الطّفولة هي الحياة التي نحياها جميعاً فتحفُر فينا كلّ ما نحن عليه وتكوّن شخصيّاتنا بشكلٍ كامل، وهي الحياة التي نحنّ إليها مهما كبرنا، فدائماً ما يأخذنا الحنين إلى لعبنا ولهونا وبراءتنا، وحتّى جهلنا الّذي يضحكنا، ويرسم على وجوهنا الابتسامة حين نتذكّره ونروي قصصه، تلك البراءة الّتي عشناها والأحلام الطفوليّة التي بنيناها وكانت بسيطةً أو عملاقةً، والجُمل الّتي تفوّهنا بها فأصبحت نبراساً لكلّ من احتضننا. مهما نتكلّم عن الطفولة لن نفيها حقّها ولا تقديرها في أنفسنا، ونحن نكبر حتىّ نُكوّن أسراً تكون ثمرتها الحقيقيّة هي الأطفال؛ حيث يأتون ليتوّجوا الحبّ، ويكملوا مشوار الحياة بلطافتهم وزهوهم ليقوموا بمحو نزق الحياة وابتلاءاتها.
وُصفت الطفولة في جميع المجتمعات القديمة والحديثة، العربيّة والأجنبيّة بكلّ أطيافها من خلال الأدب والشّعر؛ فهي الوجود الّذي يثبت نفسه دائماً عندما نودّ التّعبير عن المشاعر المفاجئة التي تنتابنا أو عن مشاعرنا الصّادقة، فنقول " أحبّك كطفل " أو " ابتسمت بطفولة وبراءة ".
يا قطعةً من كبدي فداكِ يومي وغدي
وداد يا أنشودتي البكر ويا شِــعري النّدي
يا قامة من قصب الســــكّر رخص العِقَدِ
حلاوة مهــــما يزد يــــــوم عليـــها تزدِ
توقّدي في خــــاطري وصفّقي وغرّدي
تستيقظ الأحلام في نفسي وتسقيها يدي
عشـــــرون قل للشمس لا تبرح وللدّهر اجمدِ
عشـــرون يا ريحانةً في أُنـمليْ مــبددِ
عشـــــرون هلّل يا ربيع للصبا وعـــــيِّدِ
وبشّر الزهر بأختِ الزهر واطــــرب وأُنشدِ
وانقل إلى الفرقدِ ما لم نمْدهُ عن فرقــــدِ
يا قطعةً من كبدي فداكِ يومي .... وغدي
وفي حديثنا عن الطفولة نشير إلى أنّه للأسف الشديد على مدى قرونٍ من الحياة البشريّة على الأرض لم يتوصّل العالم البشري إلى اتّفاقٍ شاملٍ يحمي الطّفولة كجزء من الإنسانيّة إلّا في وقتٍ متأخّر جدًّا مقارنةً بتتالي الحضارات والشّعوب، ويعود ذلك طبعاً إلى أنّ البشريّ لم يتطوّر بشكلٍ كافٍ ليصل إلى قيمه الإنسانيّة رغم تطوّر الكثير من العلوم البدائيّة والمتقدّمة ونموّه كفرد وتسخيره للطّبيعة بكلّ ما فيها لخدمته، ولكنّه على ما يبدو كان منشغلاً بمصلحته الماديّة متناسياً أنّ أهمّ ركيزةٍ لهذه المصلحة هي الحياة الّتي يعيشها أفراد المجتمع بجميع أطيافهم العمريّة، وظلّ ذلك سائداً حتّى عصور متقدّمة من البشريّة وبعد بناء مدن منظّمة. وكان أوّل من تحدّث بشأن تأسيس جيلٍ بشريٍّ يبتدئ منذ الطّفولة الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون؛ فذهب في وضع نظريّات لمدينته الفاضلة تقوم على إنشاء رياض للأطفال، وهي فكرة متقدّمة جدّاً في تاريخ البشريّة، ومتأخّرة جدّاً في وضعها كإدراك بشري لقيمة الحياة الإنسانيّة، وتتالت الفلسفات البشرية من حينها في العصور الأولى المزدهرة للعقل البشري وفلسفته وفكره في تقديم طروحات للحفاظ على هذه الحياة، وتخصيص نظريات خاصة بالطّفولة وحمايتها، وكذلك فعلت الأديان الّتي شاعت في الأرض فقدّست القيم الإنسانيّة وطوّرت الشّعور لدى الكائن البشري، وكثير منها تحدّث عن الطّفولة وقيمتها وأسس التعامل مع الأطفال ومدى أهميّة ذلك، وكان من أهمّ الأديان الّتي تحدّثت عن فترة الطفولة هي الرّسالتين الإسلاميّتين المسيحيّة والمحمديّة؛ فالمسيحيّة كدين سلام بالدّرجة الأولى قدّس عموماً جميع القيم الإنسانيّة، وجعلها من أهم مرتكزاته بينما كان الإسلام المُحمديّ الرّائد في تحديد هذه المعاملة وشكلها كونه ديناً منظّماً طُرح ليكون أسلوب حياة وعبادة في كافّة نواحي الحياة، واختصّ الطفولة بكثير من الآيات والأحاديث منها آيات الله في القرآن عن معاملة اليتيم معاملةً حسنةً ليس فيها تمييز بينه وبين أقرانه، وتحدّث الرّسول الكريم – عليه الصلاة والسلام – في أحاديث كثيرة عن أهميّة التربية الحسنة والمعاملة الإنسانيّة الّتي يجب أن يعامل بها الأطفال حتّى نبني كبشريّة مجتمعاً رائداً ومتطوّراً إنسانيّاً يقدّس عقله وإنسانيّته ويحترمها، فلا يهينها بالتّعامل بطرقٍ حيوانيّة أو لا تليق بالعقل البشريّ .
وفي عصر النهضة خصّ أهمّ مؤسّسي علم العقد الاجتماعي وهو جان جاك روسو الطّفولة بكتاب خاص يتحدّث عن أهميّة هذه المرحلة في حياة البشريّ، وكذلك الكثير غيره من الفلاسفة والعلماء كان أهمّهم في العصر الحديث الأوّل عالم النفس الأشهر سيجموند فرويد الذي قال بأن الأربع سنين الأولى من حياة الإنسان هي التي تكوّن شخصيّته بالكامل في صفاتها الأساسية جميعها، وباقي ما تبقّى هو صفاتٍ متغيّرة ومكتسبة من الخبرات، ولا تكون ثابتةً أو علامةً فارقة في شخصيّة الفرد، أمّا في العصر الحديث وبعد قيام الحربين العالميّتين وانتشار الخراب حول العالم واللامنطق والتعسّف والجور والتعدّي على كل ّالإنسانيّة صارت البشريّة بحاجة إلى مواثيق دوليّة تحفظ الحق الإنساني في الحالات الاستثنائية؛ كالحروب والمجاعات والكوارث الطبيعيّة، فظهر ما يسمّى بالمعاهدات الدوليّة لحقوق الإنسان والّتي تتضمّن ميثاقاً لحقوق الطّفل ببلده الأم أوّلاً؛ بحيث لا يتمّ التعدّي من قبل المجتمع والسلطات الحاكمة على حقّه وفي الأوضاع الاستثنائيّة لحفظ حقّه في الحروب وما إلى ذلك ممّا قد يهدّد أمنه وحياته، فصدر الميثاق الأوّل لحقوق الطّفل عام 1989؛ ليكون ميثاقاً من ضمن القانون الدولي صادق عليه كلّ أعضاء الأمم المتّحدة بشكلٍ كلّي أو جزئي، والمفاجئ بالأمر أنّه على مرّ البشريّة لم تتوصّل الدّول إلى وضع هكذا ميثاق حتّى أواخر الألفيّة الأولى !!