسرته في سراة عسير  ،  وبذلك نجح الشريف في إخضاع عسير، وعسكر بقواته في طبب مركز الإمارة بها.
 
لم يمض وقت طويل حتى خرج الأمير سعيد بن مسلط في عسير بمن معه، وانقضَّ على الحامية التركية في طبب، وتسَلم مقاليد الأمور في المنطقة في مطلع عام 1236هـ / 1820م لتبدأ بعدها ثورات أخرى متلاحقة شهدها هذا الإقليم ضد قوات محمد علي. وقام والي الحجاز أحمد باشا ومعه الشريف محمد بن عون بعدة حملات على عسير سلك بعضها طريق بلاد غامد وزهران - التي كانت وقتها تتبع الحكم العثماني المصري في الحجاز - لكنها أخفقت في نهاية المطاف ودخل الأمير سعيد بن مسلط بلاد غامد وزهران على رأس قوة كبيرة فضمها إليه وتوالت أخبار انتصاراته، وانضم إليه كثير من المناطق الجنوبية  ،  واستمرت محاولات الباشا والي الحجاز لاستعادة الوضع هناك، فأرسل الشريف منصور بن يحيى بن سرور وعينَّه على غامد وزهران والشريف محمد بن عون على بيشة، لكن هذه المحاولات لا تعني أن محمد علي لم يستخدم الطرق الدبلوماسية في تلك الفترة لثني أهل المنطقة عن ثورتهم وعصيانهم لتجنيب جنده ويلات الحروب والدمار، وكذلك لكي يتفرغ لحروبه الخارجية المكلف بها من قِبل الدولة العثمانية، فقام قواده بتهدئة الوضع هناك حتى أواخر عام 1238هـ / 1823م حيث كانت الجيوش المصرية النظامية الجديدة - التي أعدها الباشا بنفسه في مصر - تتحرك من مصر متجهة إلى الحجاز لأول مرة لتأديب أهالي منطقة جنوب شبه الجزيرة  
 
واستمرت منطقة غامد وزهران تتأرجح في تبعيتها بين ولاية الباشا في الحجاز وبين النفوذ العسيري في أبها حتى تم الصلح بين طرفي النـزاع عام 1239هـ / 1823م وبموجبه انسحب جيش الشريف محمد بن عون من عسير إلى الحجاز. بعدها توفي سعيد بن مسلط وتولى ابن عمه علي بن مجثل الإمارة في عسير عام 1242هـ / 1826م، وقد كان من ضمن الأسباب الرئيسة لثورات هذه المناطق تصرفات جامعي الزكاة المرسلين من قِبل محمد علي إلى المنطقة، إذ إن محمد علي كان يبعث بالخطابات إلى أمراء المناطق المعينين من قبله يحثهم سنويًا على جمع الزكاة لحاجته إليها أولاً، ولأنها تدل على تبعية هذه المناطق لحكمه، فكانت تؤخذ من غامد وزهران والقنفذة والليث وخليص وتربة وبيشة وبلقرن ومعظم قبائل عسير  ،  وكان ولاة المنطقة يتصرفون في جمع الزكاة وتدبير الأمور بكثير من الإجحاف، بل إن محمد علي نفسه كان يستحل جمعها ويسميها (الضريبة) فتراه يقول في رسائله إلى محافظ مكة أحمد باشا: "هذه المبالغ المحصلة وإن كانت تعرف في عرف القبائل والأعراب بالزكاة ولكنها لدى الحكام نوع من الضرائب تفرض حسب اللزوم تارة طبقًا للعادة، وأخرى طبقًا لما تقتضيه مصلحة الحكومة"  
 
وفي عام 1253هـ / 1837م قامت قبائل غامد وزهران بثورة كبيرة على الحامية التركية هناك، وكان غياب أمير مكة الشريف محمد بن عون في مصر قد شجعهم على ذلك، كما أتاح الفرصة أيضًا لأمير عسير عائض بن مرعي ليتقدم على رأس جيش كثيف لضمها لإمارته، "فاجتمع له من كبار غامد: عثمان عم عبد العزيز الغامدي، وابن عدنان، وابن جعل، ومن كبار زهران: خرصان وجماعته فعاهدوا عائض.... ويبلغ جيشه نحو عشرة آلاف نسمة.. وقيل إنه يريد (رغدان) "  
 
انـزعج محافظ مكة أحمد باشا من أخبار تلك الثورة بعد أن طردت تلك القبائل في غامد وزهران الشريف منصور بن يحيى بن سرور المعين من قِبل الباشا من المنطقة، وامتدت تلك الثورة إلى بني مالك، وكذلك بني شهر وبني عمرو، وبلقرن، وشمران. وخشية من استفحال الخطر وأن يتعدى ذلك إلى الحجاز أخذ يعد العدة لشن هجوم مضاد ضد القوات المتحالفة في باحة رغدان. يقول أحمد باشا في إحدى رسائله إلى محمد علي في مصر بهذا الخصوص: "لذا يجب علينا أولاً دفع غائلة غامد وزهران التي بدفعها يلزم كل امرئ مكانه لذا فإن الضرورة تقتضي بالبدء بالزحف على هاتين القبيلتين والاستعداد جارٍ للزحف على العقيق ومنها على غامد وزهران"   وفي الخامس عشر من ذي الحجة عام 1253هـ / 1838م وصل أحمد باشا بقواته إلى الباحة وسط غامد ونصب معسكره هناك فتوافد عليه شيوخ القبائل لطلب الأمان خشية بطشه بهم، ماعدا قبيلة دوس من زهران وعلى رأسها ابن رقوش وكذلك عبد العزيز الغامدي الذين أساؤوا إلى الشريف منصور سابقًا فلم يحضروا أول الأمر فكتب إليهم الباشا يهددهم وينذرهم  ،  وتمكن من ضرب الحامية العسيرية المرابطة هناك وأخرجها، وفي العشرين من الشهر نفسه انتقل أحمد باشا بقواته من الباحة إلى مكان قريب منها وهو رهوة البر لمنازلة زهران وأميرهم راشد بن جمعان بن رقوش، ولما علم الأخير بوصول تلك القوات إليه أوفد أخاه يلتمس له الأمان وأن يمهله الباشا إلى الغد حتى ينضم إليهم بجنوده، وقد أعطي الأمان، ولكنه فضل الفرار من قريته ليلاً، فلما علم الباشا بفراره قام بإحراق قريته والقرى التابعة لها، بعدها أخذ باقي مشايخ زهران يتوافدون على الباشا لطلب العفو والأمان، وبذلك استتب له الأمر في عموم منطقة غامد وزهران وتمكن من إرجاعها إلى إمارة مكة  ،  وقام الباشا في هذه الحملة باستئجار عدد كبير من الجمال لضمان مواصلة الحملة هناك على أن يتم تحصيل أجرة تلك الجمال من أهالي تلك المنطقة، كما يذكر الباشا في إحدى رسائله  
 
اكتفى أحمد باشا في هذه المرحلة بتحصين مواقعه في الباحة، ولم يحاول التقدم بقواته تجاه عسير لإدراكه أن المسافة إلى هناك طويلة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لعدم ثقته في قبائل غامد وزهران وما ستقوم به من تمرد بعده وشن الهجمات على مؤخرة الجيش أو قطع طرق الإمدادات، بل سعى لدى الباشا في مصر للحصول على المدفعية التي كانت وقتها هي السلاح الفعال، والحصول على الجمال من القبائل والعربان المجاورة  
 
أما أمير عسير عائض بن مرعي عندما علم بهجوم محافظ مكة على غامد وزهران توجه بقوات كبيرة من عسير وبلاد بللحمر، وبللسمر، وبني شهر، وبني عمرو، ورجال ألمع، وشهران، لمهاجمة قوات محمد علي هناك، ووصل في الحادي عشر من صفر 1254هـ الموافق 1838م إلى بلاد غامد وزهران وعسكر في البُرَيْدة   تجاه معسكر أحمد باشا، وبعد يومين حاول عائض بقواته الاستيلاء على قرية الظفير لكن قوات الباشا الموجودة هناك بادرتهم بالهجوم المضاد فهزمتهم هزيمة ساحقة بفضل ما أوتيت تلك القوات من أسلحة حديثة وفتاكة، وقتل من أتباع عائض عدد كبير وانسحب مع باقي القوات بشكل غير منظم ما جعل أعداءهم يطمعون فيهم، حيث مالوا عليهم سلبًا ونهبًا في المؤن والجمال والخيام، ثم قطعت جيوش الباشا الطريق على بعض من رجال ألمع فوقع كثير منهم في الأسر مع بعض الأسرى من القبائل الأخرى بما معهم من السلاح وقد قدر عددهم بنحو 1056 أسيرًا   أرسلوا عبر القنفذة إلى السجن في جدة، وبقوا هناك حتى أفرج عنهم بموجب الصلح الذي عقد فيما بعد بين الشريف محمد بن عون وأمير عسير عائض بن مرعي عام 1256هـ / 1840م، وقد انسحب عائض ببقية قواته من بلاد غامد وزهران إلى عسير فتحصن في ريدة التابعة لرجال ألمع، وقد انقسمت قبائل غامد وزهران في هذه المعركة "فمال الكثير منهم إلى جانب أهل عسير ما عدا بعض مشايخهم ومنهم: الشيخ صالح بن عدنان، والشيخ جمعان بن قعيد أو ابن قفعي، كذلك أصيب عبد العزيز بن أحمد الغامدي بشظية في رأسه"   وجرح أيضًا عائض بن مرعي في ذراعه اليسرى، كما ورد في بعض رسائل الباشا إلى مصر  ،  ونتيجة لذلك فرض الباشا نكالاً على القبائل التي ناصرت عائض بن مرعي في غامد وزهران ومنها: حوالة، وبلجرشي، وبنو سالم، وبنو كبير، وأهل الرهوة، جزاء على فعلتهم تلك، وكذلك طلب من الأهالي هناك كشوفًا بمحصولاتهم الزراعية لأخذ الزائد منها عن مؤونتهم إذ يقول الباشا في رسالته: "وحيث إن جهة غامد وزهران أعظم ديار الحجاز في المزروعات فقد طلبنا كشفًا بذلك، ومنه صار معلوم مقدار الذي يتحصل منه لأهل الديار"  
 
حاول أحمد باشا محافظ مكة بعد معركة الباحة 1254هـ / 1838م أن يستغل الوضع في عسير لصالحه بإيجاد الفرقة والخلاف في صفوف أتباع عائض بن مرعي خصوصًا بعد أسره معظم رجال ألمع وسجنهم لديه كما مرَّ سابقًا، وكما هو معروف فإن هذه القبيلة تشكل معظم أنصار أمير عسير، ما جعله يتفاوض مع مشايخ رجال ألمع ويراسلهم مباشرة، لكنه كان يدرك صعوبة الأمر لرفض هؤلاء التعاون الكلي معه ضد أمير عسير ماعدا بعض الوعود الوقتية  ،  ولعل الباشا يدرك في الوقت نفسه ضرورة الاستيلاء على عسير بأقصى سرعة ممكنة مع إدراكه بأن تنفيذ ذلك يتطلب الدعم العسكري، وكان يطمع في الحصول على ذلك من مصر عن طريق الحجاز فصدرت أوامر الباشا في مصر إلى قائده خورشيد باشا - الذي غزا نجدًا في فترة الدولة السعودية الثانية، وخلال حكم الإمام فيصل بن تركي - بإرسال مجموعة كبيرة من الجمال تكفي للحملة المزمع زحفها على عسير، ولكن أحمد باشا بقي مترددًا في مهاجمة عائض بن مرعي في معقله (ريده) بعسير، وظل يتنقل بين سبت العلايا وبلاد غامد وزهران والطائف يطالب بما يحتاجه من الإمدادات لعلمه بصعوبة ذلك الأمر  
 
وفي هذه الفترة التاريخية عقد مؤتمر لندن عام 1256هـ / 1840م نتيجة تكاتف الدول الأوروبية مع الدولة العثمانية لتحجيم نفوذ محمد علي باشا وأطماعه التوسعية إثر تمرده على السلطان العثماني، وكان من أهم بنود هذا المؤتمر سحب محمد علي جنوده من شبه الجزيرة العربية  ،  فصدرت الأوامر منه إلى رجاله وجنوده في كل من الحجاز ونجد واليمن بالانسحاب إلى مصر، وقد انتشر خبر رحيل قوات محمد علي فعمت الثورة بين القبائل خصوصًا غامد وزهران وبني شهر وبيشة؛ ما دفعها إلى الاتصال بعائض بن مرعي في عسير، فاضطر ذلك أحمد باشا - الذي كان يتهيأ لترتيب رحيل قواته في تهامة - إلى العودة سريعًا إلى بلاد غامد وزهران لمراقبة تحركات أمير عسير، كما عين الشريف (منصور) أميرًا على غامد وزهران للإمساك بزمام الأمور حتى تتم ترتيبات الرحيل. وفي سبيل ذلك قام بالقبض على مجموعة من مشايخ غامد وزهران ومنهم "جمعان بن راشد بن رقوش، وعبدالعزيز الغامدي، ومحسن بن جعال، وأودعهم السجن"   خوفًا من ثورتهم وضمانًا لعدم ثوران قبائلهم بعد ذلك، لكن ذلك حدث بعد فوات الأوان، إذ إن بعض المراسلات التالية تشير إلى إطلاق سراح هؤلاء المشايخ فيما بعد، فقد حاول أحمد باشا عقد صلح مع تلك القبائل، كما عقد صلحًا كذلك مع أمير عسير حتى يضمن لجنوده انسحابًا مرتبًا ولئلا تتعقبهم القبائل أو تهاجمهم في أثناء العودة منها إلى الحجاز، ولكن الأوامر الصريحة صدرت من محمد علي بسرعة مغادرة قواته الجزيرة العربية وترحيلها عن طريق مينائي ينبع وجدة. وعهد إلى الشريف محمد بن عون بتولي مقاليد الأمور في الحجاز تابعًا للدولة العثمانية. وفي السابع من شعبان 1256هـ الموافق أكتوبر 1840م وصل الشريف محمد بن عون إلى الباحة حيث يعسكر محافظ مكة أحمد باشا مع جيشه لترتيب أمور الانسحاب من هناك، والنـزول من السراة إلى جهة القنفذة لترحيل الجيوش بحرًا إلى مصر، وذلك ما تم فعله في نهاية الشهر المذكور. 
 
شارك المقالة:
625 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook