قصة من أطفأ الشمعة الأخيرة

الكاتب: رامي -
قصة من أطفأ الشمعة الأخيرة
لم تجيد التنظير السياسي أو الفلسفي ، مثل معظم المناضلين الفلسطينيين ، كذلك لا تستطيع أن تقرأ أو تكتب ، فهي من مواليد القرن الماضي ، ولم تتح لها فرصة الذهاب إلى الكتّاب ، فقد كان ذلك محرمًا على الفتيات في ذلك الوقت ، وفق أعراف اجتماعية صارمة .

الكُتّاب والنساء :
وكان الكتاب قاصرًا على الذكور فقط ، ثم أخذتها الحياة الزوجية المبكرة والأمومة المتكررة ، لتسع مرات متتابعة من متابعة البرامج الثقافية أو تعلم القراءة والكتابة أو التفرغ للجلسات الحوارية السياسية ، ولكنها تعرف أن البطولة والوطنية والمقاومة الفلسطينية ، للعدو الصهيوني تكون قادرة على قدر الظروف والمعطيات والملكات .

معتقلات وجدار فاصل :
وملكتها العظمى تتمثل في أمومتها التي تتسع لسكان كوكب الأرض جميعهم ، وتمتد لتحضن الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الصهيونية ، بدأت حكايتها مع أمومتها العملاقة عندما زج بابنها البكر عبدالمجيد في المعتقل الصهيوني ، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة .

ثم لحقه أخواه الأصغران ليغدو ثلاثتهم أسرى المعتقل المتوحش ، كانت تمضي أسبوعها تلاحق الجهات المسئولة والصليب الأحمر كي تحصل على تصريح زيارة لأحدهم أو لجميعهم ، وقليلاً ما كانت تحصل عليه دون تكرار رفض ومماطلة وتنكيد ومراوغة لا هي الأسباب ، ومن ثم بات من المستحيل أن تحصل على تصريح لزيارة ابنها البكر عبد المجيد الذي غلظت العقوبات عليه ومددت حبسه الانفرادي إلى الأبد .

من ثم حرمت من زيارة ابنيها الصغيران بسبب الجدار الفاصل الذي قطع الأرض بينها وبين معتقليهما ، فتباعدت الأرض بينهم على الرغم من تقاربها ، وأصبح العالم في فلسطين لايفهم إلا بمنطق باطن الجدار وظاهره .

أمًا لهم أجمعين :
ومن هذا المنطق الظالم ، وجدت نفسها أما يفصلها جدار إسمنتي أصم عن أولادها المعتقلين ، كما يفصل الجدار نفسه آلافًا من الأمهات الفلسطينيات عن أبنائهن وبناتهن في المعتقلات ، فقررت أن تكون إلى جانب المعتقلين الفلسطينيين ضدّ الجدار .

كما صممت أن تمارس أمومتها معهم ، بدأت الفكرة بتجربة ، ثم أصبحت التجربة واقعها المعيش ، في معتقل البلدة كان هناك 146 معتقلاً ومعتقلة ، وقد بات شغلها الشاغل ، أن تزورهم الواحد منهمتلو الآخر ، وأن تتعرف عليهم ، وأن تكون أمًا لهم أجمعين ، بدل من أمهاتهم المحرومات من الزيارة اللواتي لا يستطعن الوصول إليهم .

بلسم المعتقلين :
تعاطف الصليب الأحمر مع رغبتها ، وجند إمكاناته المحدودة من الوساطات والدّعم من أجل أن يساعدها على زيارة الأسير تلو الأخر ، وكانت أمومتها عونها في هذا الأمر ، كانت شمعة واحدة في حياة كثير من المعتقلين تحفظهم فردًا فردًا ، وتسأل عن أحوالهم ، وتعرف ظروفهم ، وتتابع قضاياهم وتصغي إلى شكواهم دون تذمر أو ملل وتحاول ما استطاعت أن تخفف عنهم آلامهم وقهرهم حتى باتت الأم الحقيقية لكل منهم ، وغدت زيارتها بلسم لكل معتقل ، فغدت شمعتهم الأخيرة ، والوحيدة في ظلام معتقلهم القابض على أرواحهم الثائرة ، ونالت باستحقاق لقب أم الأسرى .

المنفى الجديد :
كانت تتشفع عند الله بهذه الأمومة الغامرة ، وهذا العطاء الموصول كي يفك أسر أبنائها ، وييسر لها أمر الحج إلى بيت الله الحرام قبل أن يسترد الله روحها الأمانة ، ويختارها إلى جانبه حيث الرحمة والعدل ، وعلى غير المتوقع خرج ابنها الكبير من المعتقل وهو المحكوم مؤبد في صفقة تبادل للأسرى مع الصهاينة .

ونفي إلى بيروت تنفيذًا لبنود الصفقة حيث سيستقر هناك ، وكان أول ما عمله هو أن سعى للحصول على فرصة لكي تحج والدته ووالده ، إلى بيت الله الحرام ، وتكللت مساعيه الحثيثة بالنجاح ، وكانت تأشيرة السفر وحجز مكانين في حافلة الحج ونقود كثيرة أول ما أرسل إليها من منفاه الجديد .

رحلة الحج :
فرحت أم الأسرى بتحقق حلمها للحج  لاسيما ، مع اقتراب موعد خروج ابنيها الآخرين من المعتقل ، وأعدت العدة كي تتوجه إلى بيت الله الحرام ، برفقة زوجها ، وطوّفت لأسابيع على المعتقلين كي تودعهم ، قبل سفرها ، فحمّلوها بمحبتهم وبدعواتهم لها وبرسائلهم الشفوية ، لأمهاتهم وأسرهم إن تسنى لها في خروجها من أسر الجدار أن تقابلهم أو أن تزورهم .

التوجه لبيت الله الحرام :
عندما خرجت من بوابة الجدار العازل نحو الحرية متجهة إلى بيت الله الحرام ، تذكرت أمرًا واحدًا ، وهو الرسائل الشفوية التي حملها المعتقلون لها ، كانت هذه هي المرة الوحيدة ، التي تخرج فيها منذ سنوات من أرض عزلة الجدار ، ولعلها تكون المرة الأخيرة أيضًا قبل أن ترحل عن هذه الحياة .

قلوب أمهات الأسرى الفلسطينيين :
حدقت طويلاً في السماء الممتدة في الأفق دون قيود ، وتراءت أمامها قلوب أمهات الأسرى الفلسطينيين التي تتوق إلى أخبار عن أبنائهن المعتقلين ، وضجت في خاطرها نصوص آلاف الرسائل الشفوية موشّاة بأصوات أصحابها وبمشاعرهم وباختلاج جوارهم ، وقررت لحظة تضحية أن لا تذهب إلى الحج ، وأن تستثمر أيام حريتها خارج الجدار في تبليغ الرسائل إلى أصحابها .

صوت الرحمة والأمومة :
لم يكن من الصعب عليها أن تزجر نفسها الطامحة إلى تحقيق حلمها في زيارة بيت الله الحرام ، منحازة بذلك إلى صوت الرحمة والأمومة في داخلها ، ودّعت زوجها على تخوم الجدار وهو يقصد الحج وحده دونها ، وهو يلوح لها بثوبه الأبيض ، ويدعو لها وله بالمغفرة .

أم الأسرى :
قضت أم الأسرى أيامًا موصولة بالتّطواف في أرض وطنها ، دقّت الأبواب وفق العناوين التي يحفظها عن ظهر قلب ، حتى أوصلت الرسائل إلى أصحابها ، فما تركت أمًا إلاّ وواستها ، ولا زوجة إلا وأسرّت لها بكلام زوجها ، ولا طفلاً إلاّ وحملت له قبلات أبيه ، وحفظت قسماته بعناية واقتدار كي ترسمها في مخيال والده الذي لم يره منذ زمن .

من أطفأ الشمعة الأخيرة :
لقد قرّت نفسا بعد أن أدت الرسائل الأمانات إلى أهلها ، وها قد أزف موعد العودة إلى منزلها ، حزمت تعبها واشتياقها إلى أبنائها الأسرى ووقفت في طابور انتظار طويل كي تعبر بوابة الدخول عبر الجدار العازل ، وطال انتظارها كما طال بالموجودين جميعًا ، إمعانًا في إذلالهم والتضييق عليهم فانتبذت مكانًا قريبًا لتريح شيخوختها الثمانينية المثقلة بهموم المعتقل والمعتقلين وطال انتباذ جسدها مكانًا قصيًا ، أما روحها فكانت طائرًا أبيض طاهرًا يحلق نحو ربّه في مستقر أخير بعيدً عن شبح الجدار العازل ، بعد أن حجت بطريقتها الخاصة ، واستعدت للقاء ربها الحنان المنان .

شارك المقالة:
50 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook