فوائد متنوعة من بعض مصنفات الحافظ ابن رجب

الكاتب: المدير -
فوائد متنوعة من بعض مصنفات الحافظ ابن رجب
"فوائد متنوعة من بعض مصنفات الحافظ ابن رجب

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

 

فالحافظ ابن رجب رحمه الله له الكثير من المؤلفات، حوت الكثير من الفوائد، يسَّر الله الكريم لي فاخترتُ بعضًا منها، وقد ذكرت اسم الكتاب أو الرسالة التي نقلت منها، أسأل الله أن ينفعني والقُرَّاء بها.

 

? كان رجل في زمن الحسن البصري معتزل الناس، فسأله الحسن عن حاله؟ فقال: إني أصبح بين نعمة وذنب، فأحدثُ للنعمة حمدًا، وللذنب استغفارًا، فأنا مشغول بذلك، فقال الحسن: الزم ما أنت عليه، فأنت عندي أفقه من الحسن.




? قال الحسن: لا تملوا من الاستغفار...وأكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم؛ فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.




? قال لقمان لابنه: أي بُنيّ، عوِّد لسانك، اللهم اغفر لي؛ فإن لله ساعات لا يردُّ فيهن سائلًا.

[رسالة: تفسير سورة النصر].




? من قال لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذَّب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصيته الله في طاعة الشيطان والهوى، ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ? [القصص: 50] ? وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ? [ص: 26].




فيا هذا، كن عبد الله لا عبد الهوى؛ فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار.




? قول لا إله إلا الله تقتضي أن لا يحب سواه، فإن الإله هو الذي يطاع، محبة وخوفًا ورجاءً، ومن تمام محبته محبةُ ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شيئًا مما يكرهه الله، أو كره شيئًا مما يحبه الله لم يكمل توحيده، ولا صدقه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه، قال الله تعالى: ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ? [محمد: 28].




? قال الحسن: اعلم أنك لا تحب الله، حتى تحب طاعته.

? سئل ذو النون: متى أُحبُّ ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمرَّ من الصبر.

? قال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادَّعى محبة الله، ولم يحفظ حدوده.

? متى تمكنت المحبة في القلب لم تنبعث الجوارح إلا في طاعة الرب.

? نار جهنم تنطفئ بنور إيمان الموحدين.




? من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحبّ سواه، ولم يرجُ إلا إياه، ولم يخشَ أحدًا إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه.

[رسالة: كلمة الإخلاص وتحقيق معناها].




? الخشوع: هو خشوع القلب، وهو انكساره لله، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هو بين يديه، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعًا لخشوعه.




ومن جملة خشوع الجوارح: خشوع البصر أن يلتفت عن يمينه أو يساره.

وأصل الخشوع: هو لين القلبِ ورقته وسكونه وخشوعه وانكساره وحرقته.

? العلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية والإخبات لله والتواضع والانكسار له.




ما يظهر فيه الخشوعُ والذلُّ والانكسارُ من أفعال الصلاة:

? وضع اليدين إحداهما على الأخرى في حال القيام، وقد رُوي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئل عن المراد بذلك، فقال: هو ذلّ بين يدي عزيز.




قال علي بن محمد المصري الواعظ رحمه الله: ما سمعتُ في العلم بأحسن من هذا.

وملاحظة هذا المعنى في الصلاة يُوجبُ للمصلي أن يتذكَّر وقوفه بين يدي الله عز وجل للحساب.




ومن ذلك: إقباله على الله عز وجل، وعدم التفاته إلى غير ذلك، وهو نوعان:

أحدهما: عدم التفات قلبه إلى غير من هو مناجٍ له، وتفريغُ القلب للرب عز وجل.

والثاني: عدم الالتفات بالبصر يمينًا وشمالًا، وقصر النظر على موضع السجود.




? ومن ذلك: الركوع، وهو ذل بظاهر الجسد.

ولهذا كانت العرب تأنف منه ولا تفعله حتى بايع بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يخرّ إلا قائمًا، يعني: أن يسجد من غير ركوع.




كذا فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى والمحققون من العلماء.




ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقل به قدمي)) إشارة إلى أن خشوعه في ركوعه قد حصل بجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الذي هو ملك الأعضاء والجوارح، فإذا خشع خشعت الجوارح والأعضاء كلُّها تبعًا لخشوعه.




ومن ذلك: السجود وهو أعظم ما يَظهرُ فيه ذلُّ العبد لربه عز وجل؛ حيث جعل العبدُ أشرفَ ما له من الأعضاء وأعزَّها عليه وأعلاها حقيقة؛ أوضعَ ما يُمكنه، فيضعُه في التراب مُتعفِّرًا، ويتبعُ ذلك انكسارُ القلب وتواضعُه وخشوعُه لله عز وجل.




ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقربه الله عز وجل إليه فإن ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم.




? ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذلُّ والخضوع لله عز وجل: الدعاء؛ قال الله عز وجل: ? ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ? [الأعراف: 55]، وقال: ? إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ? [الأنبياء: 90].




? ومن ذلك افتقار القلب في الدعاء وانكساره لله عز وجل، واستشعار الفاقة إليه والحاجة. وفي المسند والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ)).




? ومن ذلك: إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاحُ فيه.

قال الأوزاعي رحمه الله تعالى كان يُقال: أفضلُ الدعاء الإلحاحُ على الله والتضرعُ فيه.

[رسالة: الخشوع في الصلاة].




? قد عُلِمَ أن العبادة إنما تُبنى على ثلاثة أصول: الخوف، والرجاء، والمحبة، وكل منها فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب؛ فلهذا كان السلف يذمُّون من تعبَّد بواحد منها وأهمل الآخرين، فإن بدع الخوارج ومن أشبههم إنما حدثت من التشديد في الخوف والإعراض عن المحبة والرجاء، وبدع المرجئة نشأت من التعلق بالرجاء وحده والإعراض عن الخوف، وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول ممن ينسب إلى التعبد نشأت من إفراد المحبة والإعراض عن الخوف والرجاء.

 

? كثُر في المتأخرين المنتسبين إلى السلوك تجريد الكلام في المحبة وتوسيع القول فيها بما لا يساوي على الحقيقة مثقال ذرة؛ إذ هو عارٍ عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وخالٍ من ذكر كلام من سلف من سلف الأمة وأعيان الأئمة. وإنما هو مجرد دعاوى، قد تُشرِفُ بأصحابها على مهاوي....وكثير ما تقترن دعوى المحبة بالشطح والإدلال وما ينافي العبودية من الأقوال والأفعال.

 

قال إبراهيم بن الجنيد: يُقال: علامة المحبّ على صدق الحب ستُّ خصالٍ:

أحدها: دوام الذكر بقلبه بالسرور لمولاه.

الثانية: إيثارهُ محبة سيده على محبة نفسه ومحبة الخلائق، يبدأ بمحبة مولاه قبل محبة نفسه ومحبة الخلائق.

الثالثة: الأنسُ به والاستثقال لكل قاطع يقطعُ عنه، أو شاغل يشغلُهُ عنه.

الرابعة: الشوق إلى لقائه والنظر إلى وجهه.

الخامسة: الرضا عنه في كل شديد وضرٍّ ينزلُ به.

السادسة: اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

? خير الناس للناس أنفعهم لهم، ولا نفع أعظم من الدعاء إلى التوحيد والطاعة، والنهي عن الشرك والمعصية. سئل الحسن البصري عن رجل له أم فاجرة، فقال: يقيدها، فما وصلها بشيء أعظم من أن يكفها عن معاصي الله تعالى.

 

? من علامات المحبة الصادقة، أن المحب يشتغلُ بما يرضى به حبيبه ومولاه، ويستوي عنده من حمده في ذلك أو لامه.

[كتاب: استنشاق نسيم الأنس].




? كتاب تاريخ البخاري، كتاب جليل لم يسبق إلى مثله رحمه الله ورضي الله عنه، وهو جامع لذلك كله...وللبخاري تصانيف كثيرة، وقد سبق الناس إلى تصنيف الصحيح والتاريخ، والناس بعده تبع له في هذين الكتابين؛ إذ كل من صنف في هذين العلمين يحتاج إلى كتابه.

[كتاب شرح علل الترمذي].




? قال الحسن: تفقدوا الحلاوة في الصلاة، وفي القرآن، وفي الذكر، فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، وإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق.

 

? قال ابن مسعود: لا يسأل أحد عن نفسه غير القرآن، فمن كان يحبُّ القرآن فهو يحبُّ الله ورسوله. قال سهل التستري: علامةُ حبِّ الله، حبُّ القرآن. وقال أبو سعيد الخراز: من أحب الله أحب كلام الله، ولم يشبع تلاوته.

 

? اعلم أن سماع الأغاني يضادُّ سماع القرآن، من كل وجهٍ، فإن القرآن كلام الله، ووَحْيُه ونوره، الذي أحيا به القلوب الميتة، وأخرج العباد به من الظلمات إلى النور والأغاني وآلاتُها مزامير الشيطان، فإن الشيطان قرآنه الشعرُ، ومؤذنه المزمار، ومصائدهُ النساء. كذا قاله قتادة وغيره من السلف.

 

والقرآن تُذكر فيه أسماء الله، وصفاتُهُ وأفعالُهُ، وقدرتُهُ وعظمتُهُ، وكبرياؤه وجلالُه، ووعده ووعيده.

والأغاني إنما يُذكرُ فيها: صفات الخمر والصور المحرمة، الجميل ظاهرها المستقذر باطنها التي كانت تُرابًا، وتعود ترابًا.

وهذا السماع المحظور يُسكرُ النفوس، كما تُسكر الخمرُ وأشدُّ، ويصدُّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، كالخمر والميسر.

 

ويوجب أيضًا سماع الملاهي: النفرة عن سماع القرآن، كما أشار إليه الشافعي رحمه الله، وعدم حضور القلب عند سماعه، وقلة الانتفاع بسماعه، ويوجب قلة التعظيم لحرمات الله، فلا يكاد المدمن لسماع الملاهي يشتد غضبه لمحارم الله تعالى إذا انتهكت....ومفاسد الغناء كثيرة جدًّا.

[كتاب: نزهة الأسماع في مسألة السماع].




? لما كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها، أمره أن ينقل من دار ارتحاله إلى دار إقامته، ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ارتحاله.




وربما أخذ منه كرهًا ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب، من: أهل، ومال، وولد، يسبقونه إليها ليقدم على ما يحب...وإن كان المؤمن لا يشعر بذلك.




فما فرَّق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب إلا ليهب، ولا استرد العواري إلا ليردها تمليكًا ثابتًا لا استرجاع فيه بعد ذلك.




سبحان من أنعم على عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كُرهًا، وعوَّضهم الصلاة والرحمة والهُدى، وذلك أفضل مما أخذ.

[رسالة: تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال].




? قال الله عز وجل: ? لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ? [النساء: 148] قال الحسن: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله تعالى: ? إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ? ومن صبر فهو خير، وقال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، من غير أن يعتدي عليه. وروي عنه، قال: لا تدع عليه، ولكن قل: اللهم أعنِّي عليه، واستخرج حقي منه.




? شكا رجل إلى عمر بن عبدالعزيز رجلًا ظلمه، وجعل يقع فيه، فقال له عمر: إنك أن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه، وقد استقضيتها.




وقال أيضًا: بلغني أن الرجل ليظلم بمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه، حتى يستوفي حقه، ويكون للظالم الفضل عليه.

[رسالة: مختصر فيما رُوي عن أهل المعرفة في معاملة الظالم السارق].




? قال بعض السلف: خوف الله تعالى منع قلوب المؤمنين الصادقين عن زهرة الدنيا وعوارض الشبهات،...فأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وإذا فارق خوف الله الجسد خرب حتى أن المار يمر بالمجلس فيقولون: بئس العبد فلان، فيقول بعضهم لبعض: ما رأيتم منه؟ فيقولون: ما رأينا منه شيئًا غير أنا نبغضه، وذلك أن خوف الله فارق جسده.




? أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز وجل، وإبعادهم عنه، وإعراضه عنهم، وسخطه عليهم، كما أن رضوان الله على أهل الجنة أفضل من كل نعيم الجنة، وتجليه لهم ورؤيتهم إياه أعظم من جميع أنواع نعيم الجنة.




? لا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت، فحينئذ يقع منهم الإياس وتعظم عليهم الحسرة والحزن.

[كتاب: التخويف من النار].




? العارفون بالله، المنقطعون إليه في الدنيا، والمستأنسون به دون خلقه، فإن الله بكرمه وفضله لا يخذلهم في قبورهم، بل يتولاهم، ويؤنس وحدتهم، فـ ? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ? [النحل: 128].




? ذكر ابن أبي الدنيا عن عبيد الله بن محمد التميمي، قال: سمعت أبا بكرٍ التميمي- شيخًا من قريش- قال: كان يُقال: إن ضمة القبر إنما أصلها أُمُّهم، ومنها خلقُوا، فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رَدُّوا إليها أولادَها، ضمَّتهم ضمَّ الوالدة التي غاب عنها ولدُها، ثم قدم عليها، فمن كان لله عز وجل مطيعًا ضمتهُ برأفةٍ ورفقٍ، ومن كان لله عاصيًا ضمته بعنفٍ، سخطًا منها عليه لربها.

[كتاب: أهوال القبور].




? استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم، أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه، أو معنى هذا، فقال أحمد: ما أعقله من رجل!




? قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجدُ لها في الخير محملًا.




? قال الفضيل: المؤمن يستُرُ وينصحُ، والفاجر يهتكُ ويعيِّر. وكان يقال: من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيره أو بهذا المعنى. فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة.




? عقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن، وتتبع عورته، وكشف عورته، أن يتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته، كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من وجوه متعددة.




? من بلي بشيء من هذا المكر فليتق الله، ويستعن به ويصبر، فإن العاقبة للتقوى، وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وباله على صاحبه، قال تعالى: ? وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ?[فاطر: 43] والواقع يشهد بذلك، فإن من سبر أخبار الناس، وتواريخ العالم، وقف على أخبار من مكرَ بأخيه فعاد مكرُهُ عليه، وكان ذلك سببًا لنجاته وسلامته على العجب العجاب.

[رسالة: الفرق بين النصيحة والتعيير].




? سأل علي بن المبارك الكرخي (ت487هـ) رجلًا: إذا مشيت مع من تعظمه أين تمشي منه؟ فقال: لا أدري، قال: عن يمينه، تقيمه مقام الإمام في الصلاة، وتخلي له الجانب الأيسر، فإذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى جعله في الجانب الأيسر.




? ذكر يحيى بن عبدالوهاب بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني (ت511هـ) بسنده إلى أبي حامد الخلقاني أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في القصائد؟ فقال: في مثل ماذا؟ قلتُ: مثل ما تقول

إذا ما قال لي ربي
أما استحييت تعصيني
وتُخفي الذنب عن غيري
وبالعصيان تأتيني؟

 

قال: فرد الباب، وجعل يقول:

إذا ما قال لي ربي
أما استحييت تعصيني
وتُخفي الذنب عن غيري
وبالعصيان تأتيني؟

فخرجتُ وتركته.




? قال أبو الوفاء ابن عقيل: إني لا يحل لي أن أُضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجدُ من حرصي على العلم، وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدهُ وأنا ابن عشرين سنة.




ولما توفي ابن له، أكب عليه وقبله وهو في أكفانه، وقال: يا بني، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، الربُّ خيرٌ لك مني.




وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماعٍ ثانٍ لتفطرت لفراق المحبوبين.




? قال الحافظ أبو موسى ابن الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي (ت600): مرض والدي رحمه الله مرضًا شديدًا، منعه من القيام والكلام، واشتد به مدة ستة عشر يومًا، وكنت كثيرًا ما أسأله: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، أشتهي رحمة الله تعالى، ما بقي إلا الموت، أشتهي النظر إلى وجه الله تعالى.




فقلت: توصيني بوصية، فقال: لا تضيعوا هذا العلم الذي تعبنا عليه- يعني الحديث- يا بني، أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على طاعته. فقلت: ما أنت عني راضٍ؟ فقال: بلى والله، أنا عنك راضٍ وعن إخوتك.




? قال إبراهيم بن عبدالواحد المقدسي (ت614هـ) لرجل: أكثر من قراءة القرآن ولا تتركه؛ فإنه يتيسَّر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ، قال الرجل: فرأيت ذلك وجربته كثيرًا، فكنت إذا قرأت كثيرًا تيسَّر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي.




? قال القاضي سليمان بن حمزة بن قدامة المقدسي رحمه الله (ت715هـ): لم أُصَلِّ الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط.

[كتاب: الذيل على طبقات الحنابلة].




قال الله تعالى: ? وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ? [آل عمران: 133 - 136].

 

ومعنى قوله: ? ذَكَرُوا اللَّهَ ?؛ أي: ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه، وما توعد به على المعصية من العقاب، فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار.

[سيرة عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز].




يأبى اللهُ العصمة لكتابٍ غير كتابه والمُنصفُ من اغتَفَرَ قليلَ خطأِ المرءِ في كثيرِ صوابه.

[تقرير القواعد وتحرير الفوائد].




في قوله تعالى: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28] دلت هذه الآية على إثبات الخشية للعلماء بالاتفاق، وعلى نفيها عن غيرهم على أصح القولين، وعلى نفي العلم عن غير أهل الخشية أيضًا.




عن مجاهد والشعبي: العالم من خاف الله.

وعن ابن مسعود قال: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا.

وذكر ابن أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراساني في هذه الآية: العلماء بالله الذين يخافونه.




وعن يحيى بن جعدة عن علي قال: يا حملة العلم، اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم فوافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم ولا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقًا فيُباهي بعضهم بعضًا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل.




وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا يكون الرجلُ عالمًا حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا.




قال الحسن: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه.




وعن الربيع بن أنس عن بعض أصحابه قال: علامة العالم خشية الله عز وجل.

وسُئل سعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه.




وسُئل الإمام أحمد عن معروف، وقيل له: هل كان معه علم؟ فقال: كان معه أصل العلم خشية الله عز وجل.




ومما يبين أن العلم يوجب الخشية وأن فقده يستلزم فقد الخشية وجوه:

إحداها: أن العلم بالله تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية، وبهذا فسر الآية ابن عباس، فقال: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وجلالي وسلطاني.




ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا)).




والمقصود أن العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله من قدرِهِ، وخلقِهِ، والتفكير في عجائب آياته المسموعة المتلوة، وآياته المشاهدة المرئية من عجائب مصنوعاته، وحِكمِ مبتدعاته ونحو ذلك مما يوجب خشيته وإجلاله، ويمنع من ارتكاب نهيه، والتفريط في أوامره، هو أصل العلم النافع، ولهذا قالت طائفةٌ من السلف لعمر بن عبدالعزيز وسفيان بن عيينة: أعجب الأشياء قلب عرف ربه ثم عصاه.




وقال بشر بن الحارث: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله.




الوجه الثاني: أن العلم بتفاصيل أمر الله ونهيه، والتصديق الجازم بذلك، وما يترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب، مع تيقن مراقبة الله واطلاعه ومشاهدته ومقته لعاصيه وحضور الكرام الكاتبين، كل هذا يوجب الخشية، وفعل المأمور وترك المحظور، وإنما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العلم، والغفلة والشهوة أصل الشر... والشهوة وحدها لا تستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل.




فالمؤمن يحتاج دائمًا كل وقت إلى تجديد إيمانه وتقوية يقينه، وطلب الزيادة في معارفه، والحذر من أسباب الشك والريب والشبهة.




الوجه الثالث: أن تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دلَّ على أن تصوره لذلك ليس تامًّا.




الوجه الرابع: أن كثيرًا من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهلُ فاعله بحقيقة قبحه، وبغضُ الله له، وتفاصيل الوعيد عليه، وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه، لكنه يكون جاهلًا بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الذي جرَّأهُ عليه، وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشية من عقابه.




الوجه الخامس: أن كل ما علم علمًا تامًّا جازمًا بأن فعل شيئًا يضره ضررًا راجحًا لم يفعله، فإن هذا خاصة العاقل، فإن نفسه تنصرف عما يعلم رجحان ضرره بالطبع، فإن الله جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرها، فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل.




فالزاني والسارق ونحوهما لو حصل لهم جزم بإقامة الحدود عليهم...لم يقدموا على ذلك، فإذا علم هذا فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل...فالفاعل للذنب لو جزم بأنه حصل له به الضرر الراجح لم يفعله، لكنه يزينُ له ما فيه من اللذة التي يظن أنها مصلحة، ولا يجزم بوقوع عقوبته، بل يرجو العفو بحسنات أو توبة أو بعفو الله، وهذا كله من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولو كان له علم كامل لعرف به رجحان ضرر السيئة، فأوجب له ذلك الخشية المانعة له من مواقعتها. ونبين هذا بـ:




الوجه السادس: وهو أن لذات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد البتة؛ فإن لذاتها سريعة الانقضاء، وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك، ولهذا قيل: إن الصبر على المعاصي أهون من الصبر على عذاب الله وقيل: رب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا، ومؤثر لذة الذنوب كمؤثر لذة الطعام المسموم الذي فيه من السموم ما يمرض أو يقتل، ومن ها هنا يعلم أنه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهل بحقيقة عواقبها...ورجاؤه التخلص من شرها بتوبةٍ أو عفوٍ أو غير ذلك...وقد لا يتمكن من التوبة، فإن من وقع في ذنب تجرَّأ عليه عمره، وهان عليه خوض الذنوب وعَسُرَ عليه الخلاص منها، ولهذا قيل: من عقوبة الذنب: الذنب بعده.




وإذا قُدِّرَ أنه تاب منه فقد لا يتمكن من التوبة النصوح الخالصة التي تمحو أثره بالكلية، وإن قدر أنه تمكن من ذلك، فلا يقاوم اللذة الحاصلة بالمعصية ما في التوبة النصوح المشتملة على الندم والحزن والخوف والبكاء وتجشم الأعمال الصالحة، من الألم والمشقة، ولهذا قال الحسن: ترك الذنب أيسر من طلب التوبة ويكفي المذنب ما فاته في حال اشتغاله بالذنوب من الأعمال الصالحة التي كان يمكنه تحصيل الدرجات بها. وإن قُدِّر أنه عفي عنه من غير توبة فإن كان ذلك بسبب أمر مكفر عنه كالمصائب الدنيوية، وفتنة القبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، ونحو ذلك، فلا يستريب عاقل أن ما في هذه الأمور من الآلام والشدائد أضعاف أضعاف ما حصل في المعصية من اللذة. وإن عُفي عنه بغير سبب من هذه الأسباب المكفرة ونحوها فإنه لا بد أن يلحقه عقوبات كثيرة منها: ما فاته من ثواب المحسنين، فإن الله تعالى وإن عفا عن المذنب فلا يجعله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومنها: ما يلحقه من الخجل والحياء من الله عز وجل عند عرضه عليه وتقريره بأعماله.


"
شارك المقالة:
41 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook