فرق بين الإبداع والابتداع

الكاتب: المدير -
فرق بين الإبداع والابتداع
"فرق بين الإبداع والابتداع




يقال: أبدع الشَّيء، بمعنى: اخترعه على غير مثالٍ سابق؛ وقد جاء في جمهرة اللغة وتقول الْعَرَب: لست ببدع فِي كَذَا وَكَذَا، أَي: لست بِأوَّل مَن أَصَابَهُ، وأبدع الشاعر، بمعنى: جاء بالبديع (المحسنات البديعية)، قال ابن قطاع الصقلي في كتاب الأفعال: أبدع الرَّجل؛ أتى ببديعٍ مِن قول أو فِعل، وأبدَع اللهُ تعالى الأشياءَ؛ ابتدأ خَلْقها بلا مِثال، وأبدع البعيرُ: كَلَّ وحَسِر؛ انتهى.




• وابتدع الشَّيء، بمعنى: ابتدأه، وتأتي بمعنى: بَدَّل وغَيَّر، ومنها قيل: ابتدَع فلانٌ في الدِّين، بمعنى: بَدَّل في الدِّين وغيَّر وابتدع في شَرع الله ما لم يُسبق إليه، أو فِعْل لم يكن مِن فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم أو على أصلٍ مِن سنَّته.

 

والفعل ابتدع يَشترك مع أبدَع في الأصل المجرَّد الذي هو بَدَعَ، وغلب استعماله على الابتداع في الشَّرع والإحداثِ في الدِّين؛ كما طغى في زماننا استعمالُ الفِعل أبدع على الابتكار والاختراعِ في الأمور الدنيويَّة دون ابتدَع؛ رغم أنَّ الفعل ابتدع يشارِكه في هذا المعنى مِن حيث دلالتُه العامَّة؛ لذا فإنَّه إذا قيل: إنَّ فلانًا ابتدع بِدعةً، فسيتبادر إلى ذِهن السَّامع أنَّها بدعة في الدِّين، وإذا قيل: إنَّ فلانًا أبدع شيئًا، فسيتبادر إلى ذِهن السَّامعِ أنَّه اخترع اختراعًا أو تفنَّن في ابتكار، ولو قيل: ابتدع فلانٌ وتفنَّن في الاختراع مما يُخترع مِن أمور الدنيا لصحَّ ذلك أيضًا.

 

• هذا وإنَّ مما يحزُّ في النَّفس ويطعن سُوَيداء القلب أن يَخلط بعضُ أبناء الإسلام بين الابتداع في الدِّين والإبداع الدنيوي؛ ليَفتحوا بذلك ثغرةً يَدخل منها أعداءُ الرحمن وشياطينُ بني الإنسان للطَّعن في دين الواحد الديَّان؛ فبعضُ متعصِّبي وجهلة المسلمين يَفهمون معنى البِدعة فَهمًا خاطئًا، فتجده ينكر على الناس استعمالَ المكيِّف أو الغسَّالة في المنزل، بدعوى أنَّها لم تكن على عهد نبيِّنا عليه أفضل الصلاة والتسليم!

 

ورغم أنَّهم قلَّة وندرة بين المتديِّنين، فإنَّ أعداء الدِّين يستغلُّون سطحيَّتَهم وسفاهتهم لِلَمْزِ الدِّين والتعميم على المؤمنين.

وذلك الفَهم هو مِن الخَلْط البيِّن والقياس الذي ليس له أصلٌ ولا مقاس؛ فالبدعة تكون في أمور الدِّين لا في أمور الدنيا؛ لذا فمَن زاد شيئًا في دين الله أو سَوَّلتْ له نفسُه أن يضيف قليلًا أو كثيرًا إليه، فقد ابتدع، وأساء وما نفَع، وضلَّ وما اهتدى، وأضاع جهده سدى، فيذم فعله ويستهجن صنيعه وجهله.

 

وأمَّا مَن أبدع للنَّاس شيئًا من أمور الدنيا؛ ليَستعينوا به في حوائجهم وينقصوا به مِن أعباء الحياة عليهم، ويغتنموا به أوقاتهم، ويَحفظوا به صحَّتهم وأموالهم - فيُشكر صنيعُه، ويُمدح فعلُه، ويثاب عليه عند ربِّه إن أخلص النيَّةَ وصفَّى الطويَّة.

 

• وبهذا يتَّضح أنَّ الابتكار والإبداع الدنيوي يُثاب صاحبُه، ما لم يكن مضرًّا للنَّاس مهلكًا لهم، أو مناقضًا لأصلٍ من أصول دين الله القويم وصراطِه المستقيم.

 

• استغلَّ بعضُ أعداء الإسلام من المستشرقين واللَّادينيين والملحِدين وغيرهم فَهْمَ بعض المسلمين الخاطئ لمعنى البِدعة؛ للطَّعن في الإسلام، والسُّخريةِ من المسلمين، وزرع البلابل والشُّبَه في صدور عامَّة المؤمنين، فتجدهم يقولون: إنَّ كلَّ شيء ممنوع في الإسلام، وكل شيء عندهم بدعة؛ لذا لم يتطوَّروا ولم يفلِحوا في دنياهم، وينسبون تخلُّفَ المسلمين إلى الدِّين، فيخدعون بتلك التَّفاهات والسَّخافات ضعافَ النفوس والعقول، ممَّن لا يفرِّقون بين المزابل والحقول، ويوهمونهم بأنَّ التمسُّكَ بالإسلام هو سرُّ تخلُّفهم وذلَّتهم بين الأُمم!

 

ولا يَخفى على العاقل اللَّبيب والمدقِّقِ الأريب أنَّ هذا مِن أعظم الكذب والافتراء، وعين السَّفاهة والغباء، وعكسٌ شائن للحقائق؛ إذ لم يُذلَّ المسلمون إلَّا بعد هوان دينهم عليهم، والإسلام لم يحرِّم الإبداعَ في أمور الدنيا والتفوُّق فيها؛ بل رغَّب في كلِّ نافع، وشجَّع كلَّ عمل فيه خيرٌ ومصلحة للناس؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((خيرُ النَّاس أنفعُهم للنَّاس))، وقال للصَّحابة عن أمور الدنيا: ((أنتم أعلَم بأمور دُنياكم))؛ [رواه مسلم]؛ وذلك لأنَّ الله أرسله برسالة الحقِّ والإسلام لتبيِّن للناس أمورَ دينهم وكيف يَعيشون به وعليه، ويبيِّن لهم ويبلِّغهم عن خالقهم ما سيكونُ مِن أمورٍ غيبيَّة بعد الموتِ ويوم القيامة، ممَّا يستحيل معرفتُه إلَّا عن طريق النبوَّة والرسالة.

 

أمَّا أمور الدُّنيا في العموم فالنَّاس أعلم بها وأقدَر على البحث فيما يَنفعهم ليأتوه وما يضرُّهم فيجتنبوه، ويُستثنى من هذا العموم ما أمَر به المصطفى مِن الأمور المتعلِّقة بالدنيا ممَّا جاء به الكتاب والسنَّةُ المطهَّرة من أمورٍ تنفع الناسَ في دنياهم؛ كالتداوي بالحِجامة والعسَل والإثمد، وغيرها مِن الأمور؛ لأنَّها وإن كانت داخلة في أمور الدنيا، فإنَّ نُصح النبيِّ صلى الله عليه وسلم باستعمالها يدلُّ على نفعها الدنيوي يقينًا؛ ممَّا يَقتضي الاستجابة والتصديق والاستفادة مِن ذلك في التطبيق؛ لأنَّ الوصيَّةَ بها نبعَتْ مِن مِشكاة النبوَّة.

 

• أمَّا قول الأفَّاكين مِن ملاحدةٍ ولادينيِّين بأنَّ الإسلام حرَّم الإبداعَ والتطوير، فهو عكسٌ للحقيقة، ومغالطةٌ عَقيمة، ومحاولة فاشلة لتغطية شمس الحقِّ بغِشاء الباطل؛ فكلُّ مسلمٍ يرى ما حَلَّ بدِين الله من تغييرٍ وتَمييع، أو تشويه وتبديل وابتداع، نتج عنه تفرُّقُ الحال دون التوحُّد والاجتماع، مع عجزٍ في التفكير الدنيوي والإبداع.

 

والعجيب في الأمر هو أنَّ أهل الأهواء والبدع كلَّفوا أنفسَهم وعقولَهم الابتداعَ والتغيير فيما هو كامِلٌ لا يحتاج إلى تبديلٍ مِن يوم أَنزل الله سبحانه في قرآنه ومحكَمِ بيانه: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ? [المائدة: 3]، وعجزوا عن الإبداع والابتكار في أمور الدُّنيا، حتى صار المسلمون مِن أضعف أُمَم الأرض!

 

ولو أنَّهم صرَفوا مجهوداتهم السَّقيمة العَقيمة التي ابتدعوا بها في دين الله، وشغلوا فِكرَهم ووقتَهم ذاك في الابتداع والتفكير والتطوير الدُّنيوي، لكان خيرًا وأحسن تأويلًا، ولاجتمَعتْ كلمةُ المسلمين على الدِّين الصَّافي، كما اكتمل وتمَّ على عهد خير القرون، بعيدًا عن البِدع والخلافات والخرافات، ولرَفعوا رايةَ الحضارة، وكانوا لأُمَم الأرض مشعلًا ومنارة، ولنالوا عزَّة الدنيا والآخرة.


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook