قصة الوليد

الكاتب: رامي -
قصة الوليد
بعد أن أقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يتزوج مطلقاً ، غيّر جاك بورديير رأيه فجأة ، لكن ذلك حدث دون سابق انذار في الصيف ، وعلى شاطيء البحر ..

نبذة عن المؤلف :
قصة من روائع الأدب الفرنسي ، للكاتب هنري رينيه ألبيرغي دي موباسون، ولد موباسان ، بقصر ميرونمسنل بنورمانديا بفرنسا ، في عام  1850م وتوفي عام 1893م ، درس موباسان القانون ، والتحقبالجيش الفرنسي ، ثم عمل ككاتب في البحرية الفرنسية .

هناك عند شاطيء البحر :
صباح أحد الأيام بينما كان ممدداً على الرمال ، مشغولاً بالنظر إلى النساء وهن خارجات من الماء ، صدم برؤية قدم صغيرة ناعمة تلامسه ، حين رفع بصره نحو الأعلى ، فتنته شخصية صاحبتها ، فلم يعد منها إلى العرقوب والرأس البارز من خلال مئزر الفانليا البيضاء وقد أحكم اغلاقه ،  قيل أنه كان شهوانيا فاسقا ، لذا لم يفتن حينها إلا بجمال الشكل ، ثم توقف عند سحر فتاة ذات روح طيبة الشمائل ، بسيطة وناعمة نعومة الخدود والشفاه .

الحب :
حين تعرف على العائلة أعجب الجميع لكن لكنه من ناحيته ، أحب بجنون ، ولما كان يلمح بيرت لانيس ، من بعيد على الشاطئ الرملي الطويل ، كان يرتعش من رأسه حتى قدميه ، وحين يدنو منها كان يصمت غير قادر أن ينبس ببنس شفه ، ولا حتى أن يفكر ، ويصاب بنوع من الغيان في قلبه ، وطنين في أذنيه ، وتشويش في عقله ، أكان ذلك هو الحب ؟

سمعه سيئة :
لم يكن يدري أو يفهم شيء ، لكنه بقي في كل الأحوال مصمما على أن يتخذ تلك الصبية زوجة له ، تردد أهل الفتاة كثيراً متأثرين بسمعة الشاب السيئة ، فقد قيل أن له صاحبة قديمة على علاقة متينه به منذ زمن بعيد ، هي سلسلة يظن المرء أنها انقطعت ، لكنها تبقى صامدة ، إضافة إلى ذلك فأنه كان يقع من حين لآخر في حب النساء اللواتي يقعن على مرمى من شفتيه .

استقامة السيرة وانقطاع العلاقات :
في تلك الفترة استقامت سيرته ، ولم يعد يرضى برؤية تلك التي عاشرها طويلاً ، وتكفل أحد أصدقائه بتوفير نفقة لتك المرأة ، وأمن لها معيشة ، دفع جاك مالًا ، غير أنه لم يعد يود سماع سيرتها وأخبارها ، مدعياً حتى بنسيان اسمها ، كتبت له الرسالة تلو الأخرى لكنه لم يفتحها ، كل أسبوع كان يعرف خط تلك التي هجرت ، وكل أسبوع كانت تثير غضبه أكثر وأكثر فكان يمزق الرسائل دون قراءة سطر واحد منها ، عالمًا بأنها ستلقي عليه اللوم والعتاب في تلك الرسائل .

الزواج :
وبما أن أهل الفتاة كانوا غير مقتنعين بالشاب ، فأنهم مددوا الاختبار إلى نهاية الشتاء وحين أقبل الربيع فقد أجيب طلبه ، تم الزواج في باريس في الأيام الأولى من أيار ، كانوا قد قرروا أن لا يذهب في رحلة عرس تقليدية ، فبعد الحفل الراقص الذي أحياها بنات أعمامه وخاله ، والتي لم تتجاوز الحادية عشرة ليلاً ، وذلك لكي لا يطول إرهاق ذلك اليوم الاحتفالي ، فالعروسان سيمضيان أول ليلة لهما في بيت العائلة ، ثم يذهبان وحدهما في اليوم التالي إلى الشاطئ العزيز على قلبيهما حيث تعارفا وتحابا .

أرخى الليل سدوله والرقص على أشده في البهو ، وانسحب العروسان إلى غرفة استقبال صغيرة يابانية تزينها ستائر حريرية ذات ألوان زاهية ، وتضيئها ألوان ثريا ملونة تتدلى من السقف على شكل بيضة ضخمة ، ومن النافذة المفتوحة كان الهواء الندي يلج ويداعب وجهيهما ، ويحمل معهما عطراً ربيعياً رائعاً منعشاً .

ليلة حب :
جلسا صامتين لتتكلم أيديهما وتشد احداهما على الأخرى بقوة ، أما هي فبقيت عيناها شاردتين ، تفضحان عن اضطراب بسبب تغيير نمط حياتها ، لكنها كانت تبتسم وقلبها يهتز ويكاد الدمع يفر من عينيها ، وهي مستعدة أيضاً أن تنهار من الفرح ، ظنا منها أن العالم قد تغير كله بسبب ما حصل لها .

كانت قلقة دون أن تعرف سبب لذلك القلق ، وأحست أن حسدها كله قد امتلأ اعياءً لذيذاً لا يوصف ، أما هو فكان ينظر إليها بعناد مبتسم ابتسامة ثابتة ، أرد أن يتكلم فلم يجد ما يقوله فظل صامتا ، واضعاً كل شوقه في يده التي كانت تضغط على يدها ، من وقت لآخر كان يتمتم : بيرتا ، وفي كل مرة كانت ترفع بصرها نحوة في نظرة حلوة وحانية ، ويحدقان كل منهما للآخر للحظة ، ثم تخفض بصرها بعد ان اخترقها بصره وفتنها .

الرسالة :
فتح باب جانبي ودخل أحد الخدم وبين يديه صينية عليها رسالة جاء بها موظف البريد ، أمسك جاك بالرسالة وهو يرتجف وقد تملكه خوف مفاجئ ، نظر ملياً إلى المغلف فلم يعرف الخط ، ولم يجرؤ على فتحه ، فقط أراد أن يضعه في جيبه ويقرأه في الغد ولكنه لمح على طرف المغلف كلمتين هما : هام وعاجل !!

فارتاع وسأل عروسه : أتسمحين يا حبيبتي ، وفض المغلف وقرأ الورقة بسرعة ، وقد شحب لونه بشكل مريع ، حين رفع رأسه كانت سحنته قد انقلبت فتمتم : يا صغيرتي الحبية هذا .. إنه أعز أصدقائي وقد تعرض لمصيبة كبيرة جداً ، وهو محتاج إليّ على الفور .. في أمر عاجل .. مسألة فيها حياة أو موت ، أتسمحين أن أتغيب عشرين دقيقة ؟ .. سأعود بعدها مباشرة ؟

تلعثمت مرتعدة خائفة وقالت : اذهب يا حبيبي ، حيث أنها لم تكن بعد زوجته تماماً ، ولم تجرؤ على سؤاله لتستعلم عن الأمر ، وذهب ، وبقيت وحدها تستمع إلى حركات الراقصين في البهو المجاور .. كان قد أخذ قبعته ونزل عبر الممر وفي ضوء الشارع قرأ الرسالة ثانية وكان فيها :

سيدي ، فتاة تدعى رافيه ، وهي عشيقتك السابقة كما يبدو ، قد وضعت للتو صبيا ويبدو أنه لك ، أمه ستموت وتطلب منك أن تزورها ، أسمح لنفسي أن أكتب إليك وأطلب منك فيما لو استطعت ، أن تمنح هذه المرأة فرصة محادثة أخيرة ، فهي تبدو في منتهى التعاسة وأهلا للشفقة … خادمكم الدكتور بونار .

غرفة المحتضرة :
حينما دخل غرفة المحتضرة ، وقد وضعت شمعتان على احدى قطع الأثاث وخلف السرير ، كان الوليد يصرخ في مهده ، وعند كل صرخة كانت الأم المعذبة تحاول القيام بحركة وهي ترتجف تحت الضمادات الجليدية ، نزفت طويلا من جرحها المميت ، قتيلة تلك الولادة ، كل حياتها سالت ، بالرغم من الثلج والعناية كان النزيف مستمراً ، ويدني من ساعتها الأخيرة .

عرفت جاك وقد حاولت رفع ساعدها إلا أنه منعها الوهن ، وراحت عيناها تسيل الدموع على خديها الشاحبتين ، اقترب منها جاك وخر على قدميه ما السرير وقبل يديها المتدليتين بجنون ، أمسكت الممرضة بشمعه وتراجع الطبيب إلى صدر الغرفة ، في حين قالت المحتضرة بصوت كأنه يأتي من العالم الآخر : سوف أموت يا حبيبي ، عدني أن تبقى بجواري حتى النهاية ، لا تتركني الآن ، لا تتركني في لحظتي الأخيرة !

قَبَل جبينها وشعرها وقال لها : اهدئي ، سوف أبقى .. سكتت بضع دقائق قبل أن تتمكن من الكلام ثانية وقالت : الصغير هو ابنك ، أقسم بالله ، أقسم بحياتي ، أقسم لك وأنا أحتضر ، لم أحب رجلاً عدني بألا تتخلى عني ..

قال لها وعقله ذاهب من عذاب الضمير والأسي : أقسم لك سوف أربيه وأحبه ولن يفارقني أبداً .. تمتمت وقد هدأت قليلاً وقالت : هاته لأرى ان كنت تحبه .. فذهب وأتى بالطفل ، وضعه بلطف على السرير بينهما فتوقف عن البكاء .

همست : لا تتحرك .. فهدأ بقي ممسكاً بيديه الملتهبة تلك اليد المرتعشة من الاحتضار ، كما مسك منذ لحظة يداً أخرى كانت تتقلص من رعشات الحب ، كن من حين لآخر يراقب بنظرة خاطفة عقارب الساعة وهي توشك على منتصف الليل ثم الواحدة وبعدها الثانية .

الموت :
انسحب الطبيب ، وأما الممرضتان بعدما قاما بجولة قصيرة بخطى هادئة في الغرفة ، راحتا في اغفاء على الكراسي ، والطفل نام وأغمضت أمه عينيها وكأنها ترتاح ، بغتة تسرب ضوء النهار عبر الستائر ، مدت يدها بحركة فجائية وعنيفه حتى كادت تلقي بالوليد على الأرض ، خرجت من حنجرتها حشرجة ثم هدأت على ظهرها وأسلمت الروح ، هرعت الممرضتان وأعلنت : لقد رحلت ، ألقي النظرة الأخيرة على تلك المرأة التي أحبها ، ثم إلى الساعة تشير إلى الرابعة فرو الوليد بين ذراعيه ونسا معطفه .

السؤال والقلق :
لما ترك زوجته وحيدة ، انتظرته أول الأمر في هدوء في بهو الصالة الصغيرة ، ثم حين وجدته لم يعد ، عادت إلى البهو الكبير بهيئة تنم عن الهدوء واللامبالاة ، لكنها كانت قلقة تماما ، رأتها أمها وحيدة فسألتها : أين زوجك ؟ فأجابت : في الغرفة وسيعود .. وبعد ساعة حين سألها الجميع ، أعلنت عن الرسالة وعن سحنته المضطربة وتخوفه من مصيبة وقعت .

غادر المدعوون وبقي الأهل والمقربون فقط ينتظرون ، عند منتصف الليل أوت العروس إلى فراشها وقد برجها النحيب ، وجلست أمها وعمتها حولها ، يسمعن بكاءها صامتات حزينات ، والدها ذهب إلى مفوض الشرطة للبحث عن معلومات .

العودة :
عند الخامسة حدثت حركة في الممشى ، فتح الباب ثم أغلق بهدوء ، بعد ذلك سمعت صرخة ، أقرب إلى مواء قطة ، في أركان المنزل الصامت ، نهضت كل النساء دفعة واحدة وأولهن بيرتا التي نهضت بالرغم من أمها وعمتها وقد التفّت بثياب النوم ، وقف جاك في منتصف الغرفة ، شاحباً لاهثاً وبين يديه الوليد .

الوليد :
حدجته النساء بعيون حائرة ، لكن بيرتا ، التي صارت جسورة حينها مع ان قلبها كان يعتصر من الغم ، هرعت نحوه قائلة : ما الأمر..قل ما الأمر ؟ ، بدا كالمجنون وأجابها بصوت متلعثم : القصة هي لي ولداً أمه قد توفيت للتو ، وقدم بذارعيه الطفل الباكي ..

وبدون أن تتكلم ، أمسكت بيرتا الطفل وضمته إلى صدرها ، ثم رفعت نحو زوجها عينين باكيتين قائلة : قلت إن أمه توفيت ؟.. جابها : نعم ..لوتها .. بين ذراعي ..لقد هجرتها منذ الصيف..لم أكن أعرف أي شيء عنها .. إنه الطبيب الذي استدعاني ، تمتمت بيرتا قائلة : حسنا ! نحن سنربي هذا الصغير ..

شارك المقالة:
91 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook