قصة القصاص العادل

الكاتب: رامي -
قصة القصاص العادل
لقد اقتص مني الله سبحانه وتعالى قصاصًا عادلًا ، وتلك القصة أكتبها ندمًا واعترافًا بذنبي لعل الله يغفر لي ما فعلت وأنا في قوتي وشبابي ، فقد تزوجت من رجل عسكري كان حاد الطباع وصارم بعض الشيء ، ولعل تلك الصفات اكتسبها من طبيعة عمله ، فتفهمته وتطبعت بطباعه وما إن رزقني الله منه طفلان هما علي وجنان حتى كرست لهم حياتي .

ولكن مع كبر سنهم وزيادة الأعباء المنزلية شعرت بحاجتي لخادمة ، فأحضر لي واحدة ولكنها لم تستمر لدينا سوى شهرٍ واحد ، فطباع زوجي السيئة كانت تجعل الخادمات تهرب منا ، وجاء لي بخادمة ثم أخرى وهكذا كل واحدة تأتي ، لا تستمر في العمل سوى لأيام أو أسابيع ، حتى جاء إلينا يوم رجل قروي فقير ومعه ابنته التي يبلغ عمرها عشر سنوات ، كانت طفلةً صغيرة قدمها لنا أبيها نظير المال .

وبالفعل أعطاه زوجي المال وكان لا يراه إلا كل شهر عند المجيء لأخذ راتب الفتاة ، وكان هذا الرجل لا يقضي مع ابنته الوقت فيذهب في عجالة إلى القرية ، ليصرف ما أخذه على إخوتها وأمها ، وللحقٍ كانت الفتاة جيدة تفعل كل ما تؤمر به ، وحتى الطعام لا تأكل إلا الخبز الفاسد مع بعض البقايا التي كنا نرميها سابقًا .

وكانت تستيقظ معي كل يوم قبل موعد ذهاب الأولاد إلى المدرسة ، فتعد معي الفطور وتبدأ في مهام المنزل المرهقة التي لم أتحملها وحدي من قبل ، وتظل تعمل طيلة النهار حتى تسقط ليلًا من فرط التعب على أرضية المطبخ حيث تنام ، وبالطبع زوجي القاسي لم يتورع عن تأديبها وتعذيبها على أي خطأ ترتكبه دون قصد .

ولا أنفي مسئوليتي في هذا فأنا لم أمنعه بل على العكس تماديت معه وكنا أحيانًا نتركها تنام دون طعام وأحيانًا نمنعها من النوم ، ونرهقها في العمل دون أن نفكر أنها طفلةٌ صغيرة لا تستحق ذلك ، وكان ابني علي قاسي القلب كقلبي وقلب أبيه ، فلا يتورع عن لكمها ورفسها بقدمه إن أخطأت ، أما جنان فكانت اليد الوحيدة الحانية في منزلنا السيئ ، التي تضمد جراح الصغيرة وتحنو عليها لهذا كانت الفتاة تحبها .

دارت الأيام وكبرت الفتاة وكبر أبنائي ، وأوضاعنا كما هي لم تتغير قسوة وعنف دون رحمة ، وفتاة لا حول لها ولا قوة أسرتها لم تعد تسأل عنها وليس لها أحد سوانا ، فاستسلمت لقهرنا وظلمنا وظلت طوال النهار تعمل ، وهي ذليلة كسيرة وفي الليل ترقد كالمغشي عليها .

حتى جاء اليوم الذي هربت فيه فقد أحبت شابًا بسيطًا ، كان يعمل بائعًا في متجر قريب من المنزل ، وهربت لتتزوجه لأنها كانت تعلم أننا نرفض أي أحد يتقدم لخطبتها ، فهي صيدٌ ثمينٌ لنا فريسة دون أهل ، فهي لم ترى إخوتها إلا يوم وفاة أبيها حتى أن لا أحدًا كان يسأل عنها أو يهتم بأمرها .

حينما علم زوجي جن جنونه وبعلاقاته واتصالاته عرف مكانها ، واستطاع إحضارها إلى نارنا من جديد ، وفي تلك المرة عذبها بأبشع الطرق وظل يضرب فيها هو وابني علي وأنا كنت معهم ، استسلمت الفتاة لمصيرها البائس وبدأت تذبل وبعد فترة بدأت الأشياء تتساقط من يدها بصورةٍ مبالغ فيها .

فعرضناها على الطبيب فقال لنا أنها فقدت الرؤية في إحدى عينيها والثانية ضعيفة للغاية ، وبالطبع لم نتكلف أنا أو زوجي عناء علاجها فتركناها تذهب ، فهي الأن لم يعد لها نفعٌ بالنسبةٍ لنا ووجودها في المنزل صار عبئًا ، خرجت الفتاة شبه الضريرة وهي ليس لها أحد ، ولم نحاول حتى معرفة أين ستذهب ، فقط طوينا تلك الصفحة وبحثنا عن خادمة أخرى .

ومرت الأيام وتقدم ابني علي لخطبة فتاة جميلة من أسرة مرموقة ، وتمت الخطبة ثم الزواج وكان الجميع سعداء ، وبعد تسعة أشهر من الزواج رزقنا الله بأول حفيد طفلٌ أية في الجمال لكنه للأسف ولد ضريرًا ، فكانت الصدمة كبيرة على العائلة ، وخشت زوجة ابني أن تحمل ثانية حتى لا تتكرر المأساة ، ولكن الأطباء طمئنونا لأنه ليس هناك صلة قرابة بين ابني وزوجته .

وبالفعل حدث الحمل الثاني والجميع كان في قلقٍ وارتقاب ، ولكن حينما وضعت الأم طفلتها طمأننا الأطباء ، لقد كانت الفتاة سليمة وترى بوضوح ، ففرحت أنا وزوجي وكل من حولنا ولكن بعد مرور ستة أشهر حدثت المفاجئة ، لقد أصيبت الفتاة بمرض في العين أضعف بصرها للغاية ، وأصبحت على وشك العمر .

يا الله كانت فاجعة بالنسبة لنا ، شعرت يومها أن هذا انتقام من الله لأجل تلك الفتاة ، التي أضعنا بصرها وتركناها هائمة في الدنيا دون أن نفكر في مصيرها ، حينها فقط ندمت أما زوجي فأصيب بمرضٍ نفسي نقلناه على إثره لمصحة ومن يومها لا يتحسن ، أخذت أبحث عن الفتاة بكل جهدي وحاولت أن أجدها ، ولكن لا أحد يعلم أين هي ؟

ظللت هكذا حتى وفقني الله يومًا للصلاة في أحد المساجد ، وهناك رأيتها نائمة في ركن قريب ، وعلمت من الناس أنها تخدم في هذا المسجد منذ تركتنا ، والناس يعطفون عليها بالطعام والشراب فحمدت الله أني وجدتها ، واقتربت منها وعرفتها بنفسي والغريب أن سلمت عليّ ولم تنفر مني !

كم كنت قاسية وشريرة وكم كانت هي طيبة ورحيمة ، طلبت منها أن تأتي معي واعتذرت لها عن سنوات الحرمان والعذاب ، ورجوتها أن تسامحنني فربتت على كتفي وقالت : لا عليك يا خالة بكيت وبكيت حتى أغرقت الدموع ثيابي .

فقد اقتص الله لعبدته الضعيف مني ومن جبروت زوجي ، أين هي الآن وأين نحن ؟ تعهدت لها بقية عمري أن أعتني بها وأعمل على خدمتها حتى يغفر له لي ما فعلته أنا وأسرتي بحق تلك الفتاة ، وأتمنى من الله أن يتقبل مني ذلك حتى أستطيع الموت في سلام .

شارك المقالة:
54 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook