قصة المعز لدين الله مع قائده جوهر

الكاتب: رامي -
قصة المعز لدين الله مع قائده جوهر
خرج المعز في ليلة مقمرة من ليالي عام ??? هـ ، إلى حديقة قصره في المنصورية قرب القيروان ، وفىالحديقة بركة واسعة يصب فيها الماء ، من نبع جر ماءه المعز إليها من جبل بقرب المنصورية ، وفرقه بأنابيب الرصاص إلى قصور المدينة ومسجدها وأسواقها ، وينصرف ما بقي من ذلك الماء إلى القيروان ، وقد علمت أن المنصورية خاصة بالخليفة وأهله وحاشيته وأعوانه ، لا يشاركهم فيها أحد ، وقد أحاطوها بسور ضخم عال فهي أشبه بالحصون منها بالمدن ، وهو هناك في مأمن من غدر الغادرين ، لأنها محاطة بسور منيع أبوابه مصفحة بالحديد ، تقفل وتفتح عند الحاجة .

خرج المعز في تلك الليلة ، وهو مطمئن الخاطر لا يخاف غدرًا ، حتى إذا توغل في الحديقة ولا شيء فيها ، من زخارف المدينة أشرف على تلك البركة ، وليست هي مما يستجلب النظر أو يلفت الانتباه ، لكن لها حديثًا يطرب له المعز ، ولا يطرب له سواه إلا قائده جوهر البطل الصقلي ، وكان قد اسكنه في مدينته واختصه بقصر من قصورها ، وبالغ في إكرامه ورفع منزلته .

وصل البركة والقمر قد تكبد السماء ، فأسرع البستانى إلى مقعد معد لجلوس الخليفة ، إذا ما نزل في تلك الساعة وأهل القصر نيام حتى الخدم ، وإنما أرقه أمر شغل خاطره ، وأخذ بمجامع قلبه لم يكاشف به أحدًا من أعوانه ، لأنه كان حريصًا على سره لا يطلع عليه أحدًا ، إلا إذا نضج وآن إخراجه إلى حيز الفعل ، شأن رجال العمل وأهل الحزم ، على أنه ضاق ذرعًا في تلك الليلة عن الاحتفاظ بذلك السر ، فخطر له أن يكاشف به قائده جوهر .

وكان المعز عالي الهمة عظيم الهيبة واسع المطامع ، أدرك الأربعين من عمره وقد لبس في تلك الليلة ، رداء أبيضًا بسيطًا والتف بالعباءة ، وجعل على رأسه عمامة صغيرة.

فلما استقر به الجلوس صفق ونادى ، فحضر الخادم فقال له ادع قائدنا جوهر ، فمضى خفيف وما عتم أن عاد ومعه جوهر ، وهو كهل في السادسة والخمسين من عمره وقد وخطه الشيب ، وكان طويل القامة ثابت الجأش عظيم الهيبة ، وكان لما جاءه رسول المعز قد ذهب إلى فراشه ، فنهض وارتدى ثيابه وبادر إلى ملاقاة مولاه ، فلما شعر المعز بقدومه تحفز للنهوض ورحب به وبش له .

فخجل جوهر من ذلك الإكرام فاكب على يدي الخليفة فقبلهما ، وقبل ركبتيه وأوشك أن يقبل قدميه ، فأنهضه المعز ودعاه للجلوس بجانبه ، فجلس متأدبًا فبادره المعز قائلا مرحبًا بقائدنا الحازم وحبيبنا الباسل ، فتأدب جوهر وقال: إني عبد مولانا أمير المؤمنين ضارب بسيفه وأفديه بروحى ، فقال له المعز : بل أنت سيفنا المسلول وحامى دولتنا ، وإني لا أجلس إلى هذه البركة وأرى السمك يسبح فيها ، إلا ذكرت بلاءك في سبيل الحق. إن هذا السمك يشهد بمالك من الأفضال ، على هذه الدولة أليست هذه الأسماك من نسل ما حملته إلينا ، من سمك البحر المحيط في القلل يوم جردت وفتحت أفريقيا.

وأخضعت قبائلها لا أنسى يوم جئتنا بتلك القلل وفيها السمك ، من ذلك البحر العظيم ، إشارة إلى ما أدركته من تلك الفتوح العظيمة التي لم يسبق إليها سواك ، فلا غرو إذا اختصصتك بصداقتي وفضلتك على سائر بطانتى وأهلي .

فخجل جوهر من هذا الإطراء وقال : العفو يا مولاي إني لم أفعل شيئًا إلا باسمك ، ولله إنما نصرني بك ، لأنك سلالة أحق الناس بالخلافة ، ابن عم الرسول (صلّ الله عليه وسلم) وصهره ،  أنت ابن فاطمة الزهراء ، فكيف لا ينصرك الله ، ولو قام بهذه الدعوة غلام لأفلح لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه .

فأسكته المعز قائلا : إن الحق لا يعلو دائمًا ، وكم ظل أجدادي يجاهدون ، وقد ذاقوا أنواع العذاب ممن استأثر بالسيادة دونهم ، ولو أتيح لهم سيف مثل سيفك لغلبوا ، ألم تفتح هذه البلاد من هنا إلى البحر المحيط ، وأخضعت أهلها بارك لله فيك ، وسكت وقد بدا الاهتمام في وجهه ، وجوهر ينتظر ما يبدو منه ، لاعتقاده أنه لم يدعه في تلك الساعة إلا لأمر هام ، وهذا ما لا ريب فيه فإذا رفعنا منزلتك فقد أعطيناك حقك ، فاعتدل في مجلسه وتوجه بكليته نحوه كأنه يستفهم عما يريده .

أما المعز فمد يده واستخرج من تحت العباءة ، قضيبًا من عود طوله شبر ونصف مكسو بالذهب ، فلما رآه جوهر علم أنه قضيب الملك ، فتأدب احترامًا له فابتدره المعز قائلاً:  أليس هذا قضيب الملك يا جوهر ، قال : نعم يا مولاي إنه قضيب الحق ، وصاحبه صاحب الخلافة الحقة ، قال: هل يكون في الدنيا خليفتان على حق ؟  فأدرك جوهر أنه يشير إلى خلافة العباسيين في بغداد ، أنها على غير الحق ولحظ ما وراء ذلك من الأمور فقال : كلا يا سيدي إن النبي واحد وخليفته واحد ، قال: إلى متى نترك أولئك القوم في ظلمائهم؟

فأجاب جوهر على الفور : نتركهم حتى يأمر مولانا أمير المؤمنين ، فأكبر المعز هذا الجواب الدال على حزم جوهر واستهلاكه ، في سبيل نصرة العلويين ، فابتسم وقد أشرق وجهه وكان القمر مواجهًا له ، بحيث يظهر ذلك لجوهر .

وقال: بارك الله فيك هذا ما كنت أرجوه منك ، وقد جال هذا الفكر في خاطري منذ أعوام ، وأنا أتردد فيه أستطلع المنجمين ، ولا أبوح به لأحد ، حتى إذا كانت الليلة رأيت أن أسره إليك ، وكنت أحسبه جديدًا عليك فإذا أنت أكثر تفكيرًا به منى ، أما وقد اطلعت على سرى ، وأنت الوحيد الذي اطلع عليه منى فأرجو أن تشير علي .

قال: ليس لهذا العبد أن يشير وإنما عليه أن يطيع ، فولله لو أمرتني أن أركب الأسنة وأذهب في الأرض فاتحا ، لفعلت لعلمي أني ذاهب في نصرة الحق ، قال:  لله درك من قائد باسل وصديق حميم ، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها ، فالآن اكتم ما دار بيننا وأخبرني عن رأيك في قوادنا ، قال:  إنهم نعم الرجال يستهلكون في نصرة مولانا ، ولاسيما شيوخ كتامة فإنهم قاموا بنصرة أمير المؤمنين ، خير قيام وعليهم المعول في أمرنا .

شارك المقالة:
70 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook