فقه الأولويات في الدعوة إلى الله

الكاتب: المدير -
فقه الأولويات في الدعوة إلى الله
"فقه الأولويات في الدعوة إلى الله




جعل الله سبحانه وتعالى لنجاح الدعوة الإسلامية أمورًا لا بد من مراعاتها، ومن ذلك فقه الأولويات؛ فهو ضرورة شرعية وتعليمية واجتماعية، بل حاجة فطرية وسُنَّة كونية، يلجأ لها كل من تزاحمت الأمور وتكاثرت عليه.

 

فالداعية لا ينجح في دعوته ولا يكون موفقًا في تبليغه، حتى يعرف ماذا يقدم لمن يدعوهم، وماذا يؤخر، وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها.

 

لذا؛ فإن على الدعاة أن يجتهدوا في تأصيل فقه الأولويات وتطبيقاته؛ لأنهم لو فهموا ذلك وطبقوه في مسيرتهم الدعوية، لحصلوا على الثمرة المرجوة من هذه الجهود بدل ضياعها، ولَقارَبوا على الوصول بإذن الله إلى تحقيق الأهداف المرجوة من الدعوة الإسلامية.

 

وفقه الأولويات هو ترتيب العالِم أو الداعية لأوراقه، الأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج، والأنفع للمدعوين فالأنفع، ومن هذا الباب: الدعوة إلى التوحيد قبل العبادات، وإلى الإيمان قبل الأحكام، والخوف من الله قبل النهي عن المحرمات.

 

فليس من مانع إذا رأى الداعية مصلحة في الكلام عن أكثر من أمر، أن يُقدم مهمًّا على أهم في بعض الحالات لمصلحة ظاهرة؛ إذ يترجح المفضول على الفاضل ببعض القيود؛ ولذلك نجد هذا الفقه واضحًا في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم.

 

الفرق بين الأولويات والأوليات:

إن الأولِيَّات هي ما ورد فعلًا في الترتيب الأول من القضايا والمسائل، أما الأَوْلَوِيَّات فهي المسائل الجديرة بأن تكون مُقدَّمة على غيرها في البحث والنظر.

 

التأصيل الشرعي للأولويات في الدعوة:

إن المتتبع لما جاء في القرآن الكريم، ثم ما جاء في السنة المطهرة - يجد أنهما قد وضعا معايير لبيان الأفضل والأَولى والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وفي المقابل وضعا معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بيَّنا تفاوتها عند الله؛ من كبائر، وصغائر، وشبهات، ومكروهات.

 

فالداعية في دعوته يبدأ بالأهم فالمهم فالأقل أهمية؛ والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذِكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا)).

 

قال ابن حجر: أشارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أُنزلت الأحكام.

 

فالداعية يبدأ مع المدعوين بالأصول، فيدعوهم إليها ويُقنعهم بها، فإذا وقرت في قلوبهم واستقرت في نفوسهم وطبقوها في حياتهم - انتقل بهم إلى الفروع فرعًا فرعًا؛ تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا قومه ثلاث عشرة سنة إلى العقائد وبعض العبادات، وهذا يتجلى في وصيته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه؛ فقد روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك، فأخبرهم أن الله عز وجل فرض عليهم خمس صلوات في يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك، فأخبرهم أن الله عز وجل فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك، فاتقِ دعوة المظلوم)).

 

قال ابن حجر في الفتح: بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة.

 

أهمية فقه الأولويات في الدعوة إلى الله تعالى:

إن فقه الأولويات في الدعوة يمنح الداعية بصيرة في دعوته، وتوفيقًا في تصرفاته، ويحفظ عليه وقته وطاقته، ويعطيه رؤية واضحة في المنهج بعامة، وفي الدعوة بخاصة.

 

فمن الضروري جدًّا أن يكون لدى الداعية منهجٌ واضح في فقه الأولويات التي ينبغي للداعية أن يقدمها ويراعيها؛ كي تؤدَّى الدعوة إلى الله على وجهها الصحيح، ولتتناسب وفطر الناس التي فطرهم الله عليها، ولكي يُوفق إلى اختيار الأهم فالأهم إذا ما تزاحمت لديه الأمور، واجتمعت عليه في آنٍ واحد القضايا.

 

فالتقعيد في هذا الباب والفقه فيه، يعطي الداعية تصرفًا سليمًا في المواقف، وترتيبًا لأولويات دعوته، ما يحفظ عليه وقته وجهده، فينتفع وينفع، ويزرع فيثمر، وإلا تخبط في دعوته، فيَضيع ويُضيِّع، ويزرع فلا يثمر.

 

إن فقدان فقه الأولويات يُحدِث خللًا بالغًا في الدعوة، ويوقع كثيرًا من الدعاة في اضطراب في المنهج؛ فتضيع بذلك الأوقات، وتُهدر الطاقات، ويُحدث ذلك أثرًا سلبيًّا، وربما نتائج عكسية في دعوة من فَقَدَ ذلك.

 

أولًا: نماذج من الأولويات المتعلقة بالداعية:

1- إخلاص الداعية في دعوته أولى من العجب والرياء والعمل لحظ النفس؛ قال تعالى: ? أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ? [فاطر: 8].

 

2- الصبر أولى من استعجال النتائج:

الصبر خلق مهم في الدعوة إلى الله عز وجل، فيصبر الداعية على أذى المدعوين، ويتحمل استخفافهم؛ قال تعالى: ? فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ? [الروم: 60]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)).

 

3- الدعوة إلى الله على علم وبصيرة أولى من الدعوة بجهل:

العلم من أعظم المقومات للداعية الناجح؛ ولهذا أمر الله به وأوجبه قبل القول والعمل؛ قال تعالى: ? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ? [محمد: 19]، وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذه الآية بقوله: باب العلم قبل القول والعمل؛ فالله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأمرين: العلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: ? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ?، ثم أعقبه بالعمل في قوله: ? وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ?، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مُقدَّمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يُردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين)).

 

4- الأخذ بالأسباب أولى من التواكل:

قال تعالى: ? وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? [التوبة: 105]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا؛ فكلٌّ ميسر لما خُلِق له)).

 

ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب ولم يتواكل، وأبرز مثال على ذلك هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة؛ فقد أعد للسفر عدته، ثم توجه مع الصديق رضي الله عنه إلى غار ثور، وبقي فيه ثلاثة أيام، ثم سلك مسالك غير مألوفة في الذهاب إلى المدينة المنورة؛ لكي يموِّهَ على المشركين، وهذا يدل دلالة واضحة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بالأسباب مع التوكل على الله سبحانه وتعالى.

 

5- مقابلة الإساءة بالإحسان أولى من الانتصار لحظ النفس:

استجابة لأمر الله تعالى، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحمة بالمدعوين؛ قال تعالى: ? وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? [فصلت: 34]، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم، فقال له ذو الخويصرة: اعدل يا محمد؛ فإن هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ويلك، فمن يعدل إن لم أعدل؟))، وحلم عليه ولم ينتقم منه، وعن أنس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركه أعرابي، فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك وأمر له بعطاء)).

 

ثانيًا: نماذج من الأولويات المتعلقة بالمدعو:

1- البدء بدعوة الأقربين وهو منهج القرآن الكريم:

قال تعالى: ? وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ? [الشعراء: 214]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المُقلِّ، وابدأ بمن تعول)).

 

2- البدء بدعوة المقبلين على الخير:

وهو توجيه الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما أقبل على كفار قريش المعرضين يدعوهم، وترك ابن أم مكتوم الأعمى مع أنه مُقبلٌ عليه؛ قال تعالى: ? عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ? [عبس: 1 - 10].

 

3- معاملة العصاة بالرفق واللين:

قال تعالى لنبييه موسى وهارون عليهما السلام عندما أرسلهما إلى فرعون: ? فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? [طه: 44]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزرموه، ثم دعا بدلو من ماء فصُبَّ عليه))، ولم يَنهره ولم يَزجره، وفي إحدى الروايات أنه وجهه بعد ذلك قائلًا: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)).

 

4- مخاطبة المدعو بما يناسبه وعلى قدر فهمه أولى من طرح ما لا يفهمه:

فعلى الداعية مراعاة حال المدعو ومستواه العقلي، فما يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر، وما يفهمه أحد المدعوين قد لا يفهمه مدعو آخر؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟.

 

وخير قدوة للداعية في هذا المجال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يسأله عدد من الصحابة السؤال نفسه من حيث المعنى، فتختلف إجاباته مراعاةً لحال السائل ومستوى فهمه؛ روي عن عبدالله بن عمرو: ((أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت، وعلى من لم تعرف))، وروي عن عبدالله بن مسعود قال: ((سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني))، وغيرها من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب.

 

قال ابن حجر في الفتح: قال العلماء‏:‏ اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذِكْر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه.

 

ثالثًا: نماذج من الأولويات المتعلقة بموضوع الدعوة:

1- البدء بالأصول قبل الفروع:

وذلك تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو قومه إلى العقيدة الصحيحة وبعض العبادات، حتى إذا استقرت في القلوب، واطمأنت لها النفوس، انتقل إلى العبادات العملية الفرعية.

 

ويُعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ترتيب الأولويات في الدعوة؛ فيوصي معاذ بن جبل - وقد سبق ذكر الوصية - ويأمره بالبدء بالدعوة إلى أصول الإيمان، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، ثم الانتقال إلى ما يتلوها أهمية وهكذا.

 

2- التحذير من البدع:

فالبدعة خطرها على الإسلام والمسلمين أعظم من خطر المعصية؛ لأن البدعة تقدح في العقيدة وتتهمها بالنقصان، والله سبحانه وتعالى أكمل دينه وأتمه وتكفل بحفظه إلى قيام الساعة، كما أن البدعة أحيانًا تكون مدسوسة، فتخفى عن الناس ولا يُنتبَه لها فلا يُنكرون على صاحبها، بينما فعل المعاصي يلفت النظر، ومن ثَمَّ يُنكَر على فاعلها إتيانها.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج، ونهى عن قتال أئمة الظلم، وقال في الذي يشرب الخمر: ((لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)).

 

3- الدعوة إلى الفروض والواجبات له أهمية قبل الدعوة إلى السنن:

ففقه الأولويات يقتضي أن نقدم الواجب على المستحب، وقد دلت الأحاديث على أن الفرائض هي الأساس العملي للدين، وأن من أداها كاملة ولم ينقص منها شيئًا، فقد فُتح أمامه باب الجنة، وإن قصر فيما وراءها من السنن، والمنهج النبوي في التعليم هو التركيز على الأركان والأساسيات لا على الجزئيات والتفصيلات التي لا تتناهى، ولا شك في تفاضل الأعمال الصالحة من حيث الأجر والثواب، ومن حيث درجة طلب الشرع لها، فالفرض أفضل من المندوب.

 

روي أنه ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأله عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)).

 

4- تقديم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله:

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: ((أحيٌّ والداك، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد))؛ قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: هذا كله دليل لعِظَم فضيلة برهما، وأنه آكد من الجهاد.

 

5- أولوية التخفيف والتيسير على التعسير:

فقد دلت النصوص من القرآن والسنة أن التيسير والتخفيف أحب إلى الله ورسوله؛ قال تعالى: ? يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ? [البقرة: 185]، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر - إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعد الناس منه)).

 

رابعًا: نماذج من الأولويات المتعلقة بالأساليب والوسائل:

يراعي الداعية الأولويات فيما يستخدم من وسائل وأساليب في دعوته، فما يؤثر في مدعو قد لا يؤثر في آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تنوع استخدامه للوسائل والأساليب في دعوته، فقدم ما يناسب المدعو والموقف وأخَّر ما لا يناسب.

 

1- استخدام القدوة الحسنة:

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما فرغ من قضية الكتاب يوم الحديبية، قال لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا، فما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا)).

 

2- استخدام التورية والتعريض:

عن عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء، لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟)).

 

3- استخدام الرفق واللين أولى من الغلظة:

كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، ورفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه وقد سبق ذكرها.

 

أبرز أسباب عدم العمل بالأولويات:

1- عدم معرفة الداعية بالأولويات، أو الخطأ في تحديدها بناءً على تجارب سابقة، أو اجتهادات شخصية.

2- استعجال الداعية لنتائج دعوته، وعدم التمهل والتريث في التعامل مع المدعو.

3- عدم الموازنة بين المصالح والمفاسد.

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد: إذا تعارضت المصالح والمفاسد وتزاحمت، فإنه يجب ترجيح الأرجح منها، ويقول أيضًا: فعند اجتماع المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار وتعارضها - يُحتاج إلى الفرقان.

 

أبرز الآثار المترتبة على إهمال العمل بالأولويات:

1- تفويت الأجر:

فإهمال ترتيب الأولويات قد يؤدي إلى الاهتمام بالعمل الأقل أجرًا، وترك العمل الأكثر أجرًا ومن ثَمَّ عدم الحصول على الأجر كاملًا؛ ومما يدل على ذلك في السنة المطهرة ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض بمكة، فقلت: لي مال، أوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير؛ أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم))، فالحديث يقدم حاجة العيال وكفايتهم على التوسع في الإنفاق في سبيل الله.

 

2- عدم فهم الشريعة كما ينبغي:

إن إهمال ترتيب الأولويات قد يؤدي إلى حدوث اضطراب في فهم الشريعة وأحكامها، فقد يقدم المندوب على الفرض، ويقدم الفاضل على المفضول، ويترك المكروهات قبل المحرمات.

 

3- تشتت جهود الأفراد والمؤسسات:

إن ترتيب الأفراد والمؤسسات لأولوياتهم واتفاقهم عليها يساعد في ترسيخ قواعدهم، ونمو جهودهم، ونضوج ثمارهم على خير ما يرام، أما اختلاف تحديد الأولويات فيُشتت الجهود ويجعل الوصول إلى الأهداف بعيدًا.

 

النتائج:

1- على الدعاة الاجتهاد في تأصيل فقه الأولويات وتطبيقاته؛ لتحقيق الأهداف المرجوة من الدعوة الإسلامية.

 

2- مشروعية مراعاة الأولويات في الدعوة، وتأصيل ذلك من القرآن الكريم والسنة المطهرة.

 

3- تقسيم الأولويات إلى: ما يتعلق بالداعية، وما يتعلق بالمدعو، وما يتعلق بموضوع الدعوة، وما يتعلق بالوسائل والأساليب - يساعد على فهم المراد، ويُعين الداعية على ترتيب ما حقه التقديم وما حقه التأخير.

 

4- عدم الموازنة بين المصالح والمفاسد، واستعجال النتائج، من أبرز أسباب ضياع تطبيق فقه الأولويات، وخسارة ثمراته.

 

5- تفويت الأجر وعدم فهم الشريعة على الوجه المطلوب وتشتت جهود الأفراد والمؤسسات هي من أهم الآثار المترتبة على عدم العمل بقاعدة ترتيب الأولويات.

 

أهم المراجع:

• فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني.

• البداية والنهاية، ابن كثير.

• مجموع فتاوى ابن تيمية.

• أصول الدعوة، د. عبدالكريم زيدان.

• الحسبة في الإسلام، لابن تيمية.


"
شارك المقالة:
29 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook